الخميس 02 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العاصمة الجديدة والدهشة!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ما دامت حياتنا لا تخلو من الدهشة فنحن بخير. هذا ما يقوله الفلاسفة وهو ما توقفتُ عنده منذ عدة أيام لدى مروري على مشروعات العاصمة الإدارية الجديدة. الدهشة منبعها الشعور الذي يتجلى في الإنسان عند حدوث أمر لم يكن يصدق أنه سيحدث في يوم من الأيام أو يحدث بهذه السرعة التي تحيل إلى حالة تنبه ذهني ويقظة يتكثف فيها الحماس والتأمل فتلمع في الذهن أسئلة جوهرية ومعها مشاعر دافئة وأمل خفاق.
وربما سر تضاعف دهشتي وراءه الطفرة التي لا تخفى عن الأعين لمواقع البناء والتشييد التي تتوسع بسرعة تفوق الخيال برغم مروري المتكرر على تلك المواقع القريبة من سكني لكن في كل مرة هناك المزيد الذي يصنع الفارق. وخلال شهور قليلة ظهرت مشروعات عملاقة على أرض الواقع بالعاصمة الإدارية الجديدة في أبهى حلتها كنت أتوقع أن تستغرق سنوات عديدة ومثلت مفاجأة سعيدة لي بكل المقاييس أحببت أن أشارككم انطباعي تجاهها.
شاهدت الحي الحكومي، والبرلمان، ومجلس الشيوخ، والمدينة الرياضية الأولمبية، والمدينة الثقافية، وحي المال والأعمال، إضافة إلى مدارس وجامعات وأحياء سكنية عديدة ومتنوعة لشركات تخاطب شرائح مختلفة من فئات المجتمع، ناهيك عن الطرق ومحطات الكهرباء والمياه وشبكات الصرف والقطار الكهربائي الرابط بينها وبين مناطق القاهرة القديمة، والقطار السريع الذي يسير بمحاذاة العاصمة ويربط بين العين السخنة والعلمين وما بينهما من مدن. وبنظرة بانورامية لابد أن تجذبك هذه المشروعات التي هي أشبه بخلية نحل يقودها آلاف المهندسين ونحو مليون عامل - بدون مبالغة- تراهم على امتداد البصر في كل اتجاه؛ وتصنع مواقع العمل هذه "حالة" من الحركة الدؤوبة والإنجاز تبعث على الدهشة والغبطة والأمل!
وليس خاف على أحد أن العاصمة الإدارية الجديدة هي من أكثر المشروعات التي تتردد حولها الشائعات ومحاولات التشكيك المستمرة، من ذلك القول إن الدولة كان الأولى بها أن تستثمر وتضع هذه المليارات في إصلاح التعليم والقطاع الصحي وإنشاء مصانع جديدة.. وهي بالمناسبة شائعات لم تعد تحقق غرضها لأولئك المغرضين أو للعقول التي يستهدفونها، ببساطة لأن حجم ما يتم إنجازه على امتداد الرقعة المصرية يخرس تلك الألسن المريضة ولأن العاصمة الجديدة هي أيضا استثمار في الانسان وصحته وتعليمه وبيئته بل وأخلاقه أيضا وهي أهداف متشابكة مترابطة كلها ذات أولوية قصوى. وقبل كل ذلك وجب دحض الشائعة التي يستند عليها باقي الشائعات والتوضيح أن العاصمة الجديدة هي مشروع استثماري تماما ولا يوجد أي دعم حكومي للمشروع حيث أن المرحلة الأولى للمشروع يتراوح استثماراتها ما بين 700 إلى 800 مليار جنيه لم تكلف الدولة جنيهًا واحدًا، وكان عند بداية التفكير في هذا المشروع قدمت إحدى الشركات عرضا تحصل بموجبه على نسبة 76%، فيما تحصل الحكومة على نسبة 24 % ويتم التمويل من البنوك المصرية. وتم العدول عن هذا الاتجاه. 
الدولة حاليا موجودة نعم.. لكن في فلسفة المشروع والتخطيط السليم له وفي الإرادة القوية المصممة على إنشاء "رئات-جمع رئة" ليتنفس المصريون بشكل صحي وسليم ويخرجون من الرقعة السكنية المحدودة حول الوادي التي ضاقت بهم وعليهم بنسبة كثافة وتركز هما الأعلى في العالم مما خلق مشاكل أخرى صحية وبيئية واجتماعية وأصبحت مناطق ذات خطورة متفاقمة وعدم أمان خاصة على النشء الجديد.
وأتذكر في هذا السياق عندما زرت ماليزيا والبرازيل في بداية الألفية الجديدة وكلاهما شيد عاصمة جديدة بنفس الدوافع التي نراها الآن في الواقع المصري، وكيف كان خيالي يسرح ويحلم بالمثل لمصر وذلك خلال الجولات في عاصمة ماليزيا الجديدة بوتراجاي (Putrajaya)‏، التي انتقلت إليها الحكومة من كوالالمبور وعلى بعد خمسين كيلومترا منها، وفي مدينة برازيليا عاصمة جمهورية البرازيل الجديدة التي ورثت "ريودي جانيرو" التي ظلت عاصمة للبلاد لمدة 125 عاما واكتظت واختنقت وأصبحت بعض أحيائها وكرا للجريمة والمافيا! ولا أنسى ما ذكره مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق وباني نهضتها الحديثة (1981-2003) حول المشروعات العملاقة التي خطط لها ونفذها وكيف صاحبها جدل واسع وواجهت التشويه والتشكيك والشائعات وأنه عندما جلس في مكتبه الواقع بأحد برجي بتروناس التوأم، في الدور الـ 32 بعد أن ترك الوزارة، أصبح ينظر لتلك التحديات التي كان يواجهها من نفس العلو الذي يجلس فيه حاليا فتظهر صغيرة تافهة وكأنها لا تذكر مقارنة بما تم إنجازه. وقال أيضا إنه عندما راجع الكتب التي تتحدث عن المشروعات القومية في الأوطان النامية التي تنقل شعوبها قفزات إلى الأمام نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، وجد أنها عادة ما تتعرض للهجوم والنقد (الداخلي والخارجي) ويغلب على النقد أنه مغرض وغير موضوعي عند مرحلة طرح تلك المشروعات وخلال مراحل تنفيذها. لكنها تصبح علامات فارقة و"أيقونات" للتقدم والرقي عند تنفيذها وبعدما أن تدرك تدرك الأجيال اللاحقة الأثر الذي تركته مثل هذه المشروعات على أوضاعها وكيف غيرتها نحو الأفضل. ولم يفت مهاتير أن أعطى مثالين، واحدا من بلده ماليزيا وآخر من مصر التي كان يعشقها ويستلهم منها العديد من الأفكار والأحلام لشعبه. أما الأول فهو العاصمة الجديدة بوتراجاي وكيف ردم مستنقع المياه الراكدة الذي كان مصدرا للتلوث والأمراض لشعبه وحوله إلى عاصمة حديثة وصديقة للبيئة والإنسان ومحتضنة للتكنولوجيا والعلوم والطاقة والنقل الحديث في كل مشروعاتها. أما الثاني فهو بناء السد العالي في القرن العشرين في مصر، وما واجهه من تحديات وهجوم ونقد وكيف أصبح علامة فارقة في تاريخ التطور الحضاري لمصر بعد سنوات من إنشائه، بل وعلامة للشعوب الساعية للنهوض والتقدم ومحفزا لها على عدم وجود مستحيل أمام تخطيها الصعاب نحو المستقبل طالما توفرت الإرادة لذلك.
إذن، فلنهنأ بمشروعاتنا ونفخر بها ولا نعير أي اهتمام لهجوم أوتشويه لأن ذلك ليس بالأمر الجديد وواجهته دول أخرى أيضا، وهو يعبر عن تفكير سلبي مزمن، أو مكايدة وغل يعكسان عجزا لدى الخصوم والأعداء غاب عنهم الحرص على المصلحة القومية من منظور وطني استراتيجي.. 
وما يزال هناك ما يمكن أن يدهشنا ويجعلنا دائما بخير طالما هناك أدمغة وسواعد مصرية من سلالة الفراعنة قادرة على التميز والإبداع والإبهار!