عقد المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، اليوم الخميس، ندوة موسعة بعنوان: "من أين يأتى المال العام فى مصر؟ وفيم تنفق؟ إلى أى مدى تتبع مصر القواعد الدولية وتقتدى بالتجارب الناجحة"، بحضور نخبة متميزة من الخبراء والمتخصصين وأعضاء مجلس النواب.
وقال عمر مهنا رئيس مجلس إدارة المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، إن الموازنة العامة تعد أهم وثيقة تصدرها الدولة لأنها كاشفة عن أولويات الحكومة قصيرة الأجل وآلياتها لتحقيقها، وبالتالى فهى تؤثر فى الاقتصاد ككل من خلال قدرة الدولة على تحويل خططها لواقع ملموس.
وعرض فريق بحثى من المركز أحدث ورقة عمل أعدها بعنوان: "الإعداد السليم للموازنة العامة كمحرك للتغيير تحليل تفصيلي مقارن في ضوء أفضل المعايير والممارسات الدولية"، وتسعى هذه الورقة إلى دراسة مدى سلامة إدارة الموازنة العامة، والتي تعد—إذا ما تم إعدادها بشكل صحيح— محركا أساسيا من محركات التغيير في مصر، والتى رصدت عددا كبيرا من الإشكاليات فى إعداد الموازنة العامة.
وأشارت الدراسة إلى وجود عدد من أوجه القصور في تطبيق المبادئ الدولية الستة الأساسية (الشمول والشفافية والواقعية والاتساق والترابط والمساءلة) الصادرة عن صندوق النقد الدولي في الموازنة المصرية، ومنها على سبيل المثال، الإخلال بمبدأ الشمول لوجود الكثير من الكيانات من صناديق وهيئات اقتصادية خارج الموازنة العامة للدولة.
كما أن عدم ظهور الاحتياطات والضمانات بشكل واضح يسهل فهمه في الموازنة قد أضر بمبدأ الشفافية، كما تعاني الموازنة المصرية من ضعف واقعيتها؛ حيث لوحظ عدم التغير في مخصصات العديد من بنودها.
وقالت الدكتورة عبلة عبد اللطيف المدير التنفيذى ومدير البحوث بالمركز المصرى للدراسات الاقتصادية، إن الموازنة المصرية تعانى العديد من المشكلات وفق ما أظهره التحليل، وهناك ضرورة للالتزام بالمواد 124 و125 من الدستور المصرى بشأن إعداد الموازنة، بالإضافة إلى ضرورة الاهتمام بالتنمية البشرية وتفعيل النصوص الدستورية الخاصة بالإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمى.
وطالبت عبد اللطيف بضرورة تفعيل اللامركزية فى إعداد الموازنة العامة ووجود موازنة برامج حقيقية قابلة للتطبيق، لتفعيل المشاركة المجتمعية الحقيقية فى إعداد الموازنة العامة، وقالت أن هناك جهود تبذل بالفعل فى هذا السياق ولكننا فى حاجة إلى المزي من الجهود بشكل شامل.
من جانبه قال هانى توفيق رئيس مجلس إدارة المستثمرون الدوليون، إن الموازنة المصرية تفتقد إلى القراءة الاقتصادية، وأشاد بزيادة الإنفاق الاستثمارى للحكومة خلال الفترة الماضية، ولكنه اختلف مع أولويات هذ الإنفاق الذى كان يجب أن يوجه إلى الاستثمار فى أصول منتجة وليس بنية تحتية.
ولفت توفيق إلى 4 ظواهر سلبية تتعلق بوجود أعلى سعر فائدة حقيقى فى مصر، وأعلى عجز موازنة نسبة إلى الناتج المحلى الإجمالى، وأعلى نسبة قروض للناتج المحلى الإجمالى فى دولة ناشئة، بالإضافة إلى الارتفاع الكبير فى معدل التضخم المرشح للزيادة نتيجة ارتفاع الأسعار العالمية، وهو ما يتطلب إعادة النظر فى الموازنة وضرورة التعامل معها بطريقة غير تقليدية. وانتقد عدم واقعية الموازنة حيث تتضمن تقديرات غير واقعية لأسعار البترول والقمح والدولار، متسائلا عن قيام الحكومة بعمل تحوط ضد ارتفاع أسعار البترول أم لا.
وأشار إلى أن الموازنة أصبحت موازنة حكومة وليس موازنة دولة، لتعدد الجهات خارج الموازنة، مشددا على ضرورة النظرة الاقتصادية للموازنة، خاصة وأن العام المقبل صعب جدا ليس على الاقتصاد المصرى فقط ولكن على الاقتصاد العالمى، نتيجة التطورات المتسارعة.
وقال عمرو المنير نائب وزير المالية للسياسات الضريبية سابقا، أن الموازنة تفتقد إلى الواقعية فى تقديراتها، مدللا على قوله بأن موازنة السنة المالية الماضية 2020/2021 تم تقدير إيرادات ضريبية بقيمة 964 مليار جنيه، فى عام الكورونا، رغم أن الإيرادات الضريبية المحققة فى العام السابق عليه 2019/2020 بلغت 739 مليار جنيه، وحتى الآن لم يتم إعلان الحصيلة الضريبية المحققة فى العام المالى السابق ولكن مجرد توقعات بأن تصل الحصيلة إلى 930 مليار جنيه، ورغم ذلك تم تقدير الضرائب المتوقعة فى موازنة السنة المالية المقبلة بنحو980 مليار جنيه، لافتا إلى أن الأرقام المطلقة ليس لها معنى، وإنما يجب أن ترتبط التقديرات بنسبة من الناتج المحلى الإجمالى.
ودعا المنير إلى إجراء إصلاحات ضريبية تتضمن إنشاء هيئة مستقلة للضرائب تتضمن أهم الخبرات فى هذا المجال لوضع السياسات الضريبية بشكل منفصل عن التنفيذ، مع تحقيق الميكنة وخاصة الفواتير الالكترونية والمدفوعات غير النقدية، وتخفيف سرية الحسابات البنكية وهو توجه عالمى، بالإضافة إلى تبسيط الإجراءات، مضيفا أنه وفقا لتوصيات صندوق النقد الدولى فإن وثائق الموازنة العامة يجب أن تتضمن تقريرا بالنفقات الضريبية وهى عبارة عن تكلفة الإعفاءات الضريبية بأنواعها المختلفة، واحتساب العائد الاقتصادى من هذه الإعفاءات مقابل تكلفة الضرائب.
وعلقت الدكتورة مها عبد الناصر عضو مجلس النواب، أن الموازنة ليس مجرد أرقام ولكنها تعكس انحيازات الدولة، لافتة إلى أن الموازنة الحالية لا تعبر عن الدولة فى ظل وجود كافة الهيئات الاقتصادية خارج الموازنة، وهو ما يتنافى مع مبدأ الشمول، مطالبة بضرورة وجود موازنة واحدة للدولة تضم كل النفقات والإيرادات وحجم الدين الحقيقى، لأنه لا يوجد رقم حقيقى للدين الإجمالى على كافة الجهات بما فيها الهيئات الاقتصادية، لأنها تحصل على القروض فى النهاية بضمان وزارة المالية.
وأشارت عبد الناصر إلى أن الإنفاق على التعليم والصحة من أهم بنود الإنفاق الذى يجب أن تزيد لأننا لا نحقق النسب الدستورية فى الإنفاق على التعليم والصحة، وهى بالأساس نسب منخفضة وغير مقبول استمرارها لأنه إنفاق لا يوفى بأى احتياجات، وهو ما انعكس فى الصور المتداولة لعدم وجود مقاعد للطلبة فى الفصول وتكدس الطلبة فى المدارس، وهو ما يجب النظر إليه بطريقة مختلفة لأن الطريق لتحقيق التنمية المستدامة هو الاستثمار فى البشر.
وعلقت الدكتورة عبلة عبد اللطيف الأصل فى الأمور ليس تدبير الاستحاق الدستورى للإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمى كأنه عبء، ولكن الأصل فى النص على هذه النسب فى دستور 2014 لكونها دليل للعمل على التنمية البشرية بما يخدم التنمية الاقتصادية، وليس العبرة هنا بتدبير الاحتياجات، لأن الهدف هو أن نحدد أين نحن وأين نريد أن نكون، وتكون الموازنة ترجمة لتحقيق هذه الأهداف، وهو ما اتفق معه الدكتور محمد غنيم أحد رواد زراعة الكلى فى العالم ومدير أول مركز متخصص لزراعة الكلى فى الشرق الأوسط بمدينة المنصورة - أحد المشاركين فى كتابة الدستور المصرى – على أهمية الإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمى لأنه عند وضع هذه النسب فى الدستور كان الأساس أن تكون بداية تزيد سنويا لتلبية الاحتياجات الكبيرة لهذه لقطاعات الحيوية التى تشكل حجر الزاوية فى التنمية البشرية وتحقيق نهضة الأمم وخدمة أهداف التنمية الاقتصادية.
وردا على الاستفسارات حول كيفية تطبيق الضرائب على الاقتصاد الرقمى ومدى استعداد النظام الضريبى المصرى لهذه التغيرات، قال عمرو المنير أن البيان الصادر عن مجموعة السبع ومنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية مؤخرا، جاء نتيجة المشكلات التى تسبب فيها الإجراءات الإحادية من الدول للتعامل مع الاقتصاد الرقمى.
وأوضح المنير، أن الاقتصاد الرقمى قائم على معاملات تتم بين الدول، حيث تتحقق الإيرادات لدى الشركة فى مقرها الرئيسى ومعظم الشركات الكبرى تقع مقراتها فى أمريكا، وبالتالى أين نصيب الدول فى الإيرادات التى تتحقق من القيمة المضافة على أرضها، فكيف تستطيع دولة مثل مصر التحقق من الإيرادات، ونتيجة المشكلات التى تسببت فيها الإجراءات الأحادية التى قامت بها بعض الدول، كان يجب وجود اتفاق دولى حول كيفية حصول الدول على حقها فى الضرائب من القيمة المضافة المتحققة على أرضها من أنشطة الاقتصاد الرقمى، لذا تم التوافق على أنه من حق كل دولة فرض ضريبة لا تقل عن 15%، وهذا ليس اتفاق ملزم للدول، وسيبدأ التطبيق عام 2023.
وحتى تنجح وزارة المالية ومصلحة الضرائب فى التعامل مع هذا الملف، طالب المنير بأهمية تحليل نماذج أعمال الشركات الرقمية مثل أوبر، وتوصيف طبيعة نشاط الشركات وتوصيف الضريبة التى يجب الخضوع لها، وتحديد مكان خلق القيمة، ودراسة تأثير الضريبة على الاقتصاد الرقمى، مشددا على أهمية تدريب الكوادر فى مصلحة الضرائب على التطبيق، وتنشيط تبادل المعلومات مع الدول الأخرى، لأن طريقة الاقتصاد الرقمى قائمة على التعاون بين الدول وليس على إجراءات أحادية.
وتعليقا على الجدل حول تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية على البورصة، قال المنير، أن ضريبة الدمغة عندما فرضت كان ذلك لأسباب معينة وهى ليست الأكثر عدالة، ويجب أن كل ما يحقق إيراد فى مصر يخضع للضريبة فى مصر، ولا يجب أن يزيد حجم الإعفاءات الضريبية، معربا عن اعتراضه على إعفاء غير المقيمين من ضريبة الأرباح الرأسمالية على البورصة، وهو ما يمكن أن يفتح الباب للتهرب الضريبى، مشددا على أن ضريبة الأرباح الرأسمالية يجب أن تطبق بطريقة عادلة، وهو ليس مجرد قانون، وإنما يجب أن يتضمن آليات واضحة لكيفية حساب الأرباح، وعدم التفرقة بين المقيم وغير المقيم وهذا غير موجود فى العالم كله.