استمعتُ وقرأت لما جاء على لسان الرئيس الأمريكى جو بايدن في خطابه حول ما جرى فى أفغانستان، وكان الرجل صادقا فيما قاله، وجاءت كلماته تعبر عن واقع مرير، يتعلق بأن الدول لا يمكن أن يحميها المرتزقة والمأجورون، ولا يمكن أن يدافع عن بلد إلا من خلال الإرادة الوطنية التى تنبع من القلب والوجدان وتبنيها التربية والسلوك المجتمعى.
سيد البيت الأبيض قال حرفيا: "ما حدث تم بأسرع ما كنا نتوقع، والقادة فى أفغانستان استسلموا وهربوا من بلادهم، وانهار الجيش الأفغانى دون مجرد محاولة القتال".
وزاد وقال: "الفائدة مما حدث أن قرار إنهاء "التواجد" – وهو ما يعني فى مفهومنا الاحتلال- فى أفغانستان كان القرار الصحيح، ولا يمكن للقوات الأمريكية أن تقاتل أو تموت فى حرب لا ترغب فيها القوات الأفغانية أن تدافع عن نفسها ولا تقاتل فيها بلادها.
وما يحزن جو بايدن ليس أفغانستان وما جرى فيها من تدمير وحروب أهلية لسنوات، وخلق وتوطين عداءات ستظل راسخة في الوجدان بين أهلها، ولا يمكن أن يمحيها الزمن، ولا التصالح، بعدما سالت فيها الدماء أنهارًا على مدى عشرين عاما، وراح ضحيتها الآلاف من الأفغان بالباطل وبالحق على أيديهم البعض مع البعض.
ما يحزن جو بايدن، وفق تفسير كلامه على ما أنفقته واشنطن خلال "احتلالها لهذا البلد الآسيوي"، فقد قال فى خطابه: “قد دربنا وجهزنا قوة أفغانية قوامها ٣٠٠ ألف فرد تعادل بل تفوق قوات دول في حلف الناتو ودفعنا لهم رواتبهم، وأجرينا الصيانة لقواتهم الجوية، وهذا لا تملكه طالبان، والتى لا تمتلك أي قوات جوية، وقدمنا دعمًا جويًا عن قرب”. نلاحظ هنا كلام الرجل واضح أنه مادي فقط، لا يعنيه أي شيء آخر.
وينتقل إلى نقطة أخرى وهى الأهم من وجهة نظرى فى خطابه عندما تحدث عن الجيش والحكومة الأفغانية قائلا: "أعطيناهم الفرصة لتحديد وبناء مستقبلهم، ولقد أعطيناهم كل شىء وكل ما يريدونه، وأنفقنا عليهم أكثر من تريليون دولار،- وفى تقديرات أخرى يصل الرقم إلى الضعف- لكن الذى لم نستطع أن نقدمه لهم الإرادة في القتال من أجل بناء مستقبلهم، ولكن كانت أفغانستان (الحكومة) غير قادرة على حشد أى أحد من أجل القتال، والتصدي لطالبان".
مضيفا: "لا يمكن الآن أو بعد سنة أو أخرى أو خمسة أو ٢٠ عاما، فالتجربة أثبتت أن القوات الأمريكية لن تستطيع فعل أي شىء على الأرض، ولهذا سنكمل انسحابنا بعد سنوات من إراقة الدماء ولننهي أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة"، وهو اعتراف واضح وملموس بالفشل الأمريكي، وكل الدول التي خاضت الحرب معها في أفغانستان، وتكرار واضح لما جرى معهم في حربهم الطويلة في فيتنام.
"ووضوح الرجل يتحدد أكثر فيما قاله: "إنّ هدف مهمّتنا فى أفغانستان لم يكن يومًا بناء دولة ويقصد دولة أفغانستان، ويعين أنه كان الهدف هو حماية مصالح أمريكا، ويعود فيقول: "والحقيقة هي أنّ كلّ هذا حدث بشكل أسرع بكثير ممّا توقّعنا".
.. ويدرك هدف منافسيه وأعدائه في هذه المنطقة من العالم "الصين وروسيا"، عندما قال: "إنّ منافستينا الإستراتيجيتين الحقيقيتين، كانتا ترغبان بأن تستمرّ الولايات المتحّدة إلى ما لا نهاية فى تكريس مليارات الدولارات من مواردها واهتمامها لتحقيق الاستقرار فى أفغانستان".
وينتقل "جو بايدن" إلى أهم نقطة في حديثه، وإن كان يقصدها أو لا يقصدها والتى قال فيها: "لقد تم تجهيز أفغانستان عسكريا بشكل لا يصدق وبكل المقومات العسكرية وأعطانا كل الأدوات، ولكن أن الأحداث التى نراها فى أفغانستان، دليل ما جرى شيء محزن، فلا توجد أي قدرة أفغانية من القوة العسكرية، من شأنها توفر الاستقلال والأمن لأفغانستان، إلا أننا لم نستطع أن تقدم لهم "إرادة القتال" وإن كان هناك البعض من الجنود الشجعان، إلا أن القدرة والاقتناع بالقتال عن الوطن ومستقبله غير موجودة، ولن نستطيع تقديمها فى ٢٠ سنة أخرى، ولهذا كان القرار باستكمال انسحاب قواتنا كاملة من أفغانستان والمعروف عنها أنها مقر الإمبراطوريات".
هذا الكلام لرئيس الولايات المتحدة ولكن ما تقوله له: إن الإرادة للقتال وصناعة البشر والدفاع عن الموت والاستشهاد والموت والتضحية عن الوطن ومن أجله لا تشتريها الأموال، بل هى إيمان من الداخل، ولا يعنى ذلك أن طالبان لديها ما حاولت أمريكا إيجاده، فحماية الأوطان لن تشتريها دولارات العالم الغني والاستعماري.