في جولة ميدانية لـ"البوابة نيوز"، بين محطات مترو الأنفاق، من الشيخ الخلفاوي ومحطة سانت تريزا، وصولا إلى مارجرجس وعمرو بن العاص، رصدت تجسيد الوحدة الوطنية، بين شبرا ومصر القديمة؛ حيث كنيسة العذراء، وأول مسجد، وأقدم الكنائس، والمعبد اليهودي، بما يؤكد عراقة الأديان وسماحة الإسلام.
التقت "البوابة نيوز"، القس صموئيل العريان، بكنيسة العذراء المعلقة بمصر القديمة، وقال: إن الكنيسة من أقدم الكنائس الموجودة في مصر، ويعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي، وهى مميزة وفريدة في طرازها المعماري لأنها معلقة "تم تشييدها على برجين من حصن بابليون"، وتم وضع جذوع النخل على الحصن، وبناؤها من أعلى بدون أي أساسات، الكنيسة على ارتفاع ١٣ مترا، فوق سطح الأرض، بدون أي أساسات، كلها حوائط حاملة.
وأضاف "العريان"، أن سقف الكنيسة خشبي لتقليل الأحمال، ومن أهم مميزاتها انها أول مقر بابوي داخل القاهرة، حينئذ كان الكرسي في الإسكندرية ثم تم نقله للقاهرة من أجل أن يكون بجوار الرئاسة والتي كانت في مدينة الفسطاط، وكان هناك ود وتواصل وتعايش بين الأطياف كلها، واستمر نحو ٢٠٠ سنة الكرسي موجود بالكنيسة المعلقة.
وتابع : تشتهر الكنيسة بالفن المصري القديم، والذي يتميز بالزخارف المميزة، الكنيسة مبنية على شكل فلك نوح، وهذا رمز للنجاة والخلاص، وديكور الكنيسة هي تجميعة من الأخشاب مكونة من زخارف مرسومة على الجدران، ومجموعة من الأخشاب على هيئة عاشق ومعشوق مكونة من العاج والأبانوس والأرز، وهذا في حد ذاته إبداع لأننا نري العامل المصري القديم وهو لديه القدرة على الحفر على العاج بدقة، دون استخدام أي معدات أو أجهزة تكنولوجية حديثة أو غيرها.
وأكد "العريان"، أنهم يعيشون نموذجًا حقيقيًا متفردًا من التعايش السلمي واحترام التنوع، فنري منازلنا بجوار بعضنا البعض، داخل إطار أو نطاق الكنيسة والمسجد والمعبد، لا تفرقه بين العائلة والأخري، نحب بعض ونود بعضنا البعض ونعيش في سلام حقيقي، وأتذكر عند قيام الثورة وبالأخص وقت الفوضي والشغب كان المصريون يعيشون حالة من القلق، بينما نحن كنا مطمئنين لأن أهالي المنطقة من المسلمين والمسيحيين هم من قاموا بحراسة وحماية باب الكنيسة، وأكدوا لنا أنه لن يحدث أي سوء للكنيسة.
واستطرد : نحن نعيش في تسامح وسلم كما علمنا السيد المسيح نحب كل الناس، ونقدم الخير لكل البشر، دون النظر إلى جنسهم أو عقيدتهم أو لونهم ونجد مردودا، توجد آية في الكتاب المقدس سفر الجامعة "اِرْمِ خُبْزَكَ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ بَعْدَ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ"، فأي عمل خير تقوم به سيعود لك.
وأشار العريان، إلى أن أول من بارك له برسامة الكهنوت هو أحد جيرانه المسلمين، وقام باحتضاني، فهذه المشاعر غمرتني بأحاسيس الحب والمودة والرحمة التي نعيشها ونستمتع بها.
وكشف العريان، أن المكان مفتوح لكل أطياف المجتمع والبشر، من أجانب ومصريين، من كل الأطياف والأجناس، ونقوم بتقديم شرح لكل الزوار مسلمين ومسيحيين، يأتون طالبين شفاعة السيدة العذراء مريم، وكثيرون منهم يعودون مرة أخرى يروون قصص ومعجزات حدثت معهم، ويقول بعض المترددين إنهم فخورون بتاريخهم وتراثهم ويشعرون برهبة جميلة، ويقول البعض الآخر إن المكان مريح للنفس.
كما يأتي طلبة كثيرون، من الجماعات المختلفة مع أساتذتهم لعمل مشاريعهم البحثية الخاصة بكلياتهم الخاصة بالفنون والعمارة والزخارف في الكنيسة، بجانب رحلات المدارس لزيارة المنطقة ككل "الكنيسة والمسجد والمتحف القبطي والمعبد اليهودي"، لكي يشاهدون نموذج التعايش والتنوع الحقيقي.
ملتقى الحضارات
وعن مجمع الأديان بمصر القديمة؛ قال الدكتور أحمد درويش، أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر، وعضو المنتدي الإبراهيمي في مصر، إن مجمع الأديان بمصر القديمة ملتقى الحضارات والأديان السماوية.
وأضاف "درويش": كان فتح مصر على يد الصحابى عمرو بن العاص، عام 21هـ /641م، حدثا كبيرا، وتعتبر الفسطاط بمصر القديمة، أول عاصمة لمصر الإسلامية، ولهذه المنطقة أهمية بالغة لأنها خير شاهد على التسامح الدينى الذى دعت إليه جميع الأديان السماوية، فالله واحد، ومُشَرِّع القيم السمحة واحد.
جامع عمرو بن العاص
هو أول مسجد أُسِّسَ في قارة أفريقيا، ورابع مسجد بنى في الإسلام بعد مسجد قباء ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، والحرم المكى بمكة المكرمة، ويقال له تاج الجوامع.
الكنيسة المعلقة
تُعَدُّ أهم الكنائس القبطية داخل حصن بابليون، وعُرفت بالمعلقة لأنها بنيت على أنقاض جدران برجين من الأبراج القديمة لحصن بابليون الأثرى، ويرجع تاريخ إنشائها إلى القرن الخامس الميلادى.
وعندما انتشرت المسيحية وتحول الرومان للمسيحية تحول المعبد الوثنى إلى أقدم كنيسة باقية في مصر، وهى تعد رمزًا لانتصار المسيحية على طغيان الرومان. وهذه الكنيسة من أقدم كنائس مصر القديمة على الإطلاق.
كنيسة أبى سرجة
عُرِف عنها أن العائلة المقدسة استراحت في مغارة أسفلها حينما أتت إلى مصر، أثناء رحلة العائلة المقدسة وهروبها من فلسطين.
معبد بن عِزْرَا اليهودى
يكتمل مجمع الأديان بوجود معبد بن عزرا اليهودى، الذى يعد واحدا من أكبر المعابد اليهودية وأهمها، وسمى المعبد بهذا الاسم نسبة إلى (عزرا الكاتب) أحد أحبار اليهود. ما لا يعرفه الكثيرون عن معبد بن عزرا اليهودى، أن هذا المعبد في الأصل كنيسة وباعها المسيحيون لإبراهام بن عزرا رئيس الطائفة اليهودية في عهد أحمد بن طولون كى يسددوا الضرائب.
وسُمِّى المعبد لإبراهام بن عزرا تكريما له، وعُثر داخل المعبد عام 189م على مجموعة من وثائق الجينيزا والتى ضمت نحو 200 ألف وثيقة تاريخية مهمة توضح الكثير من المعلومات عن تاريخ اليهود وكذلك نصوصهم المقدسة.
ما فعله عمرو بن العاص من إنشاء المسجد في الفسطاط بجوار الكنيسة والمعبد، فكرة عبقرية غير مسبوقة، ورسالة من الماضى للحاضر، ليس لمصر وحدها وإنما للعالم أجمع، فالرسول بُعث للبشرية كلها كما قال القرآن الكريم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، لقد تعامل عمرو بن العاص بروح التسامح والمحبة، وأبدى المسلمون سلوكا حضاريًا وإنسانيًا، وأصبحت مصر فعلا مثالا للتعايش وأنموذجًا لحوار الحضارات.
وقال "درويش"، لـ"البوابة نيوز"، إننا نتوقف عند بعض المشاهد التى حدثت أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم والتى تشير إلى التطبيق العملى لسماحة الإسلام.
المشهد الأول في احترام المعتقد؛ حين قدم وفد نصارى نجران إلى المدينة المنورة، رغبة في الحوار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد دخل أعضاء الوفد إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كما تذكر السيرة يلبسون أزياءهم الكنيسة، ويحملون الصلبان في أعناقهم، وقبل أن يبدأوا حوارهم مع رسول الله استأذنوه في الصلاة، فأذن لهم رسول الله، فدقُّوا النواقيس في المسجد، وصلوا صلاتهم على مرأى من كل المسلمين، وبرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتابع : ألا يشير هذا إلى عمق العلاقة التى أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادها الإسلام. رسول الله يحاور المسيحيين في المسجد، ويصلون فيه صلاتهم، وهى صورة راقية، أرادها الإسلام أن تكون عنوان العلاقة مع المسيحية.
المشهد الثانى: ولعله الأكثر دلالة في الجانب الأمني، حين أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الحبشة هربا من طغيان قريش، وقال لهم حينها: اذهبوا فإن بها ملكا لا يُظلم عنده أحد حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه، وهى أرض صِدق. وقد كان النجاشى مسيحيًا، ونزلت فيه الآيات التى تحدثت عن تعاطفه مع ما قرأه عليه جعفر بن أبى طالب، رئيس وفد المسلمين المهاجرين إلى الحبشة، ومما ورد في القرآن عن السيدة مريم والسيد المسيح، الآية (83) من سورة المائدة: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).
ولما علم الرسول بوفاة النجاشى، صلى عليه صلاة الغائب، ولم يُصَلِّ عليه أحد في الحبشة، لأن موته كان بعد عودة المهاجرين كلهم إلى المدينة.
وجاء في خطبة الوداع: "ياأيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، وكلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربى على عجمى، ولا لعجمى على عربى، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر، فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب".
وقد شمل الإسلام بيسره ورفقه غير المسلمين؛ فتسامح معهم في كثير من القضايا والأحكام، ومنحهم كثيرا من الحقوق.
واختتم درويش، بقوله: لم يخل المجتمع الإسلامى، في كل عصوره، من غير المسلمين، ولا عجب في ذلك، فهذه الظاهرة تتناسب مع عدالة الإسلام، وعدم الإكراه على اعتناقه، وتقرير مفهوم العيش المشترك مع غير المسلمين في مجتمع واحد، يسوده نظام محكم دقيق، يستند إلى القرآن والسنة واجتهاد الفقهاء، يعطى كل ذى حق حقه.