موسم الهجرة للجنوب
إمام مسجد يدعو لجنازة في كنيسة بالمنيا
حضور متعدد الأعمار والأديان في صالون القوصية الثقافى
آلاف المبادرات الشبابية تستهدف وجه الله والوطن على طول الشط في قنا
بعيدًا عن صخب العاصمة، بين المنيا والقوصية وقنا، رأيت بأم عيني وحدة الوطن، بداية وكنت حينذاك في عزاء والدة السياسى والاجتماعي المهندس جون بشرى، ذهبت إلى المنيا لتلقى العزاء بجوار ذلك القائد الشاب، فوجئت بأن سرادق العزاء بجوار مسجد الجهاد بأرض سلطان، سألت جون: «هل استأذنت؟».
أجاب في ابتسامة رغم الحزن: «حينما توفيت والدتى فوجئت أن فضيلة إمام المسجد الشيخ أشرف قد أذاع الخبر فور سماعه النبأ على المصلين بعد صلاة الصبح، بما في ذلك مكان الصلاة بكنيسة الأنبا أنطونيوس، وحينما ذهبت لشكره رفض في احترام وسألنى هل أحتاج أى شىء من المسجد؟ ميكروفونات أو قاعات أو...؟ شكرت الشيخ أشرف في احترام ووئام لتلك النخوة العظيمة".
فوجئت بأن أكثر من إمام مسجد جاءوا إلى الجنازة ووعظوا شأن كهنة كثيرين، طوال أيام الجنازة الثلاثة شعرت أننى في المنيا التى لا يعرفها كثيرون والتي يطلق عليها البعض "إمارة الإرهاب".
ضباط الشرطة كانوا يتوافدون فور الانتهاء من خدماتهم، ثلاثة أيام رأيت فيها أغلب نواب المحافظة وقادتها ورأيت أغنياءها وفقراءها، مسلمين ومسيحيين، نساء ورجالا، شبابا وشابات، يتلقون العزاء مع جون وكأن من رحلت أمهم، ثلاثة أيام كانت كل الأطياف السياسية والاجتماعية تجلس وتتحاور وتحب وتعطى في هدوء وسلام.
وأدركت أنه مقابل للإرهاب هناك تيار شعبي يعيش في مودة وسلام والحياة تعاش في سلام ومودة بين المسلمين والمسيحيين في أغلب فئات المجتمع.
تركت المنيا نحو أسيوط بدعوة كريمة من السيدة هند جوزيف لحضور صالون القوصية الثقافى، وفى الصالون بالقوصية، في وسط حضور نخبة من مختلف الأعمار والأجيال، في تنوع ما بين مثقفين ورجال أعمال وموظفين ومزارعين ومهنيين وسياسيين وصحفيين، شيوخ وقساوسة، مسيحيين ومسلمين، شباب وشابات، هكذا اتسع ديوان الخواجة جوزيف بما ضاق به صدر الوطن، ووسط مودة وقيم نبيلة،اتفقوا حول مصر مسلمين ومسيحيين في الصالون بين حكمة الشيوخ وحماسة الشباب، في سياقات من آداب الحوار ما أحوج سكان المحروسة إليها.
منذ الصغر كانت أسرتى تذهب إلى دير المحرق بالقوصية، وكأنها تذهب إلى الأراضى المقدسة، ومنذ سبعينيات القرن الماضى كانت القوصية مهدًا لحركات ثقافية وسياسية، ومنها اليسار المصرى وحزب الوفد وغيرهما، وكانت هناك علاقة قوية بين المعارضة اليسارية والزميل والصديق جمال أسعد، الذى كان ولا يزال يستضيف أعلام المثقفين والسياسيين المصريين، ومؤخرًا ظهرت أجيال جديدة تستكمل تلك المسيرة الوطنية السياسية، ومن أبرز تلك الوجوه المحامية النائبة الشابة هند جوزيف التى تقبلت منها الدعوة الكريمة عدة مرات للصالون الثقافي الذي أسسته، ويضم لفيفا من المثقفين والمزارعين ورجال الأعمال والنشطاء السياسيين والاجتماعيين، رجالًا ونساء، فتيات وشبابًا، مسلمين ومسيحيين، وعلى مدى ساعات كان الحوار يمتد من القوصية إلى فلسطين والشام والغرب الأمريكى، وأغلب بلدان العالم، وتتعدد التساؤلات والتعليقات، الجميع يقتسمون الحوار والفكر، أدركت دائما معهم كل معانى الاستنارة من لمسات الحضور، وتأكدت من عراقة العائلة الممتدة من قاعة الندوة في صحن المنزل إلى عمق روح المحبة بين الحضور، الأمر الذى ذكرنى بالصالونات الأرستقراطية في زمن التنوير، وكأن صالون هند جوزيف هو صالون مى زيادة.
لم أشعر للحظة بالغربة من الحضور المتعدد الأعمار والأديان، اختلفوا واتفقوا في مودة تفتقدها صالونات مثقفى العاصمة، شعرت أن الجميع يجيدون آداب الحوار، وتقديم الحلول.. كنت أستمتع بالحوار الذى أثبت عراقة القوصية، كمدينة كانت عاصمة الإقليم 14 من أقاليم مصر الوسطى، هؤلاء المجتمعون أجدادهم أوقفوا زحف الهكسوس على الصعيد، وحموا المملكة المصرية من الانهيار، وبحكمة تحالفوا مع أمراء طيبة لصد الهكسوس، وكانت أولى المعارك هناك، وتوجد لوحة تخلد انتصارهم على الهكسوس بمنطقة البرية في زرابى القوصية، المنطقة الوحيدة المتبقية من القوصية القديمة، والتى بنيت عليها القوصية الجديدة، وعلى مرمى البصر توجد قرية «مير»، التى تضم مجموعة من المقابر المنحوتة في جسم الجبل، لتكون «جبانة» عاصمة الإقليم لأمراء وحكام المقاطعة الرابعة عشرة، ومعبودها الإله حتحور، تقع غرب قرية مير- مركز القوصية، وتضم مجموعة من المقابر المنحوتة في جسم الجبل لتكون «جبانة» عاصمة الإقليم.
الدير المحرق وأقدم كنيسة في العالم، أنشئ هذا الدير في القرن الرابع الميلادى بسفح الجبل الغربى، والذى كان يسمى قديمًا جبل «قسقام»، وسمى المحرق بسبب حرق النباتات والحشائش الضارة لاستغلال أراضيها للزراعة، وعندما أنشئ دير العذراء أصبح حاملًا لاسم هذه المنطقة، عندما شيد الأنبا «باخوميوس» سورًا ارتفاعه 12 مترا حول الكنيسة، فتحول إلى دير، وليشبه في طرازه سور كنيسة المهد في فلسطين، وترجع أهميته التاريخية من بين نحو 26 مكانًا ارتحلت إليها العائلة المقدسة في مصر مكثت فيه نحو 185 يومًا، وأُنشئ مكانه الكنيسة الأثرية التى تعتبر أقدم كنيسة دشنت في العالم المسيحى، كما يضم الدير الحصن الأثري، ويعتبر دير المحرق أحد الأديرة التاريخية القليلة التى تقام فيها الصلوات باللغة القبطية القديمة، ويعتبر أهم مكان لأداء طقوس الديانة المسيحية بعد كنيسة المهد في فلسطين.
تمنيت أن تكتشف النخب القاهرية وصناع القرار مثل هذه النائبة هند، وتلك العائلة، تمنيت أن يفيض النيل من القوصية إلى القاهرة بتلك الروح، ويموج على امتداد النهر ما يجرى من صالونات ثقافية وسياسية بالقوصية، وبيت تلك العائلة، لكى يعرف الكل أن الوطن بخير.
هناك آلاف المبادرات الشبابية التى لا تستهدف سوى وجه الله والوطن، وتمتد على طول الشط، في قنا، هناك تقابلت مع الخبير الاجتماعي جمال يوسف: جمعية أنا المصرى للتنمية والتدريب مبادرة شبابية تسعى إلى تقوية المجتمعات المحلية، لتتمكن من إدارة مواردها بفاعلية واستقلالية من خلال بناء قدرات الجمعيات الأهلية والمبادرات الشبابية المحلية وتبنى نهج الشراكة مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص، ويتنوع أعضاء الجمعية من المسلمين والمسيحيين، رجال ونساء، شباب وشابات، وتتبنى نهج المواطنة، ولقد قامت الجمعية بالعديد من الأنشطة والبرامج والمشروعات.
هكذا عدت إلى المحروسة محملا بكل فروسية الصعايدة من المنيا إلى القوصية وصولا لقنا، مدركا بأن مصر لن تهزم بإذن الله لأنها شعب واحد.
تمنيت أن يفيض النيل من القوصية إلى القاهرة بتلك الروح وبهذه الصالونات الثقافية.
لأنه من رحم التحدى بإخصاب من الحلم ولدت كل تلك المبادرات التي تعد بالآلاف لا يعيرها الإعلام اهتماما، هؤلاء الجنود المجهولون الذين لا يسمع عنهم أحد، والموجودين على طول الشط في نجوع وقرى منسية الأسماء، لا نجد لها أى مساحة إعلامية، هؤلاء الأبطال المنسيون لا أعرفهم، ولكنى أعرف فيهم وطنى، هويتى وأهدى تلك النماذج لمن يرغي أن يعرف أننا شعب واحد.
سليمان شفيق