أكد الأديب الكبير توفيق الحكيم، أنه ليس من السهل وضع إجابة في عبارة محددة حول الأسئلة المتعلقة بمعاني الخلق الأدبي أو طبيعة الابتكار الأدبي، مثل: ما هو الابتكار الأدبي؟
الحكيم، الذي تحل ذكرى ميلاده اليوم السبت، قال إن الخلق ليس معناه أن تخرج من العدم وجودًا، إنما الخلق في الأدب والفن، وربما في كل شيء، هو أن تنفخ روحًا في مادة موجودة، كذلك صنع أعظم الخالقين يوم أوجد آدم، فهو تعالى لم يمد يده العلوية إلى الفضاء قائلا: كن. فكان. ولكنه مد يده أولا إلى الطين فسوى منه ذلك المخلوق الحي. لا شيء إذن يخرج من لا شيء، كل شيء يخرج من كل شيء، ذلك هو الدرس الأول في الخلق، أُريد لنا أن نتلقاه عن الخالق الأكبر.
وحديث "الحكيم" في كتابه "فن الأدب" حول الابتكار الأدبي استهله بالكلام عن درس الخالق الأكبر، وهو أن "كل شيء يخرج من كل شيء"، في إشارة لاعتماد الأدب والفنون على مصادر سابقه يستفيد منها الأديب، ويعيد التعامل معها ليخرج منها أنفس وأثمن الأشياء، وليس الإبداع هو التطرق لموضوعات لم يسبق إليها أحد، أو موضوعات غريبة، إنما الإبداع هو طرق الموضوعات المألوفة ولكن دخولها بطريقة تبهر الناس وكأنه تُفتح لأول مرة.
يقول الحكيم: ليس الابتكار في الأدب والفن أن تطرق موضوعًا لم يسبقك إليه سابق، ولا أن تعثر على فكرة لم تأت على بال غيرك.. إنما الابتكار الأدبي والفني، هو أن تتناول الفكرة التي قد تكون مألوفة للناس فتسكب فيها من أدبك وفنك ما يجعلها تنقلب خلقًا جديدًا يُبهر العين ويُدهش العقل.
ويوضح الحكيم أن "الفن ليس في الهيكل إنما هو في الثوب، والفن هو الثوب الجديد الذي يُلبسه الفنان للهيكل القديم، إنه الكسوة المتجددة لكعبة لا تتغير".
ويعتقد الحكيم أن الابتكار لا شأن له بفكرة جديدة أو قديمة، غريبة أو مألوفة، ولا بالموضوع الطريف أو المطروق، إنما الابتكار الفني في تقدير الحكيم هو أن يكون الأديب نفسه، يحقق نفسه ويظهر صوته ونبرته، ضاربًا المثل بـ"شخصية الإنسان" التي هي أعظم معجزة في الكون للخالق الأعظم، فملايين البشر تتوالد وتتعاقب فلا تطابق شخصية منها شخصية أخرى تمام الانطباق، وفي الأجسام والمشاعر والعقلية والروح والذوق والطبع، كل شخص يظهر في الأرض جديد جدة تنبثق وتختفي معه أبد الآبدين، فالإنسان هو الإنسان، ولكنه في كل مرة يولد جديدا.
ويشدد "الحكيم" على أهمية مرحلة الطفولة، لأن الإنسان يولد بنوع من الجدة في المشاعر والعقل والروح والإحساس لو ظلت تلازمنا لرأينا بها العجب وفق رؤيته، لكن ما أضاع منا هذه اللمسة السحرية التي نولد بها هو تلقف الكبار لنا من أجل قيادتنا وتلقيننا، فلا نبصر الأشياء إلا بأعينهم، ولا نسميها إلا بما وضعوا لها من الأسماء، وما أضفوا عليها من صفات وسمات. مستشهدا بأحد الأقوال التي تقول "من استطاع أن يبقى طفلا فقد استطاع أن يصير شاعرا"
ويرى "الحكيم" أن شخصية الفنان أو الأديب يظل يبحث عن ذاته وشخصيته إلى أن يجدها، فإذا هي تملكه بعد ذلك إلى الأبد وتطبع كل ما يلمسه بذلك الطابع الذي لا يزول ولا يتحول وإذا هو يعرف بطابعه، محذرا في القوت نفسه من طغيان "شخصية شديدة" على ذات الفنان والأديب، فمن الصواب أن يظل الفنان يدور حول "نواة" غيره طالبًا الانفصال عنها والاستقلال بذاته، فإذا انفصل واستقل دار حول ذاته وسيطرت عليه شخصيته، ليظهر بعد ذلك أسلوبه الخاص وروحه الفنية الخالصة المميزة.