فى عام ١٩٩٨ نظمت قاعة لو كاروزيل بمتحف اللوفر معرضا للفنان الوزير فاروق حسني. خرجت من محطة المترو المواجهة تماما لمدخل القاعة وهممت بعبور شارع ريڤولى الفاصل بينهما فإذا بى أسمع خلفى من يقول «عدينى الشارع معاك» التفت وكان أول لقاء بيوسف شاهين. كأنى أعرفه منذ سنين. سألنى ونحن ندخل قاعة المعرض المكتظة بالضيوف من أى البلاد فى مصر أكون؟. رددت: «اسكندراني». ضحك قائلا إن: «يبقى هانبقى أصحاب».
كل من ولدوا بالإسكندرية يصبحون أسرى ذكرياتهم بالمدينة إلا يوسف شاهين فهو سجين مكان ميلاده، وظل يبحث عن حريته فى أفلام شهيرة استوحاها من المدينة وأعطى اسمها فى عناوين تلك كزخرف لتلك الأفلام. وفى عام ١٩٩٩ طلبت جمعية فرنسا-مصر فى مدينة ليموچ أن يحضر شاهين أسبوعا عن الإسكندرية وعرضا لفيلمه «إسكندرية ليه». ووافق شاهين وحضر إلى فرنسا، ولكنه تراجع مقترحا حلا ماكان يمكن أن أرفضه. عرض الرجل تصوير ڤيديو معى به رسالة محبة واعتذار لأهل ليموج. وحضر الفنان ممدوح أنور مصور مكتب الأهرام بباريس لتصوير اللقاء بفندق شهير بشارع سان بيير حضرته مونيك سوڤاج رئيسة الجمعية.
كانت شعبية يوسف شاهين فى فرنسا أكبر منها - أو هكذا بدا لنا آنذاك- فى مصر والعالم العربي. فى فرنسا له ألف صديق وعلى رأسهم دومينيك بوديس رئيس معهد العالم العربى وزوجته إيزابيل اللذان يستقبلانه بحرارة وكانت له فى مصر قصص مريرة مع النقاد والجمهور والرقابة. وعند خروج فيلم «المصير» للعرض فى باريس كان النجاح كافيا والصحافة الفرنسية جعلت من الفيلم أفضل سلاح ثقافى لمقاومة التعصب الديني. كان شاهين فى السحاب من فرط السعادة، والواقع أن الفيلم كان تحفة فنية. ولاحظ شاهين أن الإعلام الفرنسى حريص دوما على التركيز على مكان ميلاده وكأن الإسكندرية هى جواز سفره الحقيقي أو الجسر الذى عبر عليه إلى شهرته الأوروبية. «ألم تكن الإسكندرية هى أوروبا قبل أوروبا» قال ذلك فى لقاء صحفى مزدحم قبيل تصوير حلقة تاريخية من برنامج «أبوستروف» الشهير مع بطرس بطرس غالي.
استطاع شاهين توظيف سكندريته فى فنه، أو الالتفاف عليها، ربما على طريقة داونى بالتى كانت هى الداء. فى كل الأحوال كان الرجل يعرف أن سجن عمره هى الإسكندرية، ولم تكن لديه أبدا النية للخروج منه.