رغم سنوات عدة على رحيله، يظل اسم المفكر الكبير زكي نجيب محمود واحدًا من أبرز فلاسفة العرب ومفكريهم في القرن العشرين، وأحد رُوَّاد الفلسفة الوضعية المنطقية. وهو القائل: "العلمُ بمنهجِه يرسمُ لنا الصورةَ الدقيقةَ لِما هنالِك، وما كانَ وما سوفَ يَكُون، ولنا بعدَ ذلكَ أنْ نتَّخذَ لأنفسِنا الموقفَ الذي نَرْضاه، فمَنْ يَدري؟ قد تكونُ نازِعًا برُوحِك إلى تصوُّفٍ بغضِّ النظرِ عمَّا كانَ وما هو كائنٌ أو سوفَ يكون".
ولد زكي نجيب محمود في قرية "ميت الخولي عبد الله" التابعة لمحافظة دمياط في الأول من فبراير عام 1905، وفي طفولته التحق بكُتَّاب القرية، وعندما نُقِل والده إلى وظيفة حكومية في السودان -وكانت آنذاك تابعة للقطر المصري- واصل تعليمه في المرحلة الابتدائية بمدرسة "كلية جوردون"، وعند عودته إلى مصر التحق بالمرحلةَ الثانوية، ثم تخرَّجَ في مدرسة المُعلمين العليا بالقسم الأدبي في عام 1930، وفي سنة 1944 أُرسِل في بعثةٍ إلى إنجلترا حصل خلالها على بكالوريوس الشرفية من الطبقة الأولى في الفلسفة من جامعة لندن؛ لينال بعدَها مباشَرةً درجةَ الدكتوراه في الفلسفة من كلية الملك بلندن في عام 1947. عمل بالتدريس عقب تخرجه والتحق بهيئة التدريس في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، وظل بها حتى أحيل على التقاعد سنة 1965، فعمل بها أستاذًا متفرغًا، ثم سافر إلى الكويت سنة 1968، حيث عمل أستاذًا للفلسفة بجامعة الكويت لمدة خمس سنوات متصلة.كذلك كانت وزارة الثقافة قد انتدبته للعمل بها سنة 1953، وعمل أستاذ زائر في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم عمل ملحقًا ثقافيًا بالسفارة المصرية في واشنطن عامي 1954 و1955؛ أما الصحافة، فقد اجتذبته في فترة مبكرة من حياته،
خلال تلك السنوات كان الباحث الطموح، الذي سيصير فيما بعد فيلسوفًا كبيرًا، يشكَّلَ موقفه من التراث العربي مُعضِلةً فكرية كبيرة، فما بين دعوات هدم التراث، وأخرى تُنادِي بتقديسه. وقف زكي نجيب محمود موقف الباحث الفاحص لا المؤيد أو المُشكك، ويُمثِّلُ كتابه "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري" تغيرًا جوهريًّا في موقفِه من التراث، فبينَما نادى في كتاباتِه السابِقة مثل "خرافة الميتافيزيقا"، و"نحو فلسفةٍ علمية" باستبعادِ التراثِ العربيِّ من النهضةِ الفكريةِ لِما به من خرافات، إذا بهِ يَتراجعُ عن موقفِه هذا بعدما أدرَكَ أن التراثَ يُمكنُ الأخذُ منه والاستفادةُ بما هو معقولٌ فيه، ويتلاءمُ مع العقلِ والمنطِق، دُونَ أن يُجبِرَ القارئَ على التسليمِ برأيِه، فترَكَ له حريةَ الاختيارِ حينَما ضمَّنَ في كتابِه ما هو معقولٌ وما هو لا معقولٌ من وجهةِ نظرِه في تراثِنا العربيِّ الفكري.
وحين تَم إِعلان الحرب على كل ما هو قَدِيم، واعتِباره شيئا ولى زمانه، وانقضت أوقاته، وماتَ زَخَمهُ بموت رجاله مِن ناحِية، والإِقبالِ عَلى ثَقافَةِ الغَربِ إِقبالَ العَطشَى المُعدِمِينَ مِن ناحِيةٍ أُخرَى. وقَعت الثقَافة والمثقفون العرب في فَخ التَّنافُرِ؛ مَضَى زَمانٌ وكُلُّ فَريقٍ يَسُوقُ لمريدي فكرته ما يُثبِتُ صِحَّةَ ما ذَهبَ إِلَيه، وبَينَ هَذا وذاكَ ضاعَتِ الثَّقَافةُ العَرَبيَّة، وتاهَ المُثقَّفُونَ وَسطَ مَعرَكةِ الجَدِيدِ والقَدِيم. حاول زكي نجيب محمود في كتابه "تجديد الفكر العربي" أنْ يُجِيبَ عَن سؤال ملِح يَبحَثُ مِن خِلالِهِ عَن طَرِيقٍ يَقُودُنا إِلى ثَقافة موحدة متسقة، تَندَمِجُ فِيها الثَّقَافةُ المَنقُولةُ عَنِ الغَربِ وتِلكَ التِي وَرِثنَاها عَن تُراثِنا العَرَبيِّ الأَصِيل.
أما كتابه "في حياتنا العقلية" فقد كتبه بعدما أفرزت الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من أَحْدَاثٍ جِسامٍ هَزَّتْ أركان المجتمع، وصنعت حَرَكةً عَقْلانِيَّةً كُبْرى، وظَهَرَ ذَلِك جَلِيًّا فِي الإنتاج العلمي لكثير من رواد ذلك العصر، كانَ مِنْه: «الإِسْلامُ وأُصُولُ الْحُكْمِ» لِعلي عَبدِ الرَّازِق، و«في الأدَبِ الجَاهِلِيِّ» لِطَهَ حُسَيْن. حيث يُقارِنُ زكي نجيب محمود بين "المُثَقَّفِ المُنْعَزِلِ الَّذِي يَنْعَمُ بِثقَافتِهِ لِذَاتِهِ فَقَطْ وَيَبْنِي مَدِينتَهُ الْفَاضِلَةَ خَارِجَ الْوَاقِعِ الاجْتِماعِي، وَالْمُثقَّفِ الثَّورِيِّ الَّذِي يُغَيِّرُ ما حَوْلَهُ في الحَياةِ بِمَا اكْتَسَبَهُ مِن ثَقَافة. يُوضِّحُ كَذَلِك مَا تُحْدِثُهُ ازدِوَاجِيةُ القِيَمِ والصِّرَاعُ الدَّاخِلِيُّ لَدَى الإِنْسانِ بَيْنَ ما هُوَ قَدِيمٌ ومَا هُوَ جَدِيد، مُتَحدِّثًا عَنِ الفَلْسَفةِ ودَوْرِها في هَذَا الصِّراعِ الدَّائِر، خاتِمًا مُؤَلَّفَهُ بِمُناقَشَةِ المَنْهَجِ المَارْكِسِيِّ وَالحَلِّ الاشْتِرَاكِيِّ لِمُشْكِلةِ التَّخَلُّفِ الاقْتِصادِيِّ والاجْتِماعِي". يقول: "لَوْ أنَّ كَلَّ تَغيُّرٍ يَطْرَأُ عَلَى الْحَياةِ الإِنْسانِيَّة يَسْتَتبعُ في ذَيلِهِ فَوْرًا نَمطًا جَدِيدًا مِنَ الفِكْر، يُسايِرُ ذَلِكَ التَّغيُّرَ الظَّاهِرَ عَلَى وَجْهِ الْحَيَاة؛ لَمَا وَقَعَ الإِنْسانُ فِيما يَقَعُ فِيهِ دائِمًا إبَّانَ مَراحِلِ الانْتِقالِ الكُبْرَى، مِن تَعارُضٍ بَيْنَ حَياتِهِ الخارِجِيَّةِ البَادِيةِ أَمامَ أَعْيُنِ النَّاس، وَحَياتِهِ الدَّاخلِيَّةِ الَّتي يَعِيشُها مَعَ نَفْسِه كُلَّما فَكَّرَ أَوْ شَعَر."
وفي كتابه "هموم المثقفين" يناقش تشكَّلُ البيئة الثقافية حيث تنحدر وتزدهر وفقا لِما يَشغلُ الرأيَ العامَّ الثقافيَّ من أفكار، وما يَنتجُ عن رُوَّادِه من كِتابات تُعبِّرُ عن اهتماماتِهم، وما يَملأُ عليهم حياتَهم، وأول ما يدفع الحركةَ الثقافيةَ إلى الضمور هو انحصار كامل اهتمامها حول القضايا السياسية المحضة، أو الذهاب نحو إرضاءِ القارئ فحسْب دونَ ترْكِ أثر فيه بعد قراءةِ مقال أو سماعِ حديث من أحدِ المثقَّفين.
أما كتاب "قصة عقل" والذي صدر لأول مرة عام 1983، فيضم عشرة فصول، يروي من خلالها الدكتور زكي نجيب محمود سيرة "العقل" في حياته، بعد أن مهد لذلك بالكتابة عن "قصة نفس" التي صور بها حياته ونشأته وعوامل تكونيه، الفصل الأول يسرد لنا مراحل تطور "العقل" لديه منذ ظهوره وحتى أوشك على نهاية رحلته، والفصل الثاني يتحدث عن مرحلة الانتقال، وسفره إلى لندن للالتحاق بجامعتها في أواسط الأربعينيات حتى حصوله على الدكتوراه وعودته إلى مصر، والفصل الثالث يعرض مسيرة العقل الذي يروي قصة تطوره، بين أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينات حين دعا في مصر إلى الأخذ بثقافة الغرب أو العصر لأن الغرب عنده هو العصر لأنه هو صانع حضارة عصرنا، والفصل الرابع ينتقل للحديث عن التجربة العلمية أو ما كان يسمى بالوضعية المنطقية التي رأى فيها ضوابط تصلح طريق السير أمام الثقافة العربية، ووفي دفاع عن العقل وهو موضوع الفصل الخامس، يرى زكي نجيب محمود أن الجانب العقلي جانب عام مشترك بين الناس، والجانب الوجداني فردي خالص، والفصل السادس يعرض لنظريته في النقد وموقفه من الأدب والفن، ويعكس من خلالها موقفه من التجريبية العلمية، والفصل السابع يبين فيه أن حديثه عن التفكير العلمي وجانب العلم ومنهاجه لا يعني إنكار الجانب الوجداني من خطرة الإنسان وحياته، فلا ينكر الجانب الوجداني إلا مجنون، والفصل الثامن يتناول موقفه من التراث مبينًا أننا بإزاء الماضي أمام كومة متراكمة من مواد البناء، نتقدم ونأخذ منها ما يحلو لنا أن نأخذه ثم يقيم من البناء الجديد الذي يزيد.