واجهت مصر في السنوات الماضية تحديات في منتهى الصعوبة لإعادة البلاد إلى قواعدها سالمة بعد 2011، وكان أهم هدف ومكسب هو توفير الأمان وقد شعر المصريون بأهميته عندما افتقدوه.. ثم اتجهت جهود الحكومة والدولة ككل إلى إنشاء البنية الأساسية من مشروعات الطرق والكباري وتحديث وسائل المواصلات باعتبارها أساس عمليات البناء والتوسع العمراني والجغرافي والدافع أيضا لتحفيز النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل.
ورغم ان تلك الإنجازات على أرض الواقع مدهشة ولا تخطئها عين إلا أنه يمكن وصفها بأنها "جهاد صغير" مقارنة بما بدأت فيه في المرحلة الحالية وهي مرحلة يمكن أن نسميها "الكرامة" تحتاج "جهادا أكبر" لتطوير وعي المواطنين وتغيير جودة حياتهم وتوفير ما يحفظ كرامتهم بتنفيذ حزمة من السياسات تصب في المفهوم الشامل لحقوق الإنسان.
ويتضح هذا التوجه في عمل الحكومة وكافة أجهزة الدولة من خلال برامج ومشروعات يجمع بينها رابط شديد الأهمية وهو الكرامة الإنسانية للمواطن التي يستشعرها عندما يجد سبل العيش ميسرة له ومسكنا لائقا به وعلاجا متوفرا للمرضى وفرصا لتعليم الأبناء ووسائل مواصلات آدمية للانتقال.
وهناك مجموعة من برامج الحماية والرعاية والتنمية الاجتماعية التي صُممت لتخدم هذه الأهداف وتحقق الكرامة للمصريين، رُصدت لها مبالغ تقارب العشرين مليارا من الجنيهات، في مقدمتها برنامج تكافل وكرامة الذي يقدم دعما نقديا شهريا "معاش تكافل" لأكثر من مليوني أسرة فقيرة بجميع المحافظات الـ27 في 5630 قرية وعزب ونجع في 345 مركزًا إداريًا، مع الاستهداف الجغرافي لمحافظات الصعيد بنسبة تصل لـ 67% لارتفاع معدلات الفقر بها.
كما نجحت الدولة في استهداف فئات بعينها داخل الأسرة في معاش تكافل، مثل الاستهداف الفئوي للنساء، إذ تبلغ نسبة المستفيدات من النساء 90% من الإجمالي. كما نجحت في جعله يستهدف فئة الأبناء بتفعيل شرط الاستحقاق من خلال ربطه برعاية الأبناء الصحية وإعطائهم تطعيماتهم في مواعيدها وإلحاق من هم فى سن التعليم برياض الأطفال والمدارس والذى يعد شرطا أساسيا للحصول على الدعم، وهناك 46 % من المستفيدين هم أطفال تحت سن 18عاما. كما تم إضافة عدم الزواج المبكر كشرط آخر فى منتصف العام الحالي لحماية الفتيات من التسرب من التعليم والإنجاب المبكر وتداعياته على صحتهن.
وينتظر استكمال المشروطية في هذا البرنامج متمثلة في شرط رفع الأمية عن المستفيدات من معاش تكافل حتى يتسنى لهن المزيد من رفع الوعي وبالتالي القدرة على مواجهة مشاكل مازالت مستعصية برغم حملات التوعية من الدولة مثل الزيادة السكانية والوقاية من الأمراض. كما نجحت الدولة في الاستهداف الفئوي للمسنين والأشخاص ذوي الإعاقة من خلال الدعم النقدي "معاش كرامة"، وذلك بقصد توفير الرعاية والكرامة لهذه الفئات الضعيفة التي تحتاج أكثر من غيرها للدعم والحماية. وهناك 12 % من المستفيدين هم من كبار السن و26 % هم من ذوى الإعاقة.
وفي نفس السياق عملت الدولة من خلال وزارة التضامن أيضا على مكون التمكين الاقتصادي عبر مجموعة من البرامج الهادفة لتوفير فرص عمل وتأهيل تلك الفئات الأكثر احتياجا للانخراط في سوق العمل مثل برنامج "فرصة" للتدريب والتأهيل و"مستورة" لإقراض النساء متناهي الصغر، وغيرها من البرامج والمبادرات التي تصب في جوهرها في مفهوم الكرامة الإنسانية.
وفي إطار هذا المفهوم تم إطلاق المبادرة الرئاسية حياة كريمة والتي تهدف إلى إعادة بناء المنازل ومد شبكات المياه والصرف الصحي رفع كفاءة البنية التحتية وتحسين المرافق ومستوى الخدمات لأكثر من ١٨ مليون مواطن في المرحلة الأولى للمشروع يستفيد منه الأهالي الأكثر احتياجا فى حوالي ١٥٠٠ قرية موزعين على ٥٢ مركز على مستوى الجمهورية. وقد تجاوزت المخصصات المالية للمشروع 700 مليار جنيه، وسوف تساهم في إحداث نقلة نوعية في حياة المواطنين بقرى الريف المصري بما يضاهى مستوى الحياة والخدمات في المدن.
بالإضافة لكل ذلك، تم إطلاق مبادرة فريدة من نوعها وهي مبادرة 100 مليون صحة للتعامل مع معضلة غياب الوعي الصحي أو قصوره مع قلة الخدمات الطبية في الريف وتركزها في المدن. وقدمت القوافل لحد الآن خدمات لـ17 مليون سيدة، بدءًا من عمر 18 سنة، حيث يتم قياس السمنة والسكر والضغط والتوعية حول الصحة الإنجابية ومخاطر سرطان الثدي. وتم الكشف على 10 ملايين سيدة عن سرطان الثدي، من عمر 35 سنة ومن لديهن معاملات خطورة في أقل من هذه الفئة العمرية، وتم تشخيص نحو 4100 سيدة مصابة بالمرض.
تلك نبذة عن حزمة من السياسات تنفذها الدولة بمفهوم يحتضن معنى الكرامة الإنسانية التي كانت إحدى مطالبات ثورة يناير مع العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. والكرامة رغم أنها وردت في الكثير من المواثيق الدولية ودساتير الدول إلا أنها ليست أمرا بديهيا حتى مع أفضل الإدارات في العالم.
وأن نشهد تنفيذ هذه الحقوق على أرض الواقع في مصر فهذا يعني أن هناك إرادة سياسية مترجمة إلى سياسات مصحوبة بمعنى راق يعكس وعيا حقيقيا وليس زائفا وهو معنى الاحترام للمواطن والحرص على كرامته والاستثمار في تنمية وعيه ورفع مستواه بما يستحقه ويدفع بتقدمه وتقدم الوطن ككل.. وهي ملامح ومفاهيم جديدة للحكم والقيادة في هذه المرحلة وكان من الضروري التوقف عندها!
olfa@aucegypt.edu