المجموعة الشعرية "الشعر امرأة" للشاعرة المصرية علياء زين الدين الصادرة عن دار المهجر ببروكسل 2019 تمثل واحدة من المجموعات الشعرية الثرية والتجارب المهمة في شعر قصيدة النثر لما تكشف عنه من صوت خاص وله قدراته وسماته الجمالية، ولما يتشكل فيه من قيم دلالية مهمة، ولما تملك نصوصها من قدرة على منح المتعة واطلاع القارئ على زاوية رؤية وإحساس مختلفين بالوجود، ومن منظور مغاير لأغلب ما هو سائد. فالذات الشاعرة أو صاحبة الصوت الشعري الرئيسي في هذه النصوص تحقق لديها حسّ خاص بأن الاختلاف في رصد العالم أو الإحساس به على نحو عميق هو أول المنافذ الواسعة إلى تحقيق الشعرية وإنتاجها.
نصوص هذه المجموعة تتمثل وتقارب حالات نفسية وشعورية عميقة ومغايرة ومن ثم ينعكس كل هذا على علاقتها باللغة أو تعاملها معها، فتأتي لغة النصوص مشكلة على نحو يبدو فيه التبئير داخليا، أي أنها لغة تتدافع في إنتاجها من منطلقات ومحددات داخلية مرتبطة بالشعور وبالدفق الشعري والعاطفي، فتأتي الاستعارات أو الانزياحات وغيرها من الأنماط البلاغية والأسلوبية بدافع من مركزية الإحساس المهيمن على القصيدة كلها أو بتفاعل شامل بين وحدات النص، فتكون الاستعارات أو أي من هذه المظاهر البلاغية متوائمة ولا يمكن فصلها عن الشعور أو الإحساس بأنها نوع من الاستعراض التصويري مثلا كما يكون في بعض حالات شعرية أخرى. فليس لديها شيء من استعراض أو أدنى مبالغة في الإعلان عن قدرات لغوية خاصة، بل تتشكل لغة النص في إطار الحال الشعرية الشاملة الحاكمة له. وفي تصورنا أن بنصوصها كثيرا من السمات اللغوية العربية القديمة أو المتجذرة في الثقافة العربية، فثمة ما يمكن وصفه بالنسق الإنشائي أو التنبيهي المرتكز على اللغة الصاخبة أو اللافتة الانتباه، ويأتي ذلك عبر أساليب النداء وحروف التنبيه وأسماء الإشارة وارتفاع النبرة أحيانا أو أفعال التوجع وما يعرف في النحو بأسماء الأفعال أو الاستفهام بأشكاله المختلفة بين الحقيقي والاستنكاري.
ونتصور أن الإنماط التراثية وتوظيف المكون التقليدي أو المكونات الممتدة والأنساق التركيبية القديمة في الشعر الحديث وبخاصة قصيدة النثر مسألة تحتاج إلى دراسة أكاديمية معمقة ومنهجية، وهذا حسب ما تنبه له بعض التجارب الشعرية الثرية مثل تجربة علياء زين الدين وآخرين، لأن في هذه التوظيفات والاستخدامات نمط مهم من التداخل والتفاعل بين مستويات مختلفة للغة، وتكشف عن كون لغة قصيدة النثر العربية ذات ارتباط بتراثنا الشعري الممتد ومرتبطة كذلك بما هو ممتد في الذهنية والوجدان العربيين من كون الشعر في جانب منه يقوم على الظاهرة الصوتية والصخب وأن ذلك لا يتعارض بشكل دائم مع جوهر الشعرية أو يناقضها، وكذلك فيها تفاعل بين مستويات من الهمس والصخب والقدرة على المراوحة والتحول بينهما بما يزيد من جماليات النص ولا يخل بتماسكه وكليّته.
ومثال ذلك فيما يخص جانب نعومة الاستعارات واندماجها في الحال الشعرية ونبوعها من الحال الشعورية وأنها انزياحات عفوية للغة ومؤطرة بالذهنية الشاعرة الحاكمة للنص كله، ما نجد في هذا المثال حين تقول: (النهر لا يخاف العتمة/ الماء أعمى لا يخاف امتزاجه بالدم/ أو أن تشربه العجول/ أنا لا أخافك). فهنا بدأ التشخيص بالنهر في حال ليست جزئية بل كلية من التصوير الشعري القائم على تشخيص وأنسنة عناصر الوجود الأخرى، فكانت البداية بالنهر وهو الكل والأصل بالنسبة للتالي عليه في التشخيص وهو الماء، لأن الماء جزء من النهر وابنه، فكان رسوخ عدم الخوف في الأب أو الأصل/ النهر يحتم بشكل طبيعي أن الماء يكون هو الآخر أعمى لا يخاف امتزاجه بالدم، فثمة ترابط منطقي بين الصور ونوع من التدافع والسببية الخفية أو المتوارية، وهي في الحقيقة ناتجة عن وحدة الحال الشعورية التي نبعت منها الصور كما ذكرنا سابقا. ثم كان ختام هذه الصورة الشعرية المتشابكة والمركبة من عدد من الصور الفرعية أن جعلت الذات الشاعرة نفسها مطابقة بشكل رمزي مع الماء أو النهر، فاستمد الإنسان كل الصفات السابقة المنسوبة للنهر والماء، لتتحقق لدينا في المجمل نوع دائري من الاستبدال أو استعارة الأفعال والصفات، فالنهر يستمد سمة الخوف من الإنسان، والماء يصبح أعمى ولا يخاف وهي أيضا صفات إنسانية، ثم حين تقول في جملة ختامية للصورة (أنا لا أخافك)، فهي تسترد كل ما مضى من أفعال وصفات، لأن هنا يتحقق تشبيه غير نمطي ويعتمد على الرمزية، فالجذر الدلالي أو المعنى المتواري أنها مثل النهر ومثل الماء لا تخافك، لأنك مثل العتمة وأنك قريب في علاقتي بك بعلاقة الماء الذي يمتزج بالدم ولا يخاف أن تشربه العجول، وبغير هذه الإشارة الختامية للصورة ينتقص من السيرورة الشعرية كثير من مراحلها الثرية، لأن هذه هي الغاية الأساسية من التشبيهات والاستعارات أن يكون الإنسان والتعبير عنه هو الغاية النهائية، ففي هذه الصورة مقاربة لمشاعر المرأة وعلاقتها بحبيبها ولكن عبر سبيل مختلف من التعبير وعبر طريقة خاصة في الإسقاط وامتطاء أشياء الوجود وعناصره الأخرى لتكون مرآة للإنسان أو يرى الإنسان فيها نفسه، فالذات الشاعرة رأت نفسها في علاقتها مع هذا الآخر الغائب أو الحبيب الغامض في مرآة "الماء والنهر" إن جاز التعبير. والحقيقة أن الصورة نفسها لازال فيها الكثير مما يمكن تأويله أو النظر في جمالياته.
وبشكل عام فإن في نصوص هذه المجموعة الشعرية سمتا ونسقا عاما من امتزاج الإنسان بعناصر الكون والوجود كله، في حال من التناغم والتفاعل وبذا يكون في النصوص قدر من البانورامية أو توسيع الرؤية بما يتجاوز أحيانا الحضور الإنساني في الأطر التقليدية أو المساحات والآفاق المحدودة والضيقة، على أن اللغة أحيانا ما تميل إلى نمط من اللعب بالكلمات أو المفردات المخاتلة أو المعبرة عن معنيين، فالنجوم مثلا يتم استخدامها في تصوير مشهد الرقص بتعبير مزدوج يجمل بين الكوني والأرض، فحال النشوة التي تهيمن وتظلل المشهد الشعري تحيل إلى تحليق مع الفوقي أي أنها النجوم والكواكب في السماء، واللفظة في آن منفتحة على المعنى الدارج في التعبير عن المغنيين العظماء بالنجوم، ليتحقق فيها نوع من المخاتلة أو التلاعب الممتع والمراوغة الشيقة التي لا تخلو من لعبة ذهنية ورمزية مع المتلقي، وهذا سمت عام تقريبا في لغة كافة نصوص المجموعة.
يلف روح هذه النصوص أو أكثرها حال من الغزل الجديد والطريف، من التغزل بالذات أو الآخر ونمط من اللعب واللهو والاستمتاع الذي أحيانا ما يحدث التحول إلى نقيضه في نصوص أخرى، فتكون قد عبرت على عديد الحالات الإنسانية من الفرح والحزن والخوف والترقب والدهشة والتساؤل أو التفكير والتدبر في هذا الوجود انطلاقا من ذاتها في الأساس. وفي هذه المجموعة كذلك استثمار جيد للأساطير والحكايات التاريخية وكثير من عناصر التراث العربي والإنساني على نحو يجعل النصوص منفتحة على عوالم أوسع وعلى طاقات تعبيرية أخرى تجعل النصوص أكثر ثراء وتحرك ذهن المتلقي إلى خارج النص أو تجعله في نوع من الحركية الذهنية الدائبة. ترصد حالات تحولات الإنسان تحت وطأة فكرة الموت أو فكرة التطور والتقادم في الحياة وتكوين الخبرة والنضج والبلوغ والحب وغيرها مما يشكل الإنسان أو يصنع تحولاته الصانعة للشجن.
وتتغير وتيرة التعبير الشعري في نصوص المجموعة بين الانفعال والغضب وبين الهمس والفرح أو بين المساءلة والمحاكمة للوجود والإنسان، وهكذا تكون قد مثلت عديد المشاعر المختلفة وقاربتها كلها بما يناسبها أو يجعلها متفاوتة في التعبير أو الانفعال، وتختلف الاستعارات والمفردات وكافة مستويات اللغة الشعرية باختلاف الوتيرة أو الحال الشعرية، فتطغى مفردات وصور الهمس والحب والرقة واللذة في حالات، وتطغى مفردات العنف والقوة والصخب والقسوة والتعذيب في حالات شعرية أخرى، على نحو ما نرى في هذه الصور حين تقول: (لن يعرفوا الحب يا بيليتيسُ/ أطعميهم موائدك ليرقَّ جلدُهم/ قبل أن يجزُّوا التلالَ بالمناجلِ/ قبل أن يصبُّوا الحديدَ سكاكينَ/ قبل أن يُتقنوا الشرّ في محاريبِ العبادةِ/ قبل أن يتحولوا إلى ممالكَ من رمادٍ/ بعد أن يَجْنُوا مِنَ الشَّمْسِ عُذْرِيَّتها). ففضلا عن الاستدعاء الجمالي وتوظيف اسم الشاعرة السورية القديمة بيليتي التي كانت قبل الميلاد ومعروفة بشاعرة الحب أو نصوصها والغنائية في الحب، فإن بالنص جماليات أخرى مهمة، وهو التعبير عن تلك القسوة المتجذرة في البشر والجنون الراسخ والكامن من البدائية في طبائعهم، وهذا ما يجسده النص في صورة (يجزون التلال بالمناجل) أو يصبون الحديد سكاكين، أو يسرقون من الشمس عذريتها أو يتقون الشر في محاريب العبادة، أو غيرها من الصور والحقيقة أن الجمال في هذه الصور كثير في تركيبها ولغتها فضلا عن تدافعها وتتابعها على هذا النحو من التلاحق لتعبر عن شحنات من الشر الكامن في الطبيعة البشرية، ولكن لو نظرنا مثلا إلى صورة يجزون التلال بالمناجل سنجد فيها تناغما صوتيا ناتجا عن تفاعلات اللام الأخيرة المسبوقة بالألف، فضلا عن كونها معبرة عن قسوة مستحيلة وحرفية خطيرة في الشر تمكن من جعل المناجل قادرة على جز التلال، وفعل جز يدل على السهولة، والفكرة ليست في المناجل بمعناها الحرفي، بل الفكرة في السهولة والسرعة والإصرار على تشويه الطبيعة وفرض قسوة الإنسان عليها والتلال تحديد قد لا تفعل شرا يستدعي كل هذا العنف، وكذلك الشمس التي يسرقون عذريتها، فالغريب أن يقدر أحد على سرقة شيء من الشمس، وفيها كذلك التناغم الصوتي الناتج عن تردد السين بين مفردتي الشمس والسرقة. والحقيقة أنها كلها يمكن البحث فيها جماليات عديدة أخرى. وهي تستلهم شخصيات تاريخية أخرى وبخاصة من النساء مثل سافو الشاعرة الإغريقية، وكذلك هيباتيا الفيلسوفة التي قتلها المتشددون المسيحيون في الإسكندرية. وكذلك شخصية ميدوسا الأسطورية اليونانية التي ترمز إلى القبح واللعنة التي حلت عليها بعدما أخطأت في المبعد، وتحولت من الجمال إلى أقصى درجات القبح والتشوه.
تميل بعض النصوص إلى نزعة درامية وخطابية يعلو فيها الحوار الجدلي بين الشخصيات والأشياء التي تتم أنسنتها على نحو ما تفعل الذات الشاعرة مع الموت وتخاطبه أو تقيم معه جدلا طويل وتجعل المرأة وحدها في مقابل الموت، هي رمز للحياة والجمال وهو رمز الفناء كما لو كانت بينهما مبارزة أو حرب فردية ليس فيها غير هذين الطرفين. تقول: المرأة أرق من أن تعترف/ أنها مَنْ خلقت الماء على شاكلتها/ وأنك أيها الموت/ قبلة فوق شفاه العدم). ولا يمكن أن نغفل أن الماء هو رمز الحياة والتجدد والإنبات والميلاد في الكون، في والمرأة هي التي صنعته على شاكلتها، والحقيقة هذه صورة طريفة وفيها الكثير جدا من المعاني والجماليات لأن الماء يبدو هو المقلد للمرأة أو صورة لها والمرأة منبعه، وفي الصورة قد من الجمال، فهي والماء بالتراتب ليسا مصدر الحياة فقط ولكن الجمال أيضا، لأن كلمة التشكل تعني من بين ما تعني الجسم أو الهيئة والليونة والرقة والانحاءات والتسلل، فكأن الماء أخذ كل هذا في هيئته من المرأة، في أصل كل الجمال في الوجود، كما هي كذلك أصل الحياة والإنبات. في حين يكون في مقابل ذلك الموت الذي هو قبلة على شفاه العدم، أي النقيض التام لكل ما سبق. والطريف كما قلت أن يأتي هذا في إطار الحوار والمواجهة بين الذات الشاعرة وبين الموت وكأنها نوع من المصارحة له بمشاكلها معه أو موقفها منه.
والحقيقة أن كل نص يحتاج إلى وقفة طويلة منفردة لمقاربة واستكشاف جمالياتها وقيمها الدلالية وسبر معانيها العميقة، بل ربما كل صورة هي بذاتها نموذج فني، ولهذا فإن نصوص هذ المجموعة تحتاج إلى المزيد من البحث وجديرة بالقراءة وحافلة بالمتعة والدهشة.