رغم مرور 48 عاما على حرب أكتوبر المجيدة، تستمر الاحتفالات المصرية والقوات المسلحة بذكرى الانتصارات المجيدة وتعريف الشباب بأمجاد وبطولات أبناء مصر وتضحياتهم فداء لعزة الوطن وكرامته، لم يكن الجندي على الجبهة فقط من يحارب الأعداء ولكن هناك يد أخرى تحارب بطريقة مختلفة وهي البطولات النسائية التي قهرت الآلة الإسرائيلية حيث يبرز دور التمريض النسائي في حرب أكتوبر، فلا يمكن أن تغيب عن أعيننا المرأة المصرية وتضحياتها في خدمة مصر من قلب المعركة التي توضح المعدن المصري الأصيل الذي يظهر في الأزمات.
روت العميد زينب فهمي أحمد، مدير فرع التمريض بإدارة الخدمات الطبية حتى ١٩٩١ قبل أن تحال إلى المعاش، أن اللحظات الحرجة التي عشتها مع ذكريات الحرب وفرحة النصر كبيرة، خاصة أنني متزوجة من قبطان بحري، ولدينا أربع بنات وولدان، وكان دوري كزوجة لقبطان بحري عمله صعب وحياته ترحال وتنقلا، لكن الله عوضني في فترة الحرب، وكنت على الرغم من ذلك متفرغة للعمل في مستشفى المعادي العسكري للقوات المسلحة فكنت أترك منزلي من الساعة الثانية أو الثالثة صباحا، وربما لا أعود لعدة أيام"، وتتذكر أنها قابلت الوزراء والقادة وكثيرًا من الفنانين الذين كانوا يأتون لزيارة الجرحى والشد على أيديهم ودور جيهان السادات التي كانت تحرص باستمرار على زيارة المصابين.
وقالت في تصريحات سابقة: «كنا نقوم بزيارات ميدانية، حيث يتكون مستشفى ميداني يضم معظم التخصصات للإسعاف السريع للجنود المقاتلين، وكنا نري أهالي القري على الضفة الغربية للقناة يقدمون الفطير والجبن والخضراوات للمقاتلين والمصابين، وتصف شعورها بعد الحروب التي رأينا آثارها وعشنا ويلاتها لا نملك إلا أن نشعر بالفخر لمن ضحوا من أجل أن نرى التنمية في بلادنا الحبيبة ونقطف ثمار النصر فما كان هناك كهرباء ولا مياه حتى في القاهرة ومدن الجيزة ومساكن تبني وكانت أزمات المواد الأساسية مستمرة فكل الجهود كانت موجهة للمعركة».
أما العميد ليلي عبدالمولى مجاهد، الحاصلة على دكتوراة إدارة تمريض ومستشفيات، تحكي ما حدث في ليلة السادس من أكتوبر، قائلة: «كنت وقت الحرب أعمل في مستشفى غمرة العسكري وكان عمري وقتها ٢٣ سنة، ولم أكن تزوجت بعد وكان المستشفى مخصص في الأساس للعائلات والأسر لتأمين أهل الضباط حتى يشعروا بالأمان على أهلهم، وكانت من أواخر المستشفيات التي تم تحويلها أثناء العمليات الحربية لاستقبال الجرحى، قبل ذلك كانت هناك حالات بسيطة طوارئ، ولكن منذ ليل الخامس من أكتوبر بدأت أشعر باستعدادات إضافية في المستشفى لم أعرف سببها إلا في اليوم الثاني عندما عرفنا بالعبور العظيم. وبدأنا بعدها في استقبال الحالات، كانت أياما صعبة جدا لكن كان هناك تحد، وكان لدي الجميع حماس منقطع النظير لاسترداد الأرض والكرامة سواء على الجبهة من المقاتلين الأبطال أو على الجبهة الداخلية كنا نريد أن نشعرهم أن وراءهم أسرًا قوية كمدنيين وعسكريين كان الحماس شاملًا».
وأضافت: «كانت كل الجهود موجهة للمعركة، فلم تكن هناك خطوط نقل، ولم نكن نشعر بالساعات، والأيام تمر دون أن نذهب لبيوتنا، فكان كل فرد يقدم أقصى ما عنده. وإذا ذهبنا للمنزل يكون لأخذ حمام وتغيير الملابس والنوم ساعتين ثم العودة فورا، وكان الجيران ينتظرونني في الشرفات ليعرفوا مني أخبار المعركة ويدعون لي بالتوفيق وللجنود بالنصر».
وذكرت أن الجنود والضباط الجرحى كانت معنوياتهم عالية وكانوا يقولون «امتى نرجع تانى للجبهة» على الرغم أننا على علم أن لديه عجز كلى، ولا يصلح للعودة للحرب مرة أخرى، ولكنه على أمل أن يتعافى ويعود مرة ثانية للجبهة، مشيرة إلى أن الجنود لم يسألوا مرة على أهلهم أو أى شىء لم يقل أحد أنا تركت أمى أو أولادى، ولكن اهتمامهم الأول الدفاع عن مصر وكيفية رجوع أرضها التى اغتصبت منها.
أما عن الحالات التى كانت في مستشفى غمرة العسكرى، فقالت: «كانت إصابات متعددة وكثيرة منها جروح وكسور وحروق وطلقات نار، وجاء أناس لنا محروقين بالنابالم، وكان يأتى لنا جثث متفحمة، وجنود فقدوا أعينهم أو أيديهم أو أرجلهم»، مشيرة إلى أن المستشفيات الميدانية الموجودة على الجبهة كانت تعمل على فرز الحالات ثم تحول هذه الحالات على المستشفيات الداخلية ثم تعيد المستشفى العملية العلاجية من جديد، لأنه غالبا ما يأتي المصاب بإسعافات أولية فقط.
وتابعت أن الإحساس بالمسئولية والدور الشعبي مدلول كاف أن هذه روح أكتوبر، وعن أصعب المواقف التي كانت تؤثر فيها كانت للمدنيين الذين يصيبهم العدو دون ذنب خاصة في الدفرسوار فعادة الإسرائيليين استخدام أسلحة ممنوعة والاعتداء على المدنيين، لكن في حرب أكتوبر اندمج الشعب مع الجنود، حتى الرتب من الضباط كان الجميع فردًا واحدًا أسرة كبيرة تشعر بقيمة ما تؤديه من واجب وهناك مواقف عديدة ولكن أكثر ما أثر فيها أيام الحرب ولم تنساه أبدا، حيث كان هناك جندي مسئول عن فك الجبس للمصابين. ففي المستشفى الميداني المتقدم يتم عمل الإسعافات الأولية للمصابين بتجبيس الجزء المصاب للحفاظ عليه حتى يصل إلى المستشفيات المركزية، كان الجندي مرهقًا جدا من عدم النوم والمجهود الزائد، وأثناء قيامه بفك جبس من قدم ضابط سقط الجندي مغشيا عليه في الأرض، فما كان من الضابط إلا أن تحامل على نفسه وقام ووضع الجندي على سريره وأخذ في إفاقته وعندما دخلت ورأيت المصاب هو الذي يسعف الجندي وأعطاه العصير المخصص له تعجبت لماذا لم يناد علينا فقال «أعلم أن معكم عملًا كثيرًا» هذه هي روح الإيثار والتضحية وكأننا شخص واحد في عدة صور حتى الطبيب المسئول عن التغذية ومراقبة الطعام كان يدور بنفسه على المصابين ويقدم لهم الصينية.
ولفتت إلى أن الجنود لم يهتموا بإصابتهم حتى ولو كانت خطيرة، وكان كل ما يهمهم أن يؤدوا الواجب المطلوب منهم تجاه وطنهم، ويدافعوا بروحهم وحياتهم فداء للقوات المسلحة، لم أر مثل هذه الروح العالية فمن فقد عينه يقول «فدى مصر»، ومن فقد يده وقدم يردد «كله فدي مصر» ومن أصيب بحروق.
وكان الجميع يروي أدوار وبطولات الآخرين ويتفاخرون بالتضحية فداء لمصر، وكل المصابين في المستشفي يروون لنا مدى تضحيته حيث خرج من مخبئه وتقدم الجنود لكي يفجر الخبيئة ويفديهم بروحه ونفسه ولم يرض أن يتقدم أحد قبله، تؤكدة أن المرأة تلعب دائما دورا مهما في القوات المسلحة في شتى المجالات سواء في الخدمات الطبية التي تكمل دور المحارب وتسانده أو في إطار الأسرة التي تحمي وترعى أبناء الوطن.
من الجدير بالذكر كرمتها جيهان السادس بعد حرب أكتوبر كأم مثالية للقوات المسلحة في عام ١٩٧٦ إضافة إلى الهلال الأحمر الذي كان يؤدي دورا كبيرا.
نماذج عظيمة
هناك العديد من الرموز النسائية التي لاينسى دورها في حرب أكتوبر، ومن ضمن هذه الرموز التي تعتبر من أولى السيدات التي شاركن في الحرب، «إصلاح محمد- ممرضة»، أثناء الحرب كانت تعمل ٢٤ ساعة يوميا أثناء المعارك وبعدها بمستشفى السويس الميداني برفقة ما يقرب من ٧٨ ممرضة و٢٠ طبيبا، فكانوا يعملون أوقات القصف المستمر، وكنا نتبرع بدمائنا للجرحى لدعم الجبهة حيث تقل الامدادات، موضحة لم نكن نخشى شيئا.
ووصفت «إصلاح» أنها كانت تعمل بجدّية وتقوم بدور عظيم داخل المستشفى في تضميد جروح المرضى من الجنود والمدنيين وعلاجهم، وكانت دائمة الحماس وحب العمل لذلك كان لها دور عظيم في شفاء الكثير، ومن ضمن أوجه المعاناة التي كانت تتعرض لها الطبيبات في وقت الحرب هي ندرة المياه في تلك الظروف القاسية، فكانوا يقومون بتقسيم «جركن مياه» على عدد ضخم من العاملين في المستشفى، وكان كل فرد يأخذ ٥٠٠ سم مياه فقط طوال اليوم.
أما نقيبة تمريض السويس، «سيدة مبارك»، فذكرت أنها كانت تعمل أيضا في مستشفى السويس من أجل تضميد جروح مصابي الحرب، وكانت وقتها محاطة بسور مبني من الطوب الأحمر، إلا أن الممرضات والطبيبات كن يعملن ٢٤ ساعة، تحملت سيدة ظروفًا قاسية وقت الحرب، حيث ظلت ٣ أشهر كاملة لم تخرج من المستشفى وتعمل أسفل القصف بين الجيش المصري وقوات الاحتلال الإسرائيلي، وكانت تداوم على التحدث مع المصابين من أجل معرفة أخبار الحرب وتقدم الجيش المصري.