في أيام قليلة وبدون سابق إنذار غيب الموت عنا فارس من فرسان الكلمة ، لا يخشى في الحق لومة لائم ولا يتوارى أمام أي مواجهة تتعلق بمصالح الناس والوطن ، رحل الأخ والصديق الغالي أسامة عيد عن عالمنا في ظروف أشبه بالاختطاف ، حتى أن أحداً من أهله أو محبيه غير قادر على إستيعاب ما صوبه القدر على قلوبهم من سهام حزينة ومؤلمة تجسدت برحيله .
لم يكن أسامة عيد بالنسبة لي بصفة شخصية مجرد صديق مقرب ضمن عشرات الأصدقاء المحببين إلى قلبي ، بل كان متنفساً أشاركه اهتماماتي وإحباطاتي وطموحاتي ، كان أذاناً صاغية وروح مشجعة وقلب يفيض بالمحبة والتضحية والعطاء ، لم يغب يوماً عن أحزاني ووجدته كل مرة حاضراً متهللاً لأفراحي ، فخوراً مبتهجاً انتصاراتي وإنجازاتي بقدر قد يفوق فرحي وابتهاجي بها ، توطدت علاقتي به منذ عشرة سنوات كان يعتبرني أخيه الأكبر وكنت أعتبره أيضاً أخي الأكبر رغم سنه الأصغر لفرط ذكائه وقدراته الذهنية التي تتجاوز سنه بمراحل .
عرفت أسامة عيد شاباً متميزاً متوقد الذهن يتمتع بذاكرة حديدية ، مفكر وصاحب رؤية ثاقبة ، يمتلك أدواته المهنية ومتمكن منها جيداً ، بارع في صياغة المشاريع الإعلامية والصحفية بكل سهولة وبأقصى سرعة، ولديه مهارات فائقة في التواصل والعلاقات العامة ، حتى كانت علاقاته أشبه بمنظومة اجتماعية متكاملة يقودها الحب والرغبة في الخدمة العامة أولاً ، فكان محملاً بطاقة غير طبيعية في العمل العام معتمدة على مد جسور بين أطراف متعددة لخدمة هدف عام يستفيد منه الجميع.
وكما لم ينل حظه من الحياة بقدر ما منحها من خدمة وعطاء ، فخرج منها سريعاً دون تذوق حلاوتها وبهجتها ، كذلك لم ينال حقه في العمل العام سواء الإعلامي أو السياسي، حيث كانت اختياراته وانحيازاته مدفوعة بالمشاعر أكثر من التخطيط العلمي ، فخاض صراعات عديدة لصالح الوطن والكنيسة مدفوعاً بمشاعر الوطنية والإنتماء ، وقاتل منفرداً ضد مدعي النضال الكاذب وفي مواجهة تيارات أصولية جامدة تنتفض ضد أي مبادرات للإصلاح أو التغيير .
ورغم إنتصارات عديدة حققها في الشأن العام أهمل معها أحلامه وطموحاته الشخصية والعملية ، فلم يستقر في مؤسسة صحفية معينة حتى ناله اهتمام الدكتور عبد الرحيم علي رئيس مجلس إدارة البوابة نيوز، فقدر موهبته وحماسه وقربه منه ومنحه مساحة غير مسبوقة للتعبير ، فكانت صفحات جريدة البوابة مناخ صحي وملائم لقلم ناطق بالحق ، وروح متقدة ومتحمسة للدفاع عن الحقوق والحريات المدنية ليست بمعزل عن قيم الانتماء والوطنية وتقديم المصلحة العامة على المصالح الضيقة.
وكما عودته الحياة بعدم الإفراط في الابتهاج والفرح فبعد أيام قليلة من تعيينه بمؤسسة البوابة وقبل أيام من مخاطبة نقابة الصحفيين لقيده في جداولها ، كان القدر أسرع وغادر الحياة بعد صراع لأيام قليلة مع المرض ، لم يدخر فيها زملاءه بالبوابة نيوز أي جهد لإنقاذه ، بذل خلالها الدكتور عبد الرحيم علي والأستاذ القدير سليمان شفيق جهود شاقة و اتصالات على أعلى مستوى في محاولة لإنقاذه ، ولكن كانت إرادة الله أقرب إليه وأسرع في التنفيذ والنفاذ .
لم تكن معارك أسامة عيد التي خاضها على صفحات التواصل الاجتماعي أو عبر صفحات الصحف والمواقع التي عمل بها ، تستهدف مكتسبات شخصية له وأشهد بذلك أن معاركه الصحفية كانت تكلفه من الجهد والوقت والمال ما لا يصدقه أي متابع للشأن العام ، ورغم انحيازاته الثابتة لصالح الوطن تارة والكنيسة تارة أخرى ، لم يتخل عن دعمه للحقوق والحريات المدنية والحق في التعبير والحياة الكريمة للمواطنين .
فدعمه للدولة وقياداتها السياسية لم يدفعه للتخلي عن مسئوليته الإنسانية والاجتماعية تجاه أحد الكتاب المعارضين وشديدي التوجهات العلمانية المعارضة ، حينما تعرض للاعتقال بسبب كتاباته على مواقع التواصل الاجتماعي ، فزاره في معتقله ثان يوم لاعتقاله محملاً بخطابات توصية من بعض الجهات، ولما طالت فترة إعتقاله لم يتركه وحيداً وكان دائم السؤال عنه والتردد على أسرته لمساعدتهم.
ودفاعه غير المشروط عن الكنيسة القبطية بكافة قياداتها وعلى رأسهم قداسة البابا تواضروس، لم يمنعه عن مساعدة أحد الكهنة المعارضين للبابا والموقوف بقرار بابوي منه ، فآزره في محنته ولكي يساعده مادياً منحه مبلغ من المال مقابل مجموعة نسخ من كتابه قام بتوزيعها مجاناً وذلك بناء على شهادة الكاهن صاحب الواقعة ، حتى أولئك المتخاصمين وكثيرين ممن كانوا على خلاف عنيف معه عبر معاركه الصحفية ، لم يتردد عن مساعدتهم والوقوف بجانبهم في الكثير من المواقف التي تعرضوا لها .
لم تكن كلماته ممتلئة بالجمل الدينية والآيات الكتابية ، ولكنه عاش حياة الخدمة الحقيقية بعيدا عن الصخب وادعاء البطولات الزائفة ، فطبق وصايا سيده في صمت وتجاوزت خدمته أسوار الكنيسة ، فلم يعظ على منبر أو يعلم عبر محاضرة روحية ، بل زار المقيدين في معتقلاتهم ، وتطوع لخدمة المرضى مصطحباً إياهم للمستشفيات ساهراً على خدمتهم دون كلل ، وفاضت عطاياه المالية بقدر استطاعته لكل محتاج وضعه القدر في طريقه .
وأقولها شهادة حق بعد صداقة عشرة سنوات كان أسامة عيد عنواناً للعطاء والتضحية دون مقابل ، وفي خضم معاركه الصحفية مع مدعي النضال والباحثون عن أدوار و المتربحين من الملف القبطي والمتاجرون بآلام الأقباط ، كان هو يجول كل محافظات مصر في صمت لخدمة أولئك المتضررين من العنف الطائفي ، والوقوف بجانب الحالات المحتاجة لمساندة ، فكان يبذل الجهود في صمت لمساعدة المحتاجين في أزماتهم .
أسامة عيد كان شاباً واعداً بإمكانيات إستثنائية خسره المجتمع قبل أن تخسره أسرته وأصدقائه ومحبيه ، لم يحيا لنفسه بل عاش واجتهد من أجل اسرته ومن أجل قضايا الوطن والمواطن والمواطنة ، لم يجد من العدل ما يكفي لينال حقه عما بذله من جهود وما منحه للحياة من عطايا ، ولكنه وقد انتقل لعالم آخر يسوده العدل والمساواة نودعه على رجاء اللقاء ، وعزاء لأسرته الحبيبة إلى قلبي ولكل أصدقائه ومحبيه .
البوابة القبطية
نجاح بولس يكتب: أسامة عيد الذي أعرفه.. فارسا للكلمة وعنوانا للعطاء
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق