بعد منتصف ليلة شتوية باردة، كان آمر القلعة يترقب وصول مجموعة من الجنود آتية من همذان، ومعها الرجل الذي غضب عليه الأمير سماء الدولة وقائده تاج الملك، حيث أرسلاه سجينًا إلى قلعة "فردقان" المعزولة في الصحراء، والواقعة في مكان مخيف نأت عنه الطيور والأحياء، وبات موحشٌا وفزعًا.
كان ذلك الرجل الموقوف من قبل الأمير وقائده هو الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا، الذي تحل ذكرى ميلاده اليوم (980م- 1037م)، والمكان قلعة فردقان القريبة من همذان التي حملت اسمها رواية الكاتب يوسف زيدان "فردقان.. اعتقال الشيخ الرئيس" والصادرة عن دار الشروق، ووصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2020.
ويبدو أن "زيدان" له مبرراته بحيث يتجه لكتابة سيرة حياة الفيلسوف ابن سينا، أولها التشابه الكبير بين العصرين: الأول الذي عاش فيه الفيلسوف، والثاني الذي يعيش فيه المؤلف، وخاصة ما يتعلق بالتفتت الذي يدور فيه المسلم، وتوزعه بين الولاءات، فثمة شيعة وسنة، وكل فريق منقسم على نفسه، يتربص لحظة بأخيه كي يباغته وينتصر عليه. كما تتصاعد حدة الصراعات المذهبية الطائفية، مع سيطرة الجمود العقلي والتقليد على الفكر الديني.
لذا، لجأ المؤلف إلى حياة ابن سينا يلتمس فيها المواجهة الحقيقية مع الواقع البائس؛ لكون الفيلسوف ينحاز بصورة واضحة إلى أحكام العلم والعقل والفلسفة.
تأخذ الفلسفة أو الحكمة -وفقًا لرسالة الطبيعيات لابن سينا في كتاب "عيون الحكمة"- دور استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة البشرية.
هذه الحقائق التي يقسمها ابن سيناء إلى نظرية وعملية، يجعلها صاحبة الدور الأهم في كمال النفس، حيث شجع على العمل بها قائلا: "فمن أوتى استكمال نفسه بهاتين الحكمتين فقد أوتى خيرًا كثيرًا".
والحكمة العملية حدودها الشريعة الإلهية ويتصرف فيها العقل لمعرفة قوانينها الجزئية، وهي ثلاثة أقسام: قسم يخص تعلم المشاركة بين الناس للتعاون من أجل مصالح الأبدان وبقاء نوع الإنسان. وقسم لتعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنتظم المصلحة المنزلية. وقسم يخص تعلم الفضائل لتزكية النفس وتطهيرها.
أما الحكمة النظرية عنده أيضا ثلاثة يتصرف الإنسان لتحصيل كمالها بقوته العقلية، ومنها: قسم يختص بالحركة والتغير ويسميها حكمة طبيعية. وثان من شأنه تجريد الذهن عن التغير ويسميها حكمة رياضية. وثالث يتعلق بما وجوده مستغنٍ عن مخالطة التغير ويسميها الفلسفة الأولية.
إن كانت هذه وظيفة الفلسفة عند الشيخ الرئيس، فإنه من المنطقي أن يتجه "زيدان" صوب حياته، فالإنسان العربي على وجه الخصوص بحاجة لتفعيل دور الفلسفة والتأمل العقلي، لذا نجد المؤلف استقى عمله من بيئة مشابهة ليجعلها مبررا لطرح التفكير العقلي في المواجهة أمام حالة الجمود.
تزدحم سيرة حياة الشيخ الرئيس بالكثير من التفاصيل والأحداث المهمة لارتباطه بالعلم والسياسية، وفي كتابه "تاريخ الفلسفة في الإسلام" يستعرض المستشرق الهولندي دي بور حياة ابن سينا لافتًا إلى دور الحظ الذي أسعده بشفاء الأمير نوح بن منصور الساماني على يديه، وهو في السابعة عشرة من عمره، فأذن له الأمير بالدخول إلى دار كتبه، فتولى قراءة الكتب بنفسه وحل صعبها.
ويصفه دي بور بأنه فيلسوف يمتلك من الاستقلال وقوة الشخصية بحيث كانت له طبيعة تأبى عليه أن يطأطئ رأسه لأي أمير من الأمراء الذين اتصل بهم، كما أنه لم يخضع لأي أستاذ من أساتذته.
وظل يشتغل بالعلم وتصنيف الكتب حتى تقلد الوزارة لشمس الدولة في همذان، وبعد أن مات هذا الأمير جاء ابنه سماء الدولة فدفع بالفيلسوف إلى السجن بقلعة "فردقان"، فلبث فيه بضعة شهور، ثم سار ابن سينا حتى بلغ مجلس علاء الدولة في أصفهان، ومات وهو في السابعة والخمسين من العمر في همذان بعد أن فتحها علاء الدولة.
ومن السجن في القلعة المخيفة ينطلق "زيدان" في مغامرته الروائية التي تأخذ طابعًا حزينًا منذ مشهد البداية الذي يتسلل من خلاله الراوي إلى عمق الأحداث، ومن قبله التصدير الذي بدأ به "زيدان"، وهو شطر بيت لابن سينا يقول فيه: "لما غلا ثمني عدمت المشتري"، وما يتضمنه من إحالة لمكانة الطبيب والفيلسوف المهدرة، وإمكانية التنبؤ بما قد تتجه نحوه هذه المغامرة الأدبية.
تشيع حالة تتسم بالحزن منذ مشهد البداية، وهي عاطفة ملائمة لهذه اللحظة التي يستقبل فيها آمر القلعة مسجونه الجديد، حيث يقول الراوي: "بملل، مالت شمس النهار الشتوي القصير، متباطئة، إلى محط مغيبها اليومي.. هبطت كأنها تتوقى ملامسة مستقرها المحتوم المحتشد حوله سحاب ثقيل يميل أسفله إلى الاسوداد".
من ناحيتي، فإن كلمات مثل: "الملل- متباطئة – مغيب – هبطت – مستقر محتوم – سحاب ثقيل – اسوداد". تساعد في تكوين صورة مسبقة ملبدة بغيوم من البؤس تتلاءم مع الشخصية.
تقودنا الرواية نحو كثير من المواقف الكاشفة لحياة وفكر ابن سينا وخاصة دوره فيما تعرف بـ"الحكمة المشرقية"، وهي التي تشرق من داخل الإنسان المفعم بالتأمل والمطالعة والتلقي والتفكير الحر.
في مشهد يسرده "زيدان" بعدما وصل ابن سينا إلى السجن، حيث يدخل حجرته التي خصصها له آمر القلعة نظرا لمكانته فهو في النهاية ليس مجرمًا، ويعود المزدوج أو آمر القلعة إلى غرفته، بينما لا يفصل بين الغرفتين إلا جدار، كلاهما يجلس على سرير ويسند ظهره إلى نفس الحائط الفاصل بين حجرتيهما، كلاهما يسترجع أحداث الماضي، ويتذكر ما مر به من أيام وصولا لهذا اليوم وهذا المكان.
المزدوج يشاهد رحلة فراره من ديار بكر والموصل ووفاة والده، وزواج أمه ثم وفاتها ووصوله إلى تلك القلعة، وابن سينا يتأمل ميلاده والأيام الهانئة مع سندس وصولا إلى حبسه في القلعة.
ويقتحم الراوي هذه العملية الذهنية لكلاهما بجملته: "وفي لحظة إشراق مفاجئ، مدهشة التزامن، اكتشف كل منهما بعد طول تطواف فيما جرى معه من وقائع أنه سجين وسجَّان في ذات الآن". وكأن هذا المشهد صورة تقريبية للإشراق الداخلي، الذي يشبه نوعًا ما الحدس الصوفي الباطني، المتوفر لدى نشأة الشيخ الرئيس في ظل المذهب الإسماعيلي الذي انبثقت منه عدة حركات باطنية مشهورة.
يشغل "زيدان" التركيز على انحياز ابن سينا للتفكير العلمي، وهو ما نجده في تعليقه على ما يسمى بـ"جبل النار المقدسة"، حينما جلس شيخ الرستاق يحكي لابن سينا عن أول مرة دخل فيها القلعة، وورد ذكر جبل النار المطل على بحر قزوين، حيث تظل نيرانه مشتعلة حتى في الأوقات التي تكتسي فيها الأنحاء بالثلوج، وقد دفع ذلك الناس لإقامة معبد للنار بالقرب منه، وسعى البعض في الحج إليه، ويتدخل هنا ابن سينا بتعليق خاطف وسريع ينفي فيه أن يكون ثمة سببًا أسطوريا، وأن الأمر يتعلق بوجود زيت نفطي تحت الأحجار يشتعل لأهون الأسباب، وتكفي شمس الصيف لإيقاد ناره.
في موضع آخر نجد آمر القلعة يتأمل الليل، ويتوجه بالسؤال ناحية ابن سينا قائلا: أين تذهب الشمس حين تغيب عن أنظارنا، ولماذا تشرق فجرًا من الجهة المقابلة لمغيبها؟ فيوضح الشيخ الرئيس أن الشمس لا تختفي، بل دوران الأرض هو ما يهيئ له ذلك. وهو ما يعارض أفكار دينية سائدة آنذاك عن ذهاب الشمس عند الغروب لتسجد عند عرش الرحمن لتعاود الظهور في الصباح على الأرض، حيث تنشغل به عدة تفسيرات عند ذكر الآية "والشمس تجري لمستقر لها"؛ فيقول الطبري المتوفي في مطلع القرن الرابع الهجري: إن الشمس تجري لموضع قرارها. ويستند لأثر نبوي يقول: "تذهب الشمس فتسجد بين يدى ربها، ثم تستأذن في الرجوع فيؤذن لها، وكأنه قد قيل لها ارجعي من حيث جئتِ، فتطلع من مكانها وذلك مستقرها".
تقنية الراوي العليم تعطي الحق في رؤية كاملة، والكشف بسلطوية عما يدور داخل الشخصيات، وعن الأحداث في أماكن مختلفة في آن واحد، يقفز إلى الماضي فيستدعي أحداث مرت عن طريق "الفلاش باك" ثم يقفز للمستقبل فيحدثنا عن أشياء لم تقع بعد عن طريق "الاستباق" فيتجاوز فكرة تشويق المتلقي إلى فكرة التخلص من البدايات الكلاسيكية والمنطقية للأحداث، فالرواية لا تبدأ بميلاد الشيخ الرئيس، بل بقدومه إلى سجن قلعة فردقان، ولا تنتهي بوفاته بل بعلاقته مع مهيتاب وأحاديث حول تدوين رسالة حي بن يقظان وما آلت إليه صراعات الغزنوي في المنطقة.
التخلص من البدايات والنهايات التقليدية لا ينفي التعرض لسيرة الشيخ الرئيس كاملة، لكنه نوع من الحيل الفنية في تقديم الرواية، عكس ما جاء في رواية "الطريق إلى أصفهان" للكاتب الفرنسي جيلبرت سينويه ، الذي بدأ بلحظة نبوغه وهو في السابعة عشرة من عمره، يقوم بمداوة جاره من تكون الحصى في المثانة، وجلساته في بيت أبيه التي ضمنت له التعرف على كبار رجال الأدب والفلسفة في زمنه، وصولا للرحيل مع علاء الدولة إلى همذان والموت بها، حينما كان يترقب العودة إلى أصفهان.
يعزز "زيدان" من الجوانب المعرفية لدى القارئ مما يدفع بعض القراء للقول بإنه كان على حساب الفن الروائي، حيث التركيز على أوقات مؤلفاته، وشرح الأفكار الغامضة فيها، وتوضيح أفكاره حول عدد من القضايا مثل البعث والمعاد، هبوط النفس من مكانها العلوي، وتقديم العقل على النقل، وأنه لا يجوز الاحتجاج بالنقل لدحض الحجج العقلية؛ لأن العقل هو الأعم في النوع الإنساني، واعتباره النص الديني خطاب موجه للعوام وفيه مزيد من الأمثال والتشبيهات، وتأكيده لنفي تناسخ الأرواح والميلاد المتجدد، ونفي البعث الجسماني وتأكيد بعث النفس، وأن الملذات المعنوية مقدمة على الملذات الحسية، إلى جانب توضيح تعليقات البيروني على الرازي وعلى الشيخ الرئيس.
"مات ابن سينا وحيدًا، وخُلِّدَ للأبد"؛ بهذه الجملة تصل المغامرة الروائية ليوسف زيدان لنهايتها، بعدما تناولت حياة الشيخ الرئيس بتفاصيلها التي تأخذ شكلا توثيقيًا وتبسيطيًا، فنحن نتعرف خلال السرد على مداومة الرجل للتأمل العقلي، الدأب على الكتابة والتأليف حتى قيل إنه كتب خمسين ورقة في الليلة، التعلق بشراب النبيذ لدرجة أنه عندما يحس بالفتور أثناء العمل والكتابة يتناول قدحًا فيشعر بعودة النشاط، أيضا حب النساء .
وأسرف ابن سينا في تناول الدواء أثناء مرضه الأخير، ودس له عبيده كمية كبيرة من الأفيون فيه بعدما سرقوا خزانته وخافوا أن يعاقبهم، ولما أدرك أن حالته الصحية تسوء توقف عن الدواء قائلا لأتباعه: "إن المدبر الذي كان يدبر بدني عجز عن التدبير فلا تنفع المعالجة". وذلك انتباهًا من أمير الأطباء لتطور خلل حالته الصحية ووصولها لحالة عجز المعالجة أمام سلطان التدهور والفناء.