قالوا لنا: إن العرب أهل فصاحة وبلاغة، فافترضنا أن العرب الأوائل فهموا الكتاب؛ لأنه جاء بلسان عربى، ونمنا على ذلك قرونا عديدة ورددنا أفهامهم وحفظنا تصوراتهم وما فهموه من المصحف وفقا لأرضيتهم المحدودة للغاية ولغتهم الشعرية ذات القوافي البائية والتائية المبنية على المترادفات التي ظنوها متطابقة الدلالة، واعتمادهم الطاغي والمفرط على المجاز .
* ولكنهم لم يفهموا عربية المصحف الدقيقة، ولم يعوا أن المصحف جاء بلسان عربى مبين (مبين)، لم يفهم العرب ذلك اللسان العربى المبين الجديد المنضبط المحدد اللفظ الذي حدد الإحداثيات المعرفية لكل لفظ والمدلول أيضا وغير معانى الألفاظ من خلال وضعها واستخدامها في سياقات عديدة، كما لجأ ربى إلى تغيير شكل رسم اللفظ لغير دلالته.
* لم يفهموا اللغة العربية الربانية الجديدة بنظامها الدقيق الجديد بعد أن خلَّصها الله جل وعلا بقدرته اللامحدودة من عيوبها فى الاستخدام البشري، وضبط وفرق بين مدلولات الألفاظ فيها، وحولها إلى لغة منضبطة للغاية لكن العرب لم يفهوا اللغة العربية الجديدة الربانية.
* وهربنا نحن قرونا عديدة من مهمة البحث والتحري والتدبر والسهر من أجل الفهم الرشيد، وارتحنا لتكرار فهم الأولين فتسبب فهمهم فى كل هذا الإرهاب والذبح والترويع للناس كما تسبب في كل هذا التشويه للدين، ولنبي الرحمة الخاتم، الذى رسموا له أسوأ صورة مسيئة عبر مروياتهم، وكتبهم التى رفعها البعض إلى مرتبة الدين المقدس بل تعدى الأمر ذلك فأصبحت تلك المرويات وحكايات أهل المغازى تلغى المصحف نفسه، حيث تم نقل مركز الدين في أكبر عملية تحريف تمت للدين عبر التاريخ إلى كتب أخرى بشرية، ما أنزل الله بها من سلطان أزاحوا بها كتاب الله واستبدلوه بها.
* ووجدنا بعد كل ذلك أنه علينا أن نواجه تلك الأزمة، وأن نعتمد على أنفسنا وأن نتدبر بأنفسنا، وأن نتخلى عن تلك القراءة الأولى لعرب القرن الثانى والثالث الهجري، وأن نرد لديننا المظلوم إنسانيته وعالميته ورحمته وروعته، وأن نسقط تلك الرافعة النصية التى يتوسل بها الإرهابيون فى كل الكوكب.
* ولأن القرآن كتاب (ألفاظ ومعانى) وليس كتاب قواعد، لذا فلا يمكن فهم مفردات القرآن بدقة إلا اعتمادا على قراءة بعض (مصنفات) اللغة العربية (وهى عديدة ومتوفرة وغنية جدا)، فالقرآن ليس كتاب نحو، والمعانى هى ما تصنع القواعد وليس العكس.
* كذلك لا يمكن فهم عربية القرآن وهى دقيقة الدلالة ومعجزة، إلا اعتمادا أيضا فى رأينا المتواضع على ( ثلاثة) مناهج دقيقة وحصرية فى التعامل مع اللغة العربية عموما:
* أولها: منهج إنكار الترادف (الذي ظنوه ثراء للغة وسعة) أو ما يعرف ب (اللاترادف) لثعلب الكوفى ( أحمد بن يحيى) إمام النحاة فى القرن الثالث الهجرى الذي يتأسس على أنه (لا يوجد لفظان فى عربية المصحف لهما نفس الدلالة) ونفس المعنى والذى قال قولته المشهورة (ما تظنوه متشابها، هو في الحقيقة متباين)، وتلميذه (أبي علي الفارسى) وتلميذ أبي علي الفارسى (ابن جني)، الذى بلور اتجاه مدرسة أستاذه فى كتابه الشهير (الخصائص) وقال إن اللغة لم تنشأ دفعة واحدة، وابن فارس تلميذ ثعلب أيضا وصاحب معجم المعاجم والذى يضم أول وأهم خمسة معاجم فى العربية والمعروف ( بمعجم مقاييس اللغة).
* بالإضافة وبالتلازم الشديد مع منهج العلامة الفراهيدى (الخليل بن أحمد) (العلامة الذى شكل المصحف فى القرن الثانى الهجرى) فى الاشتقاق والتقليب للجذور اللغوية للفظ الواحد، وتجريب كل جذر للفظ الوارد حتى يقبل السياق ويستقيم المعنى، ويختار بين جذرى اللفظ أو جذوره.
*ثم بالتلازم ايضا مع منهج الجرجانى (عبد القاهر) مؤسس علم البلاغة فى القرن الخامس الهجرى، الذى فرق بين المعنى المعجمى والمعنى السياقى للفظ، وأعطى السلطة كاملة للسياق فى تحديد المعنى للفظ فى كل مرة، والذى قال إنه لا يمكن فهم نص لغوى على نحو لا يقبله العقل، وقال: (عندما يكلم المتكلم السامع فإنه لا يقصد إفهامه معانى الألفاظ المفردة إنما هو النظم والسياق).
والذى قال بتلازم اللغة والتفكير، وإن ألفاظ تلك اللغة ترتبط وتعبر عن التفكير القائم زمن اختراع اللفظ فاللغة وسيلة للتعبير عن التفكير الإنسانى، فالكلام الإنسانى نشأ كوسيلة لتعبير الإنسان عن رغباته، حيث التلازم بين اللغة والتفكير، وعلينا أن ندرك أن التفكير الإنسانى مر بمرحلتين هامتين أولا مرحلة إدراك المشخص المحدد بحاستى السمع والبصر، بعيدا عن المشاعر والأحاسيس ثم مرحلة حديثه وهى إدراك المجرد
حيث اكتملت البنية اللغوية تدريجيا عندما تم إدراج المجردات، وعليه فعلينا إدراك التلازم بين اللغة والتفكير وتطور ذلك التفكير.
* ومن مصنفات اللغة التى ننصح بالاطلاع عليها كتاب العين طبعا (للفراهيدي)، وهو العمدة وكتاب الأضداد (لابن الأنبارى) وكتاب جمهرة اللغة (لابن دريد) وكتاب مقاييس اللغة (لابن فارس) أو لسان العرب (لابن منظور) أو الأساس للزمخشرى، أو المخصص لابن سيده، أو الخصائص (لابن جنى) أو تاج العروس ( للزبيدى)، تهذيب اللغة (للأزهرى) أو كتاب الألفاظ (لابن السكيت)، دلائل الإعجاز ( للجرجانى)،
ويجب أن نشير إلى أهمية معجم مقاييس اللغة الذى يضم أول خمسة معاجم عربية فى مقدمتها العين للفراهيدى، وغريب الحديث لابن سلام، والغريب المصنف لابن سلام أيضا، وجمهرة اللغة لابن دريد، والمنطق لابن السكيت.
* ولكل لغة مميزات وعيوب طبعا، ولقد خلص الله فى كتابه اللغة العربية من عيوبها، وجعلها دقيقة للغاية ومحددة، فخلصها من عدم القدرة على الإيجاز والتحديد والفصل وغلبه المجاز عليها أيضًا.
* فقال تعالى: (امرأته وزوجه وصاحبته) ليفرق بين ثلاثة أوضاع للزوجة مع زوجها، وقال تعالى (الزوج والبعل) ليفرق بين وضعين للزوج مع زوجته، وقال تعالى: (الوالدين والأبوين) ليفرق بين من أنجب ومن ربَّى، (والصلاة والصلوة والصلوت)، ليفرق بين الصلة بالله ورسوله، وصلاة الظهر أو العصر ،والزكاة التى هى الصلة المالية بالله، مثلا و(الرحمة والرحمت) ليفرق بين وضعين للرحمة، و(نعمة ونعمت).
* كما فرق الله جل وعلا بين (الخلق والجعل) حيث الخلق هو التصميم (الديزين) والجعل التالي على الخلق والذي يتطلب وجود الخلق أولا ثم يأتى الجعل ثانيا، والبلاغ والإبلاغ ليفرق بين مهمة الإعلام العام، ومهمة الإعلام الخاص لكل فرد على حدة.
والوفاة والموت ليفرق بين وفاة مشاعر وأحاسيس الميت وموت جسده، والعام والسنة، والحول ليفرق بين أوضاع فلكية محددة، والقرية والمدينة ليفرق بين طبيعة السكان في المكان هنا وهناك (أحادية أم متعددة)، والإسراف والتبذير، ليفرق بين حالتين مختلفتين مدمن الخطايا المسرف والمستهتر في إنفاق ماله المبذر، و(العباد والعبيد) ليفرق بين من يملك إرادته ومن لا يملكها، والنبأ والخبر، ليفرق بين النبي والمخبر وبين النبؤة المستقبلية الغيبية والحدث الفعلي والسيئة والذنب ليفرق بين الخطأ فى حق الناس والخطأ فى حق الله، والبيان والبلاغ، ليفرق بين الإفصاح عن الشيء وعدم كتمانه وبين مهمة إبلاغه للآخرين، والتمام والكمال، ليميز بين إتمام الشيء المتقطع كمدة الرضاعة للطفل وبين إكمال الشيء غير المتقطع كيوم من أيام الصيام مثلا أو الدين نفسه الذي جاء متقطعا فى وصاياه ثم في شرائعه، و(جمع وجميع) ليفرق بين القلة والكثرة في جمعهم، فجمع تعبر عن قلة ضعيفة، وجميع تعبر عن كثرة منتصرة أو حاشدة فى اجتماع الناس، والشهيد والشاهد الذي حضر الواقعة حضورا كاملا، ورأي بعينيه وسمع بأذنيه، وبين الشاهد الذى غاب عنها وأخذ رأيه فيما حدث، والبشر والإنسان، ليفرق بين الخلق الأول ثم الحال بعد التسوية والعدل والنفخة للبشر.