كل الأشياء قابلة للموت إلا الضمير العام، الذي لا يتقدم بوصفه حارسا للحقيقة، حيث العالم نسبي ومتغير، لكنه يظل حارس المعنى، والجدارة معا.
يأبى الضمير العام أن يحل القبح محل الجمال، أن تصبح الكراهية بديلا عن المحبة، أن يجد الإنسان لذته في ثقافة الموت، أن يخاصم ثقافة الحياة.. إن كل كتابة تعادي العقل، هي امتهان للجمال والجدارة في الآن نفسه.
تبدو ثقافة الكرنفال مثل الكومو فلاش، الذي يبرق ثم يختفي دون أن يفعل شيئا، ولذا يرتبط الأثر بالضمير العام ارتباطا وثيقا، وكل كتابة لا تضيف جديدا، ولا تصنع مراكمة نوعية في وعي قارئها هي والعدم سواء، ومهما تفنن اصحابها في الترويج لها، وفتحت المنابر والمنافذ، وأشرعت الأقلام، وتكاثرت، فإنها لن تكون شيئا طالما أنها لم تلمس ذلك العصب العاري ولم تكشف عن ذلك الجوهر الثري للإنسان..
كان جورج لوكاتش وهو يعلن بمضاء إن السؤال المركزي الذي سيظل الأدب يبحث عنه دائما يتمحور حول ما هو الإنسان، مدركا أن ثمة كتابة تداعب الوتر الإنسانى قادرة على البقاء، وثمة كتابة أخرى تعاين فناءها وتتوخاه مهما سلكت من سبل غير سبيل النص ذاته، ولذا كان المجد للنص دائما.
وكان فرانسوا ليوتار يشير إلى تلك المزاوجة الفريدة بين الأصيل والجليل، في معرض حديثه عن النص الطليعي الجديد، كان فرانسوا هنا يتجه صوب التكريس لطروحات ما بعد الحداثة، والأصيل هنا هو ذلك الذي ينبني على ذاته، وبما يستقيم مع منطق الإبداع الذي يعني الإنشاء على غير مثال سابق، ومفهوم النص الطليعي هنا مغاير عنه في أدبيات النقد الاجتماعي، والأدبيات الماركسية بشكل عام، حيث لا تسجن الأيديولوجيا النص ولا تخنقه، ولا تحيله إلى مانيفيستو سياسي او اجتماعي، وإنما تتبع الجمال في كل مصادره، ولا تثقل كاهل النص بما هو خارجه؛ حيث يظل خارج النص مضفرا في بنيته الداخلية، وكل شيء موظف في استحضار الجمال، وآلياته الفنية والتقنية والدلالية.
تحرس الجدارة الضمير العام، تمتلك معه علاقة جدلية، فيشكلان معا محور الكتابة والتلقي.
وترتبط الجدارة بالجمال ارتباطا وثيقا، فلا جدارة بلا جمال، الجمال عين الجدارة وروحها الأثيرة، ولذا تنحو الجدارة إلى معاينة الجمال في كل شيء، ويحرس الضمير العام كليهما معا (الجدارة والجمال).
لكن هل نحن نصنع الجمال أم نتلمسه؟ هل الجمال عابر أم مقيم؟ معنى أبدي مطلق أم معنى نسبي متغير؟
تتجادل هذه الأسئلة، وتتقاطع، لكنها ستبدو عنوانا على سؤال أهم يتصل بكيف نصنع الجمال؟ كيف نراه حرا طليقا في أعين البشر، واقعا في حيوات الناس، متجددا في مجرى الحياة اليومية، ساعيا إلى كل ما هو حر، وإنساني، ونبيل.
تبدأ الأشياء جميعها من الذات، من الإنسان الفرد، من معنى الوجود الإنساني، هذا الوجود الذي تعززه الحرية، فالحرية والوجود بنيتان متداخلتان، بينهما علاقة جدلية لا يمكن تخطيها.
تتعدد مدلولات الجمال، من الفلسفة إلى الفن إلى الخبرة الحياتية، ولسنا هنا بصدد صنع مماحكات نظرية تستنفد طاقات المعنى الخلاق لمفردة الجمال ذاتها، وإن بدت بعض التوصيفات للجمال دالة، ومعبرة، كما نرى مثلا عند هربرت ريد حيث يتحقق الجمال عبر وحدة العلاقات الكلية بين الأشياء التي تدركها حواسنا، أو عند جون ديوي حيث يربط الجمال بالإدراك، أو عند هيجل حين يشير إلى ذلك الأثر الفريد الجمال، بوصفه ذلك الأنيس الذي نصادفه في كل مكان، مرافقا وحدتنا.
وقد تخلق العزلة شعورا مكسوا بالجمال عند نيتشة بوصفها ضرورة لاتساع الذات وامتلائها.
وفي الأدب كان البحث عن الجمال هاجسا مركزيا، وكان النفاذ إلى العناصر الأكثر فنية في النص هاجسا أساسيا للشعرية أو البويطيقا التي صارت عنوانا على الجمالية المضمخة بالشكل، حيث الاعتناء بالقوانين الداخلية للنص، ومعرفة ما الذي يميز نصا أدبيا عن بقية الخطابات الأخرى، عبر دراسة أدبية الأدب، وفي هذا جميعه يظل المنحى الجمالي هو العنصر المسيطر على النص.
يبحث الفرد عن الجمال المختزن داخله، يتماهى معه، ويصل لجوهره العميق بمعرفة ذاته بحق، فالمعرفة صنو الجمال، وتبدأ المعرفة الحقة من معرفة الذات، وهي معرفة يتشارك فيها الشعوري واللاشعوري، وتحقق المعرفة العميقة بالذات معرفة عميقة مماثلة بالعالم، فالفرد أساس الحياة وروحها الحرة الطليقة، ومن مآسينا الحقيقية أن الجميع يريد تغيير العالم ولا أحد يريد تغيير نفسه، مثلما عبر الروائي الروسي ليو تولستوي من قبل.
كيف يمكننا أن نصنع الجمال؟ للجمال مستويات متعددة، وهو يتعين عبر مناحي الحياة المختلفة، فكل شيء يمكن أن يكون عرضة لثنائية الجمال والقبح، وأول نظرة متأملة لمعنى الجمال تقتضي التخلص من هذا التصور الأحادي حول طبيعة الحياة، حيث خندقة العالم في زاويتي الجميل والقبيح، وبإطلاق أحكام تعميمية، وقاطعة، وهذا يستلزم اتساعا في الرؤية، فنرى العالم من زوايا متعددة، يصبح فيه الجميل جميلا حينما نراه يقوي الحياة ويثريها، ويصير القبيح قبيحا حين يضعف معنى الحياة ويورثنا شعورا بالعجز والخيبة.
وفي أحيان كثيرة تتقاطع مساحات الجمال ونقيضه في الشيء الوحيد، وبما يستدعي دائما تلك النظرة الموضوعية وفق هذا المنظور، والتي تخلص الإنسان من شوائب الرؤية، وبقايا التصور المثالي عن العالم، الذي ليس خيرا مطلقا ولا شرا مطلقا أيضا.
تنتقل صناعة الجمال من الفرد إلى المجموع، من الداخل إلى الخارج، من الخاص إلى العام، وهما معا، أي الذات والعالم، بينهما علاقة جدلية في علاقتهما بالجمال، حيث يؤثر الفرد في محيطه العام، ويتأثر به أيضا.
وتظل مساحات الجمال المبتغاة والتي لن يستطيع أحد أن ينازعك فيها هي التي تصل إليها بنفسك، هي التي تتحقق داخلك، هي التي تبدأ منك لتنتهي إليك، ومن ثم لكل من حولك.
إن الجمال معنى مرادف للفرح بالوجود الإنساني ذاته، وبكيفية استلهام المعنى الحر للإنسان، وإن كل معنى حر، يسعى لإسعاد الإنسان، ومنحه الثقة في ذاته وقدراته، ووصله بالمعرفة، وتنمية خياله الإبداعي، وإطلاق طاقات العقل النقدي لديه هي صناعة متجددة للجمال، وحجر أساس في بناء الإنسان.
إن الحرص على توسيع مساحات الجمال إنقاذ للبشرية من جحيمها الأرضي، وتعضيد للروح الإنسانية في مواجهة القسوة والعتامة. وليس ثمة جمال على الإطلاق مع مصادرة الأفكار، أو خنق المعنى تحت أغطية رجعية، أو متأسلفة.
كان للجمال أعداء تاريخيون طيلة الوقت، فالرجعية والجهل المقدس لم يكونا يكرسان للتخلف فحسب، لكنهما كانا يقضيان على أية مساحة مستحقة للجمال أيضا.
ويتأكد الجمال بالتكريس للوعي، والانحياز لليقظة، بمغادرة ذهنية الاستنامة والكسل العقلي، بالاستمتاع بالتفاصيل الصغيرة، وتأمل العالم ومصائره المتحولة، والنظر إليه من تلك الزاوية النسبية المتغيرة التي لا تراه ثابتا أو جامدا.
إننا نرعى الجمال بالمحبة، بمغالبة الأحقاد والضغائن والمرارات السخيفة، ومغادرة السفاسف إلى متون الأمل، والعمل، والإنجاز.
وبعد.. ما أحوجنا إلى استلهام الدوائر الثلاث ( الجمال والجدارة والضمير العام)، والتعاطي معها بوصفها أيقونات حرة ومتجددة، تتمثل في كل معنى حر وإنساني وطليعي ونبيل.