الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

محمود حامد يكتب: طلعت رضوان.. علامة مضيئة فى تاريخ مصر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ما بالنا لا نتمكن من التقاط أنفاسنا، ونرانا نودع الأحباب واحدًا تلو الآخر وسط حزن عميق على قسوة الفقد وألم الفراق؟

لظروف متعددة، لم أدخل على «فيسبوك» طوال النهار.. عندما دخلت منذ لحظات، باغتنى خبر رحيله المفاجىء.

قمة فى الطيبة والنبل والتواضع.. فى أول لقاء لنا (زمان فى ثمانينيات القرن الماضى) لعبت كيمياء العلاقات الإنسانية دورها، وتعددت اللقاءات لأكتشف أننى اكتسبت صداقة كنز من المعلومات فى تاريخ مصر، وعقل قادر على التحليل القائم على المنطق السليم، وروائى يمتلك أدواته باقتدار، وناقد يضيف للعمل الأدبى قيمةً فوق قيمته، وباحث يتخذ من الأمانة العلمية سبيلًا للوصول إلى استنتاجاته الموضوعية، ومفكر يؤمن بقيمة العقل ويجعله دليلًا يرشده الطريق ومصباحًا يضيىء أمامه الدروب المغلقة.. وفوق ذلك كله «أو رغم ذلك كله" تجده إنسانًا فى غاية التواضع، يتعامل مع الجميع كأخوة أو أبناء له، يسأل دومًا عن أحوالهم ويقدم لهم نصائحهم الثمينة فى هذا الزمان المقلق.

طلعت رضوان اسم كبير فى الثقافة المصرية، وعلم من الأعلام «القلائل» الذين رفعوا لواء الهوية المصرية ودافعوا عنها بكل السبل والأحاجيج، تميزت كتاباته وآراؤه بالوضوح التام دون أى مواربة،  ودون تقديم أى تنازلات فكرية.

موقفه من الدولة المدنية كان واضحًا وضوح الشمس فى عز النهار، ودافع عنها فى كثيرٍ من كتاباته وفى الندوات التى شارك فيها، وكان دائمًا يرى أن «التعصب الديني يقف عقبة أمام إقامة الدولة المدنية».

طلعت رضوان ليس مجرد عابر سبيل فى الحياة الفكرية والثقافية لمصر..  كل مؤلفاته تقول أننا أمام نهر متدفق عاشق لهذا الوطن حريص على الارتقاء به وإقالته من عثرته التى  شدنا إليها أولئك المتعصبون كارهو الحياة المتلاعبون بالدين والدنيا أيضًا، ولم يكن غريبًا على الإطلاق، إزاء قيمة مفكرنا العملاق، أن يخصص الدكتور رفعت السعيد سلسلة مقالات عنه كتبها فى «البوابة» تحت عنوان من كلمتين فقط: (طلعت رضوان)، وكأنه يريد أن يقول: «يكفى اسمه دون أى إضافات»، وهو بالفعل كذلك.

تضمنت تلك المقالات، جولة فكرية مع كتابه «العلمانية والعلاقة بين الدين والسياسة»، والذى اعتبره كتابًا يستحق الاهتمام،  لأنه يتخذ مسلكا يفسر به معانى يساء فهمها عن عمد، بهدف تشويهها فى أذهان الجماهير.  والكتاب على صغره حافل بالمعلومات وقادر على إيقاظ العقل. فبعد أن يسعى طلعت رضوان لتفسير كلمة علمانية تفسيرا قاموسيا نقرأ: «تتأسس العلمانية على فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية، أى أنها لا تعنى فصل الدين عن المجتمع. وهى تفرق بين الشخص الطبيعى الذى له حق اعتناق ما يشاء من أديان ومذاهب وفلسفات وبين الشخصية الاعتبارية (الشركات والهيئات والوزارات) فهى ليس لها دين ولا تتعامل بالدين وإنما بقوانين ولوائح». ويمضى طلعت رضوان: «إن الفصل بين المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية هو السبيل الوحيد لدرء توظيف الدين الثابت والمقدس لصالح السياسة المتغيرة وغير المقدسة». 

فى العام الماضى، نشرت «البوابة» مقالًا للمفكر طلعت رضوان، فى غاية الأهمية، تحت عنوان:  هل يمكن تدريس مادة (الأخلاق)؟.. كان المقال قطعة أدبية من طراز فريد، ورؤية فكرية حريصة على تربية أبنائنا وفق منهج يجعل كلًا منهم شعاعًا ينير وجه الوطن بالعقول المتفتحة والنفوس المدركة بحقيقة «الدين لله والوطن للجميع».. وإذا بحثت عن المقال على محرك البحث «جوجل»فسوف تقرأ أقوالًا لفلاسفة كثيرينأمثال بوذاوكونفوشيوس، ويقول فى مقاله: قبل بوذا وكونفوشيوس- بآلاف السنين- تركتْ الحضارة المصرية مجموعة من القواعد الأخلاقية، التى تعتمد على (الضمير) أكثر من اعتمادها على أى قوانين وضعية، لأنّ العبرة بالوجدان الذى نشأ وتربى على حب الخير وكراهية الشر، ولذلك اختار برستد عنوانًا دالًا على هذا (فجر الضمير) الذى كتبه عام1933، وتُـرجم إلى أغلب لغات العالم، ولا يزال أحد المراجع الأساسية عن ديانة مصر القديمة.

واختتم طلعت رضوان مقاله بمجموعة أسئلة ما تزال مطروحة حتى اللحظة: «هل يمكن وضع مادة للأخلاق تناسب تلاميذ المرحلة الأولى؟ خاصة وقد تـمّ وضع كتاب (منذ سنوات) وبعد طبعه تـمّ تشوينه في المخازن.. وهل يمتلك المسئولون عن التعليم شجاعة مراجعة الذات؟.. هذه المراجعة تُحتم عليهم البدء فورًا بالنظر إلى جيل الأطفال (بدءًا من الابتدائى) بحيث يجلس التلميذ القبطى المسلم بجوار التلميذ القبطى المسيحى في حصة الأخلاق..ويتعلم التلاميذ الآيات القرآنية والإنجيلية التى تحض على حب الأسرة وقيم العطف.. واحترام الكبير للصغير إلخ؟».

مثلما اختتتم طلعت رضوان مقاله الرائع بتلك الأسئلة، هل يمكن أن نختتمبقولين لمفكرين عالميين، وضعهما طلعت فى مقدمة كتابه«العلمانية والعلاقة بين الدين والسياسة»؟ولم يكن الاختيار عشوائيًا على الإطلاق فالدلالة واضحة:

بدأ الكتاب بتصدير يتضمن عبارتين تلخصان كل ما يريد أن يقول؛ الأولى نقلا عن رواية (كرسى الرئاسة) للمبدع كارلوس فوينتس يقول فيها: «كنت أسعى إلى الفضيلة كى نتمكن من ممارسة حريتنا على نحو أفضل. كنت أؤمن ببلد يخص الجميع، يضم الجميع، مهما كان جنسهم أو عرقهم أو دينهم أو عقيدتهم؟».. والأخرى لفولتير: «من يبدأ بحرق الكتب ينتهى بحرق البشر» .

.. ورحل الصديق والمفكر والإنسان طلعت رضوان، لكن أمثاله باقون بإبداعهم وفكرهم وكتاباتهم التى مجدت قيمة العقل واحترمت فريضة التفكير. سوف يظل اسمه محفورًا فى ذاكرة الوطن وفى قلوب أحبابه وكل من عرفه وقدر قيمته الفكرية والإنسانية.