استشهد الماء ولم يزل
يقاتل الندى
استشهد الصوت ولم يزل
يقاتل الصدى
وأسامة بيت الماء والندى
وبين الصوت والصدى
فراشة تطير
حتى آخر المدى
كتبت منذ عشرة أيام.. أسامة عيد سينتصر في معركة المرض كما انتصر دائمًا، لكن إرادة الله قد حكمت، ولم يستطع الفارس أن ينتصر في معركته مع الفيروس اللعين.
أسامة ذلك الرجل الذي يحمل قلب طفل كما كتب عنه الدكتور عبد الرحيم علي: "أسامة عيد.. تلك الروح الطفولية التي رسمت على القلب أحزانا وذكريات.. عم سلاما يا صديق.. سلم على أهلنا هناك.. وانتظرني)".
رأيت فى شخصيته كما عايشته فى حياته وأعماله، كظاهرة إنسانية تجسد عذوبته كالنيل أمام الشط في مغاغه، ذلك النيل الذى لا يشرب منه المرء مرتين، ومن أراد أن يبحث فى أغواره يغرق فى المصب قبل أن يدرك البحر، وكالحجر الكريم الذي كلما سقط عليه الضوء عكس ألوانا متعددة، ولكن من أراد أن يكسره ينكسر، ما لم يعرفه أحد حتى الآن أنه كان مثالا ونموذجا لـ"المثقف العضوي" الذى تحدث عنه المفكر الإيطالي اليساري الشهير "أنطونيو جرامشى".
وكنت حاضرا لعدة مواقف لأسامة؛ المرة الأولى رأيته من خلال كتاباته، ابتسامة مجلجلة كإلهة الأوليمب وأحفاد زيوس راس، يحمل من جينات أخناتون وجمال نفرتيتي، وجبهة عريضة كجبل المنيا الشرقي، صامد مثل أبيه عيد المقاتل، وعيون تتسع لرؤية الحقيقة كوجوه الفيوم، هناك رأيته للمرة الأولى أثناء زيارته لي بالمستشفى أثناء مرضي، هكذا وكلما اقتربت من تلك الظاهرة التى تتجسد فى إنسان يسمى أسامة شعرت بأننى أعرفه كما أعرف وأحب ابني البكر.
من عمق النهر الذي يروينا، وننسى عذوبته، هناك في مغاغه بالمنيا وُلد أسامة عيد، التاريخ حيث تمحورت شخصية آل عيد، تجمع ما بين التدين والبطولة، وجدل العلاقة بين العدل والقوة، وأدرك أن الحق لا يتأتى إلا بالعدل، وأتذكر كيف اختار أسامة كلية الإعلام بحثا عن العدالة الإنسانية من خلال القلم وكأنه محامي المظلومين على غرار أساتذة الصحافة فى زمن الحريات «المجانية» غير الممولة، فكان خير خلف لخير سلف، وتوارث تقاليد عظيمة.. من نبلاء الصحافة الذين حفروا على طول الشط الدفاع عن الحريات والعدل والمظلومين.
عرفت أسامة منذ خمسة عشر عاما وأنا على فراش المرض، حيث كنت أنتظر إجراء عملية قلب مفتوح، واحتجت للدم، وقام أسامة ليس بالتبرع لي فحسب بل وقيادة الحملة لجمع المتبرعين، خمسة عشر عاما كان دائما يقف بجواري في أزماتي الصحية والسياسية مهما اختلفنا في الرأي، وظل يؤازرني في العمل بـ "البوابة نيوز"، بالملف القبطي على أرضية المواطنة في تواضع الفرسان، زميل محترم وصديق وفي شاهدته في معركة النائب عبد الرحيم علي، يجول معه في صمت الجندي المجهول دفاعا عن الحق في شخص صديقه عبد الرحيم علي، الذي أحبه من كل قلبه وقام بتعيينه، وكان يستعد لإرسال أوراقة لنقابة الصحفيين ولكن القدر كان أسرع بقبول أوراق رحيله.
لم يكن أسامة سوى قلم ينطق بالعدل، وقاد معارك حقيقية دفاعا عن الوطن والفقراء بالقلم ، وخاض مواقف مشهودة حتى في ساحات النيابات والمحاكم حتى صار يعرق التفاصيل والقانون كمحامي أكثر منه صحفي في فروسية أصحاب الرأى، كذلك كان أسامة أكثر من استخدم "السوشيال ميديا" بإيجابية ضد الاستخدامات السلبية لها حتى ربط بين حرية الضمير وحرية "الكيبورد"، حول استخدام الهواتف المحمولة والاتهامات التى توجه من خلالها ولاستخدام الإنترنت، وقدم في ذلك نموذجا رائدا حول الدفاع عن حرية الرأى والتعبير من خلال السوشيال ميديا.
كان أسامة عيد ضد الانحراف في استخدام الملف القبطي، وكان مدافعا دومًا عن الكنيسة والبابا تواضروس، دافع أسامة عن حرية المواطنين المصريين الأقباط دائما على أرضية المواطنة.
خرج النعش فى فيضان من الدموع في عيد الصليب، وكأنه يتبع قول المسيح:
"إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي." (لو 9: 23 )
هكذا تخلص أسامة من قيود المرض، وحمل صليبه نحو المسيح في فجر ليلة حزينة بكى فيها القمر وهو يتوارى قبل بزوغ الشمس مثل فراشة تطير إلى آخر المدى، ليتركنا نبحث عنه في أحزان القلب، وذكريات حواراته وكتاباته ومواقفه مع كل مظلوم أو محتاج، كنت دائمًا أتلمس ريح مضاربه، أزوره، أقرأ له، أتزود من حواراته، أسامة مثل الحجر الكريم كلما سقط عليه ضوء عكس شعاعًا مختلفًا عن الآخر، صحفي، مناضل، مقاتل، رجل مواقف فارس وإنسان ومواطن.
عزائي للأسرة والوطن ولكل من أمسك قلمًا من أجل الدفاع عن المظلومين.
طبت حيًّا وميتًا يا ابني أسامة، لن أنساك حتى نلتقي في عالم أكثر محبة ونور وحرية.