خلق الله الموت ليعلمنا منه معنى الحياة، كيف نتآلف ونحب بعضنا ونشعر قيمة كل منا لدى الآخر، نتعلم رقى المشاعر ورقتها.. وقد وصف الله الموت بالمصيبة لأنه يجلجل كيان المحيطين، وخاصة موت الفجأة، والذى لولا الإيمان بالله عز وجل وإدراكنا لمعنى (إنا لله وإنا إليه راجعون) لذهب العقل!..ولكن دائما وسط هذه المعاناة تظهر ومضات نور يجب أن نقف عندها ونرصدها، أهمها التفاف الأهل واحتضان بعضهم البعض، وعودة أصدقاء أبعدتهم الأيام وقسوتها، والإحساس بأصحاب الحاجات والمرضى وكبار السن والرفق بهم.. زيارة القبور ومناجاة هذا التراب الذى هو بعض من أعز الأحبة!.. ففى الموت دروس وعبر تجعلنا نخشع ونردع أنفسنا الأمارة بالسوء ونذكرها أن العمر قصير والأثر طويل لا ينته بانتهاء العمر.. ومن أجمل نورانيات هذه اللحظات القاسية هى تذكر الماضى، وبالأدق يفتح الكبار خزانة الذكريات ويتحدثون بإسهاب عمن فقدناهم من جذورنا.. وفى أحد الأحاديث التى نتلهف سماعها تكلمت أمى عن البيوت زمان وقالت: "يتحدثون عن تجديد الخطاب الدينى، وعن زيادة حالات الطلاق، ويتحدثون عن سوء أحوال وسلوك الأبناء!.. وعن أنانية مفرطة أصبحت تملأ النفوس!.. وكل ذلك نتيجة تجاهل عادات وتقاليد مصرية صميمة، جعلت من أهم صفات المصرى أنه ابن أصول ويعرف الواجب، شهامة ونخوة في رجال مصر ونسائها كانت مضرب أمثال -ويقال المصرية دى ست بميت رجل- وربنا يجعلنا قطرة ممن سبقونا.. أتذكر البيت الكبير، بيت جدى، البيت القديم!.. وجدى الذى لا أتذكره لم يكن من أثرياء المال ولكن من أثرياء الخلق والنخوة وحب الخير.. أتذكر جدتى وهذا البيت الذى كان في عينى يسع العالم، بيت من ثلاثة أدوار سقفه عال كالسماء، وحجراته كبيرة لا أعرف عددها، وأبوابه لا تغلق ليلا أو نهارا!.. استعداد دائم لاستقبال من تدب قدميه!.. وإستضافة أهل الأهل من الأرياف، ترحيب لكل من يدخل بلا استئذان!.. كل ذى حاجة يدخل يأكل وينام ويقضى مصالحه في القاهرة العامرة.. من جاء لزيارة طبيب يقيم للاستشفاء.. ومن جاء للبحث عن عمل أو التقديم لإحدى الكليات العسكرية وما يتطلبه من إقامة طويلة.. لا أحد يبحث عن مكان لنوم أو يخجل من تناول طعام.. أو سؤال أحد عن مدة إقامته أو أسبابها.. وأيضا لم أر إقامة مأدبة للضيوف ولكن روح الكل فواحد، حياة بسيطة تلقائية بلا تكلف ولا تكاليف.. لذا امتلأت البيوت بركة وسكينة وأصبحت كبيوت الله ملجأ وملاذ.. الكل للكل بلا فضل، ويتحرك فيما يمتلكه مالك الملكوت! أين نحن منهم؟!. بيوتنا ضاقت في وجه خلق الله، فضاقت في وجه أصحابها.. قلوب لا تشعر بالغير فضاقت أنفاسها.. مشاعر أنانية مفرطة لا تعرف إلا حب الذات فضاق الأزواج ببعضهما، وضاق الأبناء بوالديهما وبات العقوق سمة العصر.. نسينا أن الجار جار ولو جار، وأصبحنا لا نعرف من يجاورنا.. ونسينا أن لصلة الدم حقوق وواجبات تصل لمقام الفرض.. نسينا معنى جبر الخاطر رغم ما نعلمه ونردده من كلمات لا نعمل بها..كنا أيام كنا وقت حدوث وفاة الجيران يقفون لعمل الطعام لأهل الفقيد لعدم قدرتهم على التماسك، وكان الرجال أكثر شفقة بالنساء، يتمالكون أعصابهم ويحاولون تضميد جراح قلوبهن الأكثر ضعفا.. وكان للعزاء أصول واحترام.. ويقال ده واجب لا بد من أدائه، لا تمنعه حالة صحية ولا نفسية!.. ولكن مع اختراع الأوبئة والتى اخترقت الأنفس والعقول، أصبحنا نمنع العزاء والوضوء في المساجد، ولكن أهلا وسهلا بالأفراح والحفلات والنوادى!..كان هناك كبير من الرجال وكبيرة للنساء يجب احترامهم والرجوع إليهم والعمل برأيهم..وليس معاملة الكبار معاملة أطفال فاقدى الحكمة والرأى السديد!.. كنا أيام كنا يتولى رجال القضاء في العائلات إنهاء إجراءات شهادة الوفاة وإعلام الوراثة وغيرها من أمور تصعب على زوجة فقيد أو أبنائه.. واليوم غفلت العقول وما عادت تدرك حتى أبسط الأمور!.. هل تعلمون أن زيارة المتوفى في بيته الجديد كانت واجبة ومقدسة حتى الأربعين؟!.. وهى عادة مصرية جميلة، لم تكن تقتصر على الأهل بل الأحبة والجيران والأصدقاء، ويحملون الفطائر والفاكهة التى يسمونها رحمة، لأن من أحب الأعمال إلى الله(إطعام الطعام).. فما بالنا وهذا الإطعام على روح الفقيد!..ولكن في زمن الاستسهال نتفاخر أننا نعطى نقود!..حتى الفقراء الذين يقرأون القرآن في المدافن والذى يطلق عليهم لقب(فقى) والذين يلتمسون من وجيعة المكلومين ولهفتهم سببا للاسترزاق أصبح البعض يخرسهم ويكتف بإعطائهم نقود صدقة!..بحجة جهلهم بالقراءة السليمة..والله جبر خاطرهم لمجرد احتمائهم بالقرآن يشفع لهم أخطاء يغفرها الغفار..أغلب مشكلات المجتمع والأجيال الجديدة التكبر والتعال على العادات والتقاليد التى كانت تميزنا عن غيرنا، والتى كانت تتسم بالإنسانية والرحمة والتعاطف والتكافل والتكامل، والذى يولد الانسجام المجتمعى والسكينة في البيوت والبركة في الرزق..كان هناك دعاء جميل يردده أصحاب القلوب الطيبة(ربنا يجعل بيوت المحسنين عمار).. ولكن عبرة الموت فُقدت لدى الكثيرين، يدوسون غيرهم دون تفكير في كرامة أو مشاعر أحد..أنانية مفرطة وسطحية ولامبالاة بلا حدود!"..ومع تلخيص حديث أمى أذكر نفسى ومن يقرأ بالحديث الشريف الذى تقشعر له الأبدان: "إن لله عبادا اختصهم لقضاء حوائج الناس، آلى على نفسه أن لايعذبهم بالنار، فإذا كان يوم القيامة، خلوا مع الله يحدثهم ويحدثونه والناس في حساب".
آراء حرة
ربنا يجعل بيوت المحسنين عمار!
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق