حصلت البوابة نيوز علي نص خطاب حفل تخرج الدفعة المائة والخمسين لكلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة والذي ألقاها الدكتور القس عاطف مهني المعصراني أستاذ العهد الجديد ومدير مركز دراسات مسيحية الشرق الأوسط بالكلية، منذ قليل باحتفالية الكلية والمنعقدة في كنيسة مصر الجديدة الإنجيلية ، و جاءت تحت عنوان "التعليم اللاهوتي بين صحة المعتقد واستقامة الحياة"
وجاء نص الخطاب كالتالي:
أود أن أهنئكم بهذه المناسبة العظيمة، بتخرج الدفعة رقم 150 في كلية اللاهوت الإنجيلية، الكلية العريقة، الكلية ذات التاريخ المشرف. هذا الحفل يمثل مناسبة خاصة للكنيسة الإنجيلية بمصر حيث خرجت الكلية من 150 عامًا، تادرس يوسف أفندي، الذي صار فيما بعد القس تادرس يوسف، أول قسيس إنجيلي بمصر. أما بالنسبة لي، فهذه المناسبة تعني الكثير لي شخصيًا، لأن فيها أخاطب آخر دفعة عايشتها وخدمتها كعميد للكلية خلال الواحد والعشرين عامًا الماضية. ولهذا، فاسمحوا لي أن أوجه شكرًا خاصًا لمجلس الكلية لتكرمهم باختياري خطيبًا لهذه المناسبة الخاصة جدًا.
ويسعدني أن أخاطب حضراتكم اليوم تحت عنوان:
"التعليم اللاهوتي بين صحة المعتقد واستقامة الحياة".
ولابد أن نبدأ حديثنا بتعريف المقصود بمصطلح "التعليم اللاهوتي" ففي الأصل كلمة اللاهوت هي ترجمة للكلمة اليونانية ثيولوجيا θεολογια ومعناها الكلام عن الله أو التعليم عن الله، وعليه فالتعليم اللاهوتي في أبسط معانيه هو التعليم عن الله، أو العلم المختص بالله.
لكن مع الزمن بدأ المصطلح يلتصق أكثر بالتعليم الرسمي الذي يُدرَّس بالجامعات وكليات اللاهوت والإكليريكيات لإِعداد رجال الدين المسيحي والقيادات الدينية المسيحية. ثم تطور استخدام صفة "اللاهوت" حتى باتت تصبغجميع المواد التي تُدرَّس في تلك المؤسسات الرسمية حتى لو لم يكن المضمون الأولي لتلكالمواد هو التعليم عن الله. فالمواد العملية مثل علم الوعظ والخطابة وإدارة الكنيسة وغيرها سميت باللاهوت العملي، ومواد أخرى أُطلِق عليها اللاهوت الأدبي وهناك اللاهوت الفلسفي واللاهوت الرعوي ...الخ. وإذا اتخذنا في حكمنا على هذا التطور توجهًا إيجابيًا، فلعل إطلاق صفة "اللاهوت" على جميع المساقات والدروس التي تقدم في تلك الكليات الرسمية غرضه التذكير بأن هدف كل ما يُدرَّس هو فهم أعمق لله.
هنا لابد من وقفة تصحيح مسار انطلاقًا من العودة للمعنى الصحيح للتعليم اللاهوتي. فإن كان محور هذا المجال التعليمي وهدفه هو الله،فكل مسيحي وكل رواد الكنائس من المفترض أنهم يتلقون قدرًا من التعليم اللاهوتي. لذلك لا يجب أن نُقصِر كلامنا عن تحسين وإصلاح التعليم اللاهوتي على ما تقدمه كليات اللاهوت من تعليم رسمي، على الرغم من الأهمية القصوى لذلك. بلعلينا أن ننتبه للتعليم الذي تقدمه الكنائس أسبوعيًا من عظات ودروس في الكتاب المقدس ودراسات في العقيدة ومناهج مدارس الأحد وبرامج إعداد الخدام. فهذه التعاليم كلها يجب أن يكون محورها الله أي السعي إلى معرفته بشكل أعمق وفهم وصاياه وعمل مرضاته وتجنب ما يغضبه من شرور وآثام. وإن تبنينا هذا التفسير الأولي للتعليم اللاهوتي، كتعليم عن الله، فمن الصعب أن نظن أن خدام الكلمة والقسوس يمكن أن يكتفوا بدراسة مدتها ثلاث أو أربع سنوات يحصلون بعدها على شهادات لاهوتية رسمية،ظانين أنهم تعلموا ما يكفي عن الله غير المحدود!لابد إذًا لكل خادم أن يستمر في الدراسة اليومية-غير الرسمية- إن أراد ألا ينطفئ نوره ويخفت صوته أو يخبو تأثيره، هذه الدراسة اليومية غير الرسمية هي إذًا نوعٌ من التعليم اللاهوتي، حتى لو كان فيها الإنسان يُعلِّم نفسه بنفسه وهنا يقول Richard Rohr مشيرًا إلى أهمية التعليم اللاهوتي الذي محوره الله قائلاً: "يمد التعليم اللاهوتي المتعلم بفضيلة إرادة الصبر والثقة حتى عندما تأتي النهايات عكس المراد ولا تحمل الحلول المرجوة. هنا فقط يمكن اختبار حالة من الرضا والقبول لمشيئة الله، لأن أسباب الرضا ارتفعت إلى مستوى آخر خارج ذواتنا". أردت أن أوضح معنى التعليم اللاهوتي وأهميته قبل أن أخوض بالتفصيل في موضوع خطابنا.
لماذا هذا العنوان الآن بالذات؟
لا يخفى على أحدٍ منا أن الكثير من المسيحيين البسطاء، لاسيما من الشباب، قد هجروا الكنائس وفقدوا الاهتمام بالدين والعلاقة مع الله بسبب رجال الدين. ومشكلتهم في معظم الأحيان ليست منصبة على فكر رجال الدين وتعليمهم، بل على غياب الاتساق بين تعليمهم وحياتهم! وكأننا نسمعصوت النبي ملاخي في القديم وهو يخاطب أولئك المعلمين قائلاً: "لقد أتعبتم الرب بكلامكم وقلتم بما أتعباه" (ملا 2: 17) أو قول السيد المسيح مخاطبًا معلمي الشريعة: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تشبهون قبورًا مبيضة تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة، هكذا أنتم أيضًا: من خارج تظهرون للناس أبراراً، ولكنكم من داخل مشحونون رياء وإثماً" (مت23: 27، 28). لعل هذا ما دفع مجلس الكلية لهذا العنوان الهام، والذي يستحق منا بعض التفكير، الأمر الذي يدعونا للتساؤل عن أولويات التعليم اللاهوتي دوليًا، وبالطبع موقف كليتنا في مصر.
تطور التعليم اللاهوتي عبر التاريخ:
دعونا الآن نتتبع تطور التعليم اللاهوتي عبر التاريخ لعلنا نعرف أين نحن الآن وهل من حاجة إلى إصلاح في منظومة التعليم اللاهوتي؟ وما هو؟
لعلنا نكون منصفين إذا بدأنا قصة التعليم اللاهوتي من مدارس معلمي الشريعة اليهودية الذين نُطلق عليهم الربيين. فنحن نعلم أن بعد السبي وهدم الهيكل، تشتت اليهود ولم يعد لهم مكانٌ يجمعهم للعبادة وتقديم الذبائح. وهنا نشأت المجامع في كل المدن الكبرى في الإمبراطورية الرومانية التي بها جاليات يهودية كبيرة. وصار تعليم الناموس هو مركز العبادة بدلاً من الذبائح، واستمر تفوق المجامع وأولوية تعليم الناموس على الهيكل والذبائح حتى بعد العودة من السبي البابلي وإعادة بناء الهيكل الثاني، هيكل زربابل.وقد أصبح الربيون المعروفون في العهد الجديدبالكتبة والفريسين هم معلمي الشريعة والقادةالدينيين المفضلين عند اليهود، حتى على الكهنة.ونشأت مدارس تعليم الناموس والشريعة للصبيانالصغار. فنحن نسمع عن مدرسة رباي شمعيومدرسة رباي هليل، وكيف كان لكل منهما فلسفته التفسيرية وأسلوبه المتميز في التعليم. وكانت تلك المدارس أشبه بالكُتَّاب الذي فيه يجلس الطلاب في حلقة حول معلمهم وعند قدميه ليتعلمو منه. ويؤيد هذا الطرح التاريخي ما سجله البشير لوقا عن الرسول بولس، وهو يحاول أن يدفع عن نفسهمما اتهمه به اليهود باحتقاره الناموس، حيث يؤكد لهم الرسول أنه ليس أقل منهم غيرة ولا علمًا بالناموس، فهو قد نشأ وتربى عند رجلي رباي غمالائيل، الذي نعلم تاريخًا أنه كان حفيدًا لرباي هليل (أع 22: 3). ويمكننا تسمية هذا النوع من التعليم اللاهوت بالتلمذة الفكرية الإستاتيكية. ففي هذا النموذج يهتم المعلم بصياغة فكر التلميذ من خلال ما يلقنه ويشرحه له أو يجيبه من تساؤلات التلاميذ.
أما تلاميذ السيد المسيح فقد كانت مدرسة تعليمهم أقل رسمية وأكثر تلقائية وديناميكية من مدارس الربيين، حيث كانوا يرافقون سيدهم ويجولون معه أينما ذهب. يسمعوه وهو يُعلم ويشاهدونه وهو يصلي ويأكلون معه ويذهبون في رفقته إلى خلوات عبر البحر، ويرونه وهو يشفي المرضى: العرج والعمي والبرص، ويشاهدونه وهو يخرج الشياطين ويقيم الموتى. لقد رأوه وهو يتحنن على العشارين والخطاة ويتعامل معهم بكل صبر ورفق كمرضى روحيين، بينما رأوهوهو يواجه بكل حزم وشدة قادة اليهود، العارفين الناموس، كاشفًا رياءهم وفاضحًا نفاقهم وموجهًا لهم الويلات على غلاظة قلوبهم وتحميلهم الناس أمورًا عسرة لم يستطيعوا هم أنفسهم عملها، تاركين جوهر تعليم الناموس عن الحق والرحمة. لقد تأثر تلاميذ المسيح ببساطة سيدهم وعمقتعليمه والسلطان الذي كان يعلم به. لقد رأَوَا الله متجسدًا بينهم في أعمال السيد المسيح وتعاليمه. لقد كانت مدرسة اللاهوت المتجسدة في السيدالمسيح مدرسةً فريدةً في التعليم عن الله. كانتمختلفة عن كل ما قرأوه في التوراة وكل ما تعلموه من ناموس موسى وكتب الأنبياء. نعم "الله لم يراه أحد قط، لكن الابن الوحيد الذي كان في حضن الآب هو خبّر" (يو 1: 18).
لقد كان بطرس ويوحنا، تلميذا السيد المسيح، جليليين، عاميين، وعديمي العلم، ومن الواضح أنهما قد تأثرا بأسلوب السيد المسيح التعليميالبسيط والعميق في ذات الوقت، الأمر الذي جعل قادة اليهود يتعجبون من جرأتهما والقوة التي كانا يعلمان الجموع بها، شاهدين عن قيامة السيد المسيح وصعوده. لقد علل قادة اليهودالسبب في ذلك أنهما كانا من اتباع يسوع (أع4: 13). ويمكننا أن نسمي مدرسة السيد المسيح اللاهوتية هذه بمدرسة التلمذة الحياتية الديناميكية. فالتركيز هنا بلا شك على التعلم بالمعايشة والنموذج.
التعليم في الزمن الرسولي (30م- 100م)
ليس لدينا تاريخٌ مدون يؤكد وجود مدارسرسيمة تقدم تعليمًا لاهوتيًا منظمًا في تلك الفترة. لكن الاهتمام بالتعليم بوجه عام وبصحة وسلامةالتعليم بوجه خاص، نلمسه بوضوح في رسائل القديسين بولس، وبطرس، ويوحنا والرسالة إلى العبرانيين. وبالطبع في كتاب الديداخي. ففي كل هذه الكتابات نجد الرسل يقدمون الكثير من تعاليم السيد المسيح كما تسلموها وسمعوها منهوعايشوها في رفقتهم له. لقد قدموا هذه التعاليم الثمينة في سياق تعرضهم لمشاكل الكنائس الوليدة التي كان معظمها يعاني من اضطهادات خارجية وانقسامات داخلية نتجت بسبب تعدد خلفيات المؤمنين الجدد ما بين يهود وأمم،بالإضافة إلى تحديات ملاحقة عادات وممارسات وثنية للقادمين من خلفية أممية. لقد حذر القديس بولس ورسل المسيح في كتاباتهم من المعلمين الكذبة، أو التعاليم التي تطالب بحتمية التهود واتباع ناموس موسى كشرط لاتباع يسوع المسيح، أو التعاليم التي أنكرت لاهوت السيد المسيح أو كونه قد جاء في الجسد (1يو 4: 2، 3، 15).
لقد امتزج التعليم اللاهوتي في كتابات رسل المسيح باقتباسات كثيرة من الكتب المقدسة من أسفار العهد القديم. فهناك عشرات النبوات التي تشير إلى السيد المسيح: ميلاده، ونسبه،وتواضعه، وأعماله، وصلبه، وقيامته، وكينونته. لقد قدموا تلك النبوات وفسروها في ضوء حياة وتعاليم يسوع التاريخي الذي عاش بينهم، وصلب، وقاممن بين الأموات بشهادة العشرات من تلاميذه.
لم تكن الرسائل والكتابات هي الوسيلة الوحيدة لتعليم الرسل في القرن الأول، لكن الرعاية والتلمذة والشركة كانت وسائل أساسية صاحبت الكلمة المكتوبة في هذا النموذج من التعليم اللاهوتي غير الرسمي. ويمكننا تسمية هذه المدرسة اللاهوتية بالمدرسة الرسولية التأسيسية للإيمان المسيحي. والتركيز في هذا النموذج الرسولي على أساس الإيمان يسوعالمسيح متمم النبوات.
التعليم اللاهوتي الرسمي مدرسة الإسكندرية (200م- 500م)
يعتقد الكثير من الباحثين أن الكنيسة المصرية التي أسسها القديس مرقص بالإسكندرية مع أواخر القرن الأول الميلادي قد صاحبها تأسيسأول مدرسة لاهوت قدمت تعليمًا لاهوتيًا رسميًا. ولعل الأسقف ديمتريوس، الذي عاش في نهاية القرن الثاني الميلادي، كان أول مؤسسٍ لتلك المدرسة وأن القديس أكليمندس السكندري كانأول مديرٍ لها. لقد دامت هذه المدرسة ما يقرب من أربعة قرون على الأقل وكان لها التأثير الأكبر والأعظم في صياغة العقيدة المسيحية والدفاع عن الإيمان المسيحي ضد الهرطقات. لقد كان تعليم تلك المدرسة يأخذ صورة سؤال وجوابcatechism. ويذكر Max Muller كيف تمتع قادة هذه الكنيسة، أمثال أكليمندس السكندري (150-215م) بعقلية موسوعية جعلتهم في حراك ديناميكي مع الفلسفة اليونانية التي كان لها باع كبير في الإسكندرية، لاسيما من خلال مكتبتها العظيمة آنذاك. ففي الوقت الذي اعتبر آباء الكنيسة الغربية الفلسفة اليونانية شرًا يجب الابتعاد عنه، أكد القديس أكليمندس بعقل منفتح وقلب متسع أنه لا خصومة بين الفلسفة والدين.
ويذكر Farrar عدة أسماء من عمالقة هذه المدرسة مثل العلّامة أوريجانوس تلميذ أكليمندسالسكندري (185-245م) والقديس أثناسيوسوغيرهم. هؤلاء وتلاميذهم أثروا المسيحية بكتاباتهم التي ركزت على صياغة العقيدة وتقديم التعليم الصحيح. وبرز دورهم الكبير في المجامع المسكونية، وقد كتبوا وألفوا العديد من المراجع، لاسيما التفاسير المجازية التي جذبت الكثير من مفكري وفلاسفة الوثنيين في ذلك الوقت لما وجدوه فيها من عمق وجمال وسمو فكري لا يقل عمَّا ألفوه في كتابات الفلاسفة اليونانيين. وقد انتشرت مدرسة الإسكندرية في أديرة مصر وتميزت بالكرازة بالإنجيل مما أدى إلى انتشار المسيحية في ربوع مصر والحبشة. كما اشتهرت بترجمة الكتاب المقدس وتفسيره إلى اللغة القبطية، وقدم معلمو هذه المدرسة من خلال الرهبنة نموذجَ حياةٍ فيها ميلٌ إلى البساطة يصل إلى حد التقشف، واشتهرت مدرسة الإسكندرية بالدفاع عن الإيمان ولو أدى الأمر إلى الاستشهاد.
ويرى بعض العلماء أن مدرسة الإسكندرية كانت الشرارة الأولى للتعليم اللاهوتي الرسمي،المنظم وقد امتد تأثيرها إلى مراكز كثيرة أخرى كأنطاكية وأورشليم وأديسا وغيرها. ويمكننا تسمية هذه المدرسة بمدرسة الإسكندرية للعلوم اللاهوتية والعقيدة.
التعليم اللاهوتي الرهباني في النصف الأول من القرون الوسطى (500م- 1000م)
تميزت هذه الحقبة بانتشار الأديرة في الصحاري والجبال في العديد من دول العالم المسيحي. ومع أن الرهبنة قد بدأت مبكرًا في مصر عن طريق القديس بولا والقديس أنطونيوس وموسى الأسود وباخوميوس في القرنين الثالث والرابع الميلادي.
لكن الرهبنة والنزوح إلى أديرة الصحراء صارت فيما بعد نهجًا روحانيًا منتشرًا في كنائس الشرق والغرب وتطورت الرهبنة من النموذج الفردي الانعزالي إلى مجتمع رهبان يسير تبع نظام محدد تميز به كل دير. وكان من الطبيعي أن الرهبان الذين انعزلوا عن العالم للاختلاء مع الله تكون لهم دراسات متعمقة في الكتاب المقدس وكتابات تحوي خلاصة دراساتهم وتأملاتهم وخبراتهم. وهكذا تحولت معظم هذه الأديرة إلى مراكز للتعليم اللاهوتي، تحوي مكتبات بها وثائق ومخطوطات نادرة، وصارت بعض الكنائس تشترط أنه قبل رسامتهم للخدمة الكهنوتية يكون الكهنةقد اجتازوا حياة الرهبنة أولاً بما تتضمنه مندراسات لاهوتية عميقة في أحد الأديرة. ومع الزمن تطور نظامٌ للدراسة في العديد من الأديرة، وأصبح على الرهبان والراهبات أن يدرسوا الفلسفة والتاريخ والأدب والفن والشعر والعلوم المختلفة بما فيها الطب والهندسة والفلك أحيانًاجنبًا إلى جنب مع دراستهم للكتاب المقدس والعقائد المسيحية. ومع أن هذه الأديرة صارت أقرب لجامعات يسمح للعامة الالتحاق بها، إلا أن المستهدف الرئيسي كان الرهبان والكهنة المطلوب إعدادهم لقيادة شعب الكنيسة. ويمكن تسمية التعليم اللاهوتي في تلك الحقبة بمدرسة التعليم اللاهوتي والعلوم الإنسانية.فالتركيز على دراسة الإنسانيات، أصبح ضرورة لفهم الله ودراسة اللاهوت!
النصف الثاني من العصور الوسطى، وبدء تأسيس الجامعات الدينية (1000م- 1500م).
تميزت هذه الحقبة بانتشار المسيحية في معظم دول العالم، لاسيما في أوروبا، وكان للبابا سلطة سياسية لا تقل كثيرًا عن سلطته الدينية، وصار هناك صراع شديد بين الكنيسة والدولة وكاد الخط الفاصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية يختفي تمامًا. وقد صاحب هذه الحقبة الزمنية ما أطلق عليه عصر النهضة، لا سيما مع بداية القرن الرابع عشر، وما صاحب ذلك من نهضة في الأدب والفن والموسيقى، والعلوم الاجتماعية والإنسانية واللغات لا سيما اللاتينية واليونانية. وقد صاحب سقوط القسطنطينية في القرن الخامس عشر، هجرة الكثير من الفلاسفة والمفكرين اليونان إلى إيطاليا، مدعمين حركة النهضة والترجمة. وكثر في تلك الحقبة إنشاءالجامعات والأكاديميات المرموقة في معظم دول أوربا. وفي أغلب الأحيان كانت نشأت تلك الجامعات في حضن الكنيسة. وبدأ التعليم اللاهوتي آنذاك يميل إلى التركيز على العقل والتفكر النقدي والمداخل الإنسانية، وركان التركيز الأكبر لتلك الجامعات هو إعداد خريجٍمؤهلٍ للخدمة في وظيفة مدنية أكثر من إعداد خادم للمسيح وراعى لشعب الكنيسة. ومع مرور الزمن أصبح التعليم اللاهوتي في الجامعات الأوروبية درجة عليا تلي البكالوريوس، والذي كان درجة جامعية أولية، شمولية تتضمن دراسات في الآداب والعلوم والحساب والفلك والهندسة والقانون والفن والموسيقي واللغات الكلاسيكية لا سيما اللاتينية واليونانية. ويمكن تسمية التعليم اللاهوتي لتلك الفترة بالتعليم اللاهوتي من مدخل اجتماعي نقدي.
التعليم اللاهوتي في حقبة الإصلاح(1500م-1700م)
مع بداية القرن السادس عشر ظهر المصلحونفي العديد من دول أوربا، فظهر مارتن لوثروملانكتون في ألمانيا، وجون كالفن في سويسرا وفرنسا، وجون نوكس في إسكتلاندا. ومن خلال مبادئ الإصلاح الرئيسية والتي أهمها الكتاب المقدس وحده Sola Scriptura بدأت عملية تنقية اللاهوت المسيحي من التعاليم الزائفة والخرافات، والتي اختلطت فيها تعاليم البشربكلمة الله، حيث كثرت الروايات والقصص التراثية،لا سيما التي تمجد القديسين وتركز على بطولاتهموأعمالهم الخارقة والمعجزات المنسوبة لهم. وأهتم المصلحون في تفسيرهم للكتاب المقدس بالتفسير التاريخي واللغوي بالرجوع إلى اللغات الأصلية للكتاب المقدس -العبرية واليونانية- وأحجموابشدة عن التفسير الرمزي والمجازي والذي كثيرًا ما يقرأ في النص المقدس ما ليس فيه.
لقد ازدهرت الأكاديميات البروتستانتية في زمن أولئك المصلحين، ولا شك أنهم استفادوا كثيرًا من دراستهم العليا في اللغات والكلاسيكيات والإنسانيات التي ميزت تعليم عصر النهضة، ولكن مدخلهم الإصلاحي الذي تجسد في مركزية الكتاب المقدس وفرادة المسيح وأولوية النعمة وحصرية الإيمان للخلاص والتأكيد على إعطاءالمجد لله وحده، كانت بمثابة دعائم ارتكز عليهاالتعليم اللاهوتي في زمنهم وساهمت في تخليصالتعليم اللاهوتي المسيحي مما لحق به من تعاليم بشرية مسيسة، غير مؤسس على الكتاب المقدس.لقد أحيا إصلاح التعليم اللاهوتي من جديد رؤيةإعداد خادم للمسيح وراعٍ للكنيسة بدلاً من إنتاجفلاسفة أو خطباء متفلسفين.
التعليم اللاهوتي ما بعد الإصلاح (1700م-2000م)
تتميز هذه الحقبة بصراع بين التعليم اللاهوتي بالجامعات الدنيوية ومثيله في كليات اللاهوت المسيحية. فبعض الجامعات تنظر نظرة دونية لكليات اللاهوت المرتبطة بالكنائس التي تحاول أن تؤهل خادم للمسيح نشأ على احترام كلمة الله والإيمان بوحيها، وتدرَّب في المقام الأول على دراسة الكتاب المقدس ومحاولة تفسيره بدقة وأمانة للنص، مع السعي الجاد لممارسة التقوى في الحياة العملية. وأعتقد أنه شيئاً فشيئاً بدأت بعض الكليات الكنسية تفقد هذا التميز ربما خوفاً أو خجلاً من أن يُنظر إليها على كونها أقل علميًا وأكاديميًا من التعليم اللاهوتي بالجامعات.
لم ينقذ التعليم اللاهوتي من هذا الوضعالمتردي إلا حركات الإرساليات التي بدأت في إنشاء مراكز لإعداد المرسلين، كانت تهتمبالحياة الروحية والتقوية للمرسل جنباً إلى جنبمع تعليمه اللاهوتي. ومن القادة الذين كان لهم دور محوري في الحفاظ على التوازن بين التعليماللاهوتي الأكاديمي الذي يحترم العقل، وبينالحياة الإيمانية والتقوية. من هذه الأسماء نذكرجون ويسلي ومودى ولايتفوت وويستكوت ووليم كاري الذين أسسوا كليات لاهوت مرموقة في إنجلترا وأمريكا والهند وغيرها من بلاد العالم مع حركة الإرساليات، مثلما حدث مع كليتنا العريقة التي أسسها مرسلو الكنيسة المشيخية الأمريكية عام 1863 أي بعد 9 أعوام فقط من مجيئهم إلى مصر.
خلاصة: لقد تتبعنا بقدر الإمكان مسيرة التعليم اللاهوتي وتطوره عبر التاريخ المسيحي وما قبله. ويخطئ من يظن أن هذا التطور يسير بصورةتصاعدية منتظمة وقاطعة، بمعني أن يُظن أنه مع نهاية حقبة زمنية ما، ينتهي تمامًا شكلٌ من أشكال التعليم اللاهوتي ويبدأ شكلٌ آخر. فالواقع أننا الآن في القرن الواحد والعشرين يمكننا أن نجد العديد من أشكال التعليم اللاهوتي منتشرة حول العالم. فمازال بعض المدارس اللاهوتية تهتم فقط بسلامة المعتقد وكأنها تؤسس العقيدة المسيحية من البداية وتكتبها من أول وجديد. ولا تزال مدارس أخرى معنية أكثر بالتنشئة النسكيةوالهروب من العالم الشرير. وهناك بعض المدارس اللاهوتية لا تجد إمكانية لدراسة اللاهوت إلا بمداخل فلسفية، إنسانية وتوجهات نقدية فقط،وترى أن أي مدخل غير ذلك هو نموذج تعليميسطحي لا يليق بعقل الإنسان. وهناك المدارس التي همها إعداد مرسل مؤهل للكرازة بالإنجيل واجتذاب أُناس للإيمان المسيحي المـُخَلـِّص من الدينونة. وهناك من يري أن التعليم اللاهوتيالجيد لا يحتاج إلاَّ إلى حياة البساطة والتقوى والصلاة ودراسة الكلمة، والبعد عن الفلسفة والتفكير النقدي الدنيوي.
وهكذا لم يعد في الإمكان أن نصف التعليم اللاهوتي في زمننا المعاصر بصفة غالبة كما كان الأمر في أزمنة ماضية، وهذا أمر غير مستغرب في زمن ما بعد الحداثة بما يميزه من تعددية وغياب للمركزية.
تحديات التعليم اللاهوتي بمصر وتأثيرها على صحة المعتقد واستقامة الحياة
يا ليت الإجابة على عنوان الخطاب كانت سهلة، لكن الأمر أعقد مما نتخيل. فلا توجد وصفة سحرية سهلة لإصلاح التعليم الديني واللاهوتي، لأن هناك العديد من التحديات التي تواجه منظومة التعليم في مصر بوجه عام، تترك آثارًا قوية على التعليم الديني على وجه الخصوص. هذه التحديات تؤثر على منتج كليات اللاهوت أي الخريج، سواء في سلامة معتقده أو استقامة حياته أو اتزان شخصيته وسأتعرض في عجالة إلى بعض من هذه التحديات وتأثيرها على التعليم اللاهوتي
1-
تحديات ناتجة عن تدني التعليم الحكومي في كافة مراحله:
لا شك أن التعليم الحكومي في مصرومعظم دول الشرق الأوسط يمر بأزمة حقيقية أثرت وتؤثر على فكر ومهارات وأخلاقيات المواطن في شعوبنا. وطالب كلية اللاهوت هو في الأغلب نتاج هذا التعليم الذي يعتمد على التلقين ويقيِّم الطالب على قدرته على استرجاع ما حفظه مما تلقنه.هذا النوع من التعليم لا يراعي حقيقة أن ذكاء الطلاب ليس بالضرورة هو ذكاء الذاكرة، بل بالتأكيد يتنوع ما بين ذكاء الذاكرة، أو الابتكار، أو العلاقات، أو التخطيط والتنظيم، أو القيادة، أو التحليل، أو اللغات، أو الذكاء الفني الإبداعي ... الخ.هذا النموذج التعليمي الأحادي القياس لا يعطي مكانًا للبحث في المراجع ولا يشجععلى القراءة، حيث الاعتماد على كتاب مدرسي واحد، يُلَخَّص عادة في كتب مساعدة أو مذكرات يأخذها الطالب في الدروس الخصوصية. هذا التعليم لا يُنتج خريجًا متميزًا في اللغات الأجنبية التي تعتبر أهم روافد المعرفة حاليا. أنه التعليم الذي لا يعترف إلا بإجابة وحيدة نموذجية، وكأنه لا يمكن الوصول لغيرها، أنه يقتل قيمالاجتهاد والابتكار للوصول لحلول متنوعة. أنه التعليم الذي يقوض التفكير التحليليويشوه التفكير النقدي ويؤثمه. فمن يتساءل أو يتحير أو يتشكك، يُعامل كشخص مارق أو ملحد أو خارج عن العرف والدين والأخلاق. ناهيك عن آل إليه النظام التعليمي الحالي من استحلال الغش الأكاديمي سواء عن قصد أو عن جهل ببروتكول التعامل الأمين مع المادة العلمية من اقتباس وتوثيق وتأصيل.
أن الطالب الذي يلتحق بكلية اللاهوت يحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد لمعالجةتلك التشوهات التي لا ذنب له فيها والتي ستؤثر -أن لم تعالج- على فكره وأخلاقياتهوقدرته على التحصيل والتشكيل.
2-
تحدي الإدراك الخاطئ لهوية كليات اللاهوت التابعة لكنائس
كليات اللاهوت –لاسيما تلك التي تتبع كنائس وأنشأت في الأساس لإعداد قسوس وخدام وقادة لخدمة تلك الكنائس- لها هوية مركَّبَة لابد من مراعاتها إذا كان لها أن تُعد خدام ذوي عقيدة صحيحة وحياة مستقيمة. هذه الهوية أعبر عنها بكلمات أربعة: مؤسسة، تعليمية، مسيحية، مشيخية(في حالة كليتنا التابعة للكنيسة المشيخية، أو تحمل صفة المذهب التابعة له).
فهي مؤسسة أي لابد أن تدار بحسب لوائح ومجلس له قدر كبير من الاستقلالية ولا يصح لكل من شاء أن يتدخل في شئونهالأن هذا ضد كيفية إدارة المؤسسات. إن إدارة المؤسسة تختلف عن إدارة الكنيسة المحلية حتى وإن كان كلاهما مسيحيين.وهي مؤسسة تعليمية أي عليها أن تتبع كل النظم والنظريات والوسائل التي يقوم عليها أي معهد أكاديمي وأن تنشد التميزالأكاديمي وذلك بتطوير مؤهلات أساتذتها وتنمية مصادرها العلمية من مكتباتومصادر إلكترونية، وتطوير الوسائل التعليمية لتواكب التقنيات الحديثة ...الخ.وهي مؤسسة تعليمية مسيحية أي أن عليها أن تؤدي دورها ورسالتها بقيم ومبادئ مسيحية على كافة الأصعدة: بين الأساتذة والطلاب والموظفين والعاملين والمجلس والجيران والكنيسة العامة والمجتمع ...إلخ. وهي تابعة لمذهب، فكليتنا مثلا مشيخيةمصلّحة، فهي ملزمة أن تحافظ على عقيدة الكنيسة المشيخية وتراثها وتعمق فهم كلمة الله وتنهض بتعبير الكنيسة عن عقيدتها في كتابات وأبحاث تشتبك بصورة عملية مع قضايا العصر ولا تهرب من أسئلة الشباب المحيرة، والتحديات التي يواجهونها بصورة مستمرة. إن إهمال أي عنصر من عناصر الهوية هذه يؤثر سلبًا على أداء الكلية.
3-
تحدى الفهم الخاطئ لرسالة كليات اللاهوت
رسالة أي مؤسسة هي سبب وجودوها.لذلك فالرسالة لا تتغير كثيرًا، ربما يعاد صياغتها بأكثر وضوح وعمق وتفصيل ليسهل تذكرها وتبنيها وتفعيلها في كل أهداف المؤسسة وأنشطتها وجهودها. ورسالة كلية اللاهوت –أي سبب وجودها- هي خدمة الكنيسة التابعة لها في المقام الأول بتأهيل خدام صالحين لقيادة الكنيسة في مجالات احتياجاتها المختلفة كالرعاية والوعظ والتعليم والكرازة وخدمة المجتمع... إلخ.
وهناك فارق كبير بين تأهيل خادم وصناعةخادم. فكليات اللاهوت ترتأي فوق ما ينبغي أن ترتأي عندما تظن أنها تستطيع أن تصنع خادمًا. فالكلية تستقبل شخصًا خادمًا، أيإنسانًا لدية دعوة من الله ويريد بمعونة الله ونعمته أن يخدم لله بأمانة وكفاءة سواء بتفرغ كامل أو بغير تفرغ. وهنا يبدأ دور الكلية في تأهيل الشخص وتعميق دعوتهوصقل مواهبه وتشكيل فكره ليصبح خادمًا نافعًا لخدمة الله والناس. هنا فقط تصبح المصالحة بين سلامة المعتقد واستقامة الحياةهدفًا غير بعيد المنال، مادام هو مسعى مشترك للطالب والكلية.
4-
تحدي تبني فلسفة تعليمية غير مناسبة
كثيراً ما نعتقد أن كليات اللاهوت لا تختلف عن بعضها البعض، لاسيما إذا كانت تبعيتها لمذهب واحد. ومع أن التبعية لمذهب واحد، أو لطائفة واحدة تفرض مساحة من التشابه، إلا أن فلسفة التعليم التي تتبناها كل كلية تلعب دورًا كبيراً في شكل متخرجيها- أي المنتج الذي تُصدِّرَه للكنيسة والمجتمع.
فهناك كليات لازالت تعتمد على فلسفة التعليم teaching وهذه الفلسفة مركزها المعلم. فعلى قدر علمه وعطاءه وتأثيره في الطلاب، على قدر نجاح العملية التعليمية.وتعتبر فلسفة التعليم teaching فلسفة قديمة ومؤثرة ولا يمكن إهمالها رغم ما عليها من مآخذ لأنها تؤدى إلى سلبية المتعلم، وإنتاج نسخٍ من المعلم، أو تخرج أجيال بهم تشوهات روحية أو نفسية، الأمر الذي يحدث عندما يكون المعلم ليس على المستوى المطلوب أو عندما يقع في سقطة ما.
الفلسفة الثانية التي تتبناها بعض الكليات، هي فلسفة التعَلُّم learningوفيها التركيز على المتعلم، ومدى استفادته من العملية التعليمية وهذه الفلسفة بدأ مراعاتها في النظريات التربوية نتيجة إدراك أن تعليم الكبار يتطلب دورًا أكبر من المتعلم،ومسئولية أكثر منه. فعلى قدر ما يبذل من جهدٍ ووقت في القراءة والبحث والتفاعل معمعلميه وزملائه على قدر ما يستفيد ويتعلم.
الفلسفة الثالثة التي تتبناها العديد من المدارس هي التربية education حيث التركيز على المنظومة التعليمية الشاملة بما فيها من معلم ومنهاج ومتعلم ووسائل تعليمية وزملاء دراسة وبيئة تعليمية، وغير ذلك. وعلى قدر انسجام هذه العناصر معًا، على قدر تحقيق مستهدف التربية من فوائد ونتائج إيجابية.
الفلسفة الرابعة وهي الأحدث والأكثر انتشارًا الآن هي التشكيل formationحيث التركيز ينصب على التغيير المرجو حدوثه نتيجة عملية التعليم والتعلم والتربية.وهنا يؤكد ٌRonald Allen أحد المتخصصين في التعليم اللاهوتي أنه لا يمكن أن يقتصر إعداد خادم على البناء العقلي والعقائدي، ولا حتى الاكتفاء بتنمية حياة الإيمان والتقوى فيه، لأن هناك أبعادًا أخرى يجب بناءها في الإنسان حتى يقوم بخدمته لله والكنيسة والمجتمع بشكل سليم. وأشكر الله أن كلية اللاهوت الإنجيلية بمصر قد اختارت منذ عدة سنوات هذه الفلسفة التعليمية وحددت أربعة مجالات مرجوة لإحداث التشكيل والتغيير فيها وهي: 1. التشكيل الروحي spiritual formation ويختص بكل ما يتعلق بعلاقة الطالب بالله، ومدى وضوح الدعوة الإلهية للخدمة وتنمية حياة التكريس والتقديس عنده. هذا الجانب هام للغاية لأن في مجال العمل الديني يسهل أن ينخدع الخادم ظانًا أن وجوده في مناخروحي واستخدامه المستمر لكلمة الله، كافٍ لحمايته من الضعف والسقوط والفتور. 2.التشكيل الفكري cognitive formationويشمل كل جوانب المعرفة والعلم والعقيدة التي ترى الكلية ضرورة أن يحصل عليها من يُعدْ للخدمة. 3. التشكيل الشخصيcharacter formation ويشمل الصفات والسمات الأخلاقية والاجتماعية والروحية التي يُرى حاجة الخادم والقائد المسيحيالتحلي بها. 4. وأخيراً التشكيل المهارىskills formation والتي تهدف إلى تنمية قدرات الخريج ومهاراته التي تمكنه من أداء مهام عمله المتوقعة بكفاءة، سواء في مجال التعليم أو التفسير أو الرعاية أو الإدارة ...إلخ.
أن فلسفة التشكيل هذه، إذا أعطيت الفرصة للتطبيق الجيد والتجويد المستمر، لابد أن تنتج لنا خريجًا متوازنًا في الفكر والسلوك، والكلام والعمل؛ متسقًا مع ذاته على المنبر وفي البيت والمجتمع.
5-
تحدي اختيار الوسيلة المناسبة للتشكيل المستهدف
في رحلة حياتي مع التعليم اللاهوتي عايشت التأرجح ببين مسببات النجاح والفشل. فهناك من يؤكد أن الحل هو في اختيار الأهداف والألويات الصحيحة، لاسيما إن كان لديه تجربة ناجحة في هذا الأمر. ونجد آخر يدعو إلى اختيار الوسائلالتعليمية المناسبة والحديثة والمجربة علمياً وعالمياً، وقد يكون لديه هو الآخر تجربة متميزة تؤكد هذا.
والحق يقال إن هذا الأسلوب في التفكير أشبه بمن يُضيع الوقت في مناقشة أيهما أهم في سلامة المينى الأساسات أم الأعمدة؟
لذلك أود أن أوكد أن فلسفة التشكيل التي تتبناها كليتنا هي فلسفة رائعة والجوانب الأربعة -الفكرية والروحية والشخصية والمهارية- تمثل اختياراتٍ حكيمة من وجهة نظري ومناسبة لإعداد خادم مؤهل لمواجهة احتياجات وتحديات هذا العصر. لكننا نحتاج أن ندعم كل جانب من هذه الجوانب بالوسيلة المناسبة لتحقيقه.
فالتشكيل الروحي، يحتاج إلى توفير المناخ المناسب للطلاب، المناخ الذي تتحقق فيه خبرات روحية تلقائية في العلاقة مع الله، يشترك فيها الطالب والموظف والأستاذ والعامل: في خبرةاستجابة الصلاة، في التمتع بإرشاد الله، في صنع سلام مجتمعي، في تسديد احتياجات الكلية كأفراد، ومجتمع ومؤسسة... إلخ. فمثلاً تخيل أن احتياجات الكلية وأعبائها المالية، بدلاً من أن تعامل كشأن إداري فقط، قد وضعتضمن قائمة صلاة، يشارك فيها مجتمع الكلية كله ليتعلم الطلاب أن قادتهم يحققون النجاح ليس فقط بالجهد والعمل والتخطيط بل كما يقول الكتاب "في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتعلّم طلباتكم لدى الله" (في 4: 6).هنا يتأكد الطالب من أن التعليم اللاهوتي والحياة ليسا اختيارين منفصلين، ولا خطان متوازيان بل هما خبرة إيمانية، تعليمية وعملية متكاملة.
أما التشكيل الفكري فلا يجوز النظر إليه باعتباره بشريًا أو غير روحي. فهذا النوع من التشكيل يحتاج دون شك إلى تطوير المكتبات وعلم البحث وزيادة المصادر الإلكترونية وتحسين المناهج باستمرار وتبني وسائل تعليمية حديثة. وصقل مهارات القراءة والبحث عند الطلاب، وأيضًا مهارات النقد والتحليل والكتابة الأكاديمية والحوار والإلمام بالأسئلة الفلسفية والوجودية، وبناء الحجة والتفكير المنطقي وغير ذلك من مهارات.
والتشكيل الشخصي يحتاج إلى حياة تلمذة يقودها الأساتذة ويعيشوا فيها مع الطلاب ليس فقط في الفصل، بل في الملعب والمطعم وأماكن التدريب الصيفي وفي بيوت الأساتذة. يحتاج الطلاب أن يروا أساتذتهم وقت قوتهم وضعفهم، في نجاحهم وفشلهم، في أفراحهم وأحزانهم، يحتاجوا أن يرون ردود أفعالهم وهم يُمدَحون ويُمجَّدون ويُكرَّمون وأيضاً وهم يُنتقَدون ويُجرحون ويُهانون! يحتاج الطلاب أن يرىكيف يتصرف أساتذتها بشريًا وإنسانيًا كآباءوأبناء وأزواج وأصدقاء، وأيضاً كيف يتصرفون في كمسئولين في أدوارهم الرسمية سواء في الكنيسة أو الدولة.
التشكيل المهارى يتطلب هذا النوع من التشكيل زيادة جرعات التدريب وفتح العديد من المجالات التي تضاعف فرص الممارسة أمام الطلابلمختلف المهارات التي تتطلع الكلية لإكسابها لمتخرجيها. وقد تميزت كليتنا بتدريبها الرعائيالعملي بالصيف، ولكننا نحتاج إلى ابتكاروسائل وفرصًا عديدة وغير تقليدية لتطوير مهارات الوعظ، والتفسير، والكتابة، والكرازة، والرعاية،والقيادة، والإدارة، والتخطيط، وقيادة فترات العبادة وحل النزاعات وغير ذلك. نحتاج أن نتذكر أن طلابنا هم في الأساس خدام وقادة في كنائسهم ويملكون من الخبرات الكثير ويمكن الاعتماد عليهم في الكثير من اللجان والأعمال المطلوب إنجازها في الكلية، الأمر الذي يخلق مجالات متعددة لصقل المهارات تحت عين وإشراف الكلية بل ويعطى فرصًا للأبداع لأفكار جديدة، بالإضافة إلى التخفيف عن أساتذة الكلية.
6-
تحدي الاختيارات الأحادية المتطرفة
هذه نزعة بشرية يوجه عام ولكنها ميل شرق أوسطي ومصري بامتياز. فنحن ننقلب ما بين تطرف وآخر ونتحول كثيرًا من نقيض إلى نقيض: المدرب مصري أم أجنبي؟ الـمُنْتَج محلى أم مستورد؟ ترجمة اللاهوت الغربي أم التمسك بالتراث الشرقي؟ هويتنا عربية أم مصرية؟ علاقاتنا ننشدها مسكونية أم إنجيلية أم مشيخية؟ العظة المؤثرة بالتحضير الجاد أم بالاعتماد على إرشاد الروح القدس؟ في المرض نلجأ للأطباء أم نكتفي بالصلاة؟ في الكنيسة ننشد العدد أم النوعية؟
هذا يعود بي إلى عنوان خطابي التعليم اللاهوتي بين صحة المعتقد واستقامة الحياة. هنا أريد أن أختم خطابي بأني متعاطف مع كل من ينزعج من نماذج خدام متخرجين من كليات لاهوت، قادة في الكنائسووعاظ مشهورين يملكون صحة المعتقد ويقفون على المنابر كمعلمين مبهرين، مفوهين. إذا دخلوافي حوارات أو جدل لديهم من الحجة والمنطق والمعرفة ما يفحمون به الآخر. يستطيعون حشد الجماهير ونوال إعجابهم وتصفيقهم وليكاتهم على الفيسبوك، ولكنهم في حياتهم وسلوكهم وتصرفاتهم يتنكرون للمحبة الحقيقية والاستقامة الأخلاقية والنزاهة المهنية والقداسة المسيحيةويظهر ذلك في استغلال مناصبهم وسلطاتهم في فساد أو منافع مالية أو علاقاتية. "لهم صورة التقوى لكنهم ينكرون قوتها" (2تى 3: 5).وبحسب وصف الرسول يعقوب، هم أشبه بالشياطين الذين يؤمنون ويقشعرون (يع 2: 19)بدلاً من أن يؤمنوا ويعيشوا ما ينادون به، أو يؤمنوا ويتغيروا.
أمام هذه الحالات المخزية تبدأ الجماعة للأسف في الانقسام، فهناك من يرى أن سلامة المعتقد أهم من أي شيء آخر. وهناك من يقول بلاستقامة الحياة هي الأمل، الحياة الشاهدة هيالأقوى تأثيرًا فهي قادرة أن تتكلم وتعلم وتؤثرأكثر من عشرات العظات! أليست هذه هي الحججالتي نسمعها، لا سيما ممن تعثروا من سقطاتالمعلمين والوعاظ والخدام المشهورين؟.
لا يا أخوتي. اسمحوا لي لن أؤيد هذا الرأي أو ذاك. مدخل الاختيار الأوحد والانتقال من نقيض إلى نقيض. فأنا هنا أدعو كليتي وكنيستي في تعليمها اللاهوتي أن تعي توبيخ السيد المسيح إلى معلمي الشريعة بأنه كان ينبغي التمسك بعمل التفاصيل الدقيقة في الناموس دون إهمال جوهر الناموس أي الحق والرحمة "كان ينبغي أن تفعلوا ذلك ولا تتركواتلك" (مت 23: 23). أني أدعو كنيستي وقادتها لا سيما وهم مقبلون على سنودس إصلاحي، إلى الحرص الكامل على نقاوة التعليم الكتابي والتعمق فيه وتطويره وأدعو كليتي إلى الاستمرار في السعي دون كلل إلى مدخل متكامل في إعداد خريجين مقتدرين في القول والفعلكسيدهم (لو 24: 19)؛ خدام أفعالهم تؤيد أقوالهم، وأعمالهم تشهد لتعليمهم. أدعوهم للتعليم القويم بسلطان الحياة المقدسة بالروح القدس. أدعوهم لتقديم دراسات معاصرة تناقش الأسئلة الصعبة ولا تخشى الأسئلة النقدية فقد أمرنا السيد المسيح أن نفتش الكتب أي نمتحنها، ويشهد سفر أعمال الرسل أن أهلية بيرية كانوا أشرف من غيرهم لأنهم كانوا يفحصون الكتب كل يوم متسائلين هل هذه الأمور هكذا (أع 17: 11)؟ ويشهد كاتب العبرانيين أن المتعلمين الناضجين الذي تخطوا مرحلة تناول اللبن العقلي أصبح عندهم قدرة نقدية بحواس مدربة تمكنهم منالتمييز بين الخير والشر (عب 5: 14). إني أهيب بالكلية في تعليمها اللاهوتي الرسمي والكنسية في تعليمها اللاهوتي غير الرسمي أن لا تهرب من التحديات المعاصرة، ولا من الأسئلة الشائكة للشباب، بل أن تقدم التفسير الكتابي الممسوح بالروح القدس، والفكر اللاهوتي المدعم بتواضع المعلم، والمؤيد بصلواته. هذه النوعية من الدراسات هي التي تشجع الطلاب وتبني المستمعين وتعمق فهمهم لكلمة الله وثقتهم فيها. هذا هو التعليم الذي ينير القلب والعقل معًا، ويكشف للدارس كمال الله، وصلاح مشيئته، وعظمة مقاصده، وروعة وصاياه. هذا هو التعليم الذي يظهر خبايا القلوب فتنكشف للدارسذاته بضعفها ونقائصها وآثامها، فتكون له فرصة للسعي للقداسة والنمو في شبه السيد المسيح الذي يتتلمذ له "ونحن ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح" (2 كو 3: 18). إن هذه الوصفة التي تجمع بين سلامة المعتقد واستقامة الحياة وصحتها قادرة على جذب كثيرين ليس فقط للتعليم اللاهوتي بل لمعرفة الرب يسوع كسيد ومخلص. فعندما يختبر الطالب هذا النموذج الممتع من التعليم المغير للحياة، يستطيع أن يجيب المتشكك والمتسائل "هل من الناصرة يخرج شيء صالح" فيقول له "تعال وانظر" (يو 1: 46). أي تعال واختبر بنفسك روعة الحياة المقدسة الطاهرة المثمرة، الممكنة فقط في يسوع المسيح.
وفي الختام، دعوني وأنا أوجه تهنئتي للدفعة المائة والخمسين أن جهودهم الدراسية خلال عدة سنوات تتكلل اليوم بحصولهم على شهادات علمية معتمدة من كلية مرموقة. لكني أذكرهم بأن الرحلة الأصعب للتعليم اللاهوتي، أي التعلُّم عن الله، تبدأ اليوم وتستمر مدى الحياة. وحذاري لكم من إهمال هذه الرحلة. أن حصولكم على إجازة اللاهوت -لا سيما من سيتفرغون كخدام للكلمة وقسوس- يجعلكم محط أنظار جميع الناس. فلا مجال أن تستهينوا بصحة العقيدة ولا باستقامة الحياة. ولا يصح أن يُخدَم إلهنا بدون مهارة اليدين، ولا من شخصيات عنيفة، أو شريرة أو مستبيحة، أو فاسدة. أن خدمة السيد تحتاج منا أن نكون عجينة طيعة بيده كالفخاري الأعظم لكي يشكلها كل يوم وينقيها فتحمل ثمر الروح ويصير خدام الله من فداهم الله وقدسهم بدم ابنه"مشابهين صورة ابنه لكي يكون هو بكرًا بين أخوة كثيرين" (رو 8: 29).