احتلت سيرة وصفات العذراء مريم مساحة كبيرة فى الأدب العربي، وتغنى الشعراء بفضائل أم النور، وأكرموها فى أبيات شعرية منذ قديم الزمان، ورصدت العديد من الدراسات بدايةً من عرب الجاهلية، وبعد ظهور الإسلام، أبيات وقصائد مميزة كان أشهرهم الشاعر أمية بن أبي الصلت، الذى مدح العذراء مريم.
وَفى دينِكُم مِن رَبٍ مَريمَ آيةٌ مُنَبِّئَةٌ بِالعَبدِ عِيسى اِبنِ مَريمِ
(اَنابَت لِوَجهِ اللَهِ ثُمَّ تَبتَّلَت فَسَّبَحَ عَنها لَومةَ المُتَلَوِّمِ
فَلا هِيَ هَّمَت بالنِكاحِ وَلا دَنَت إِلى بَشرٍ مِنها بِفَرجٍ وَلا فَمِ
ولَطَّت حِجابَ البَيتِ مِن دُونِ أَهلِها تغَيَّبُ عَنهُم فى صَحاريِّ رِمرِمِ
يَحارُ بِها السارِى إِذا جَنَّ لَيلُهُ ولَيسَ وإِن كانَ النَهارُ بِمُعلَمِ
تَدّلى عَليها بَعدَ ما نَامَ أَهلُها رَسولٌ فَلم يَحصَر ولَم يَتَرَمرَمِ
فَقالَ أَلا لا تَجزَعى وتُكذِّبى مَلائِكَةً مِن رَبِ عادٍ وجُرهُمِ
أَنيبى وأَعطى ما سُئِلتِ فاِنَّنى رَسولٌ مِن الرَحمنِ يَأتِيكِ بابنَمِ
فَقالت لَهُ أَنّى يَكونُ ولَم أَكُن بَغيًّا ولا حُبلى ولا ذاتَ قَيّمِ
أَأُحرَجُ بالرَحمنِ إِن كُنتَ مُسلِمًا كَلامِيَ فاقعُد ما بَدا لَكَ أَو قُمِ
فَسَبَّحَ ثُمَّ اغتَرَّها فالتَقَت بِهِ غُلامًا سَوِيَّ الخَلقِ لَيسَ بِتَوأَمِ
بِنَفخَتِهِ فى الصَدرِ مِن جَيبِ دِرعها وما يَصرِمِ الرَحمَنُ مِلأَمرِ يُصرَمِ
(فَلمّا أَتَمَتَّهُ وجاءَت لِوضعِهِ فآوى لَهُم مِن لَومِهم والتَنَدُّمِ
وَقالَ لَها مَن حَولَها جِئتِ مُنكَرًا فَحَقٌّ بأَن تُلحَى عَلَيهِ
فَأَدرَكَها مِن ربّها ثُمَّ رَحمَةً بِصِدقِ حَديثٍ مِن نَبيٍّ مُكَلَّمِ
أَنيبى وأَعطى ما سُئِلتِ فاِنَّنى رَسولٌ مِن الرَحمنِ يَأتِيكِ بابنَ
وأُرسِلتُ لَم أُرسَل غَويًّا ولَم أَكُن شَقيًّا ولَم أُبعَث بِفُحشٍ وَمَأثَمِ
أشارت القصيدة إلى انطباعات وأفكار توارثتها الأجيال عن السيدة العذراء أيام الجاهلية وأهمها أن العذراء مريم عرفت بأنها رمز للبتولية، كما وصفها جبران خليل جبران بقوله:
عليك سلام الله يا مريم الطهر *** وفديت من أم وفديت من بكر
حبلت بلا وزر وأنجبت الفدى *** مخلص هذا الخلق من ربقة الوزر
وجئت به مصرا فرارا من الأذى *** فما زال أمن اللاجئين حمي مصر
وينادي جبران زوار العذراء قائلا:
هنا مجدوا العذراء واستشفعوا بها *** وأدوا إليها ما عليكم من الشكر
تنالوا مزيدا فى بنيكم ومالكم *** وتجزوا جزاء الخير فى موقف الحشر
فما نسيت يوما وما نسي ابنها ثواب *** تقي صالح آخر الدهر
ويواصل جبران وصف العذراء مريم فى قصيدة أخرى بقوله:
مَرْيَمُ يَا غَرْسَ خَيْرِ كَرْمٍ *** مِنْ أُسْرَةٍ كُلُّهَا كِرَامُ
وَيَا فَتَاةً حَكَتْ مُهَاةً *** بِكُلِّ حُسْنٍ لَهَا اتِّسَامُ
جَمَالُهَا فِى الظَّلامِ نُورٌ *** وَفِى مُحَيَّا الدنَى ابْتِسَامُ
لَوِ الغَرَامُ اصْطَفَى مِثَالًا *** لَمَا اصْطَفَى غَيْرَكِ الغَرَامُ
أَمَّا السَّجَايَا فَهَلْ يُوَفِّى *** أَقَلَّ أَوْصَافِهَا الكَلامُ
طهْرٌ تَمَامٌ عَقْلٌ *** لُطْف تَمَامُ ظَرْفٌ تَمَامُ
شَمَائِلُ الأُمِّ فِيكِ عَادَتْ *** وَنُضْرُهُ الوَجْهِ وَالقَوَامُ
أَمٌّ هِيَ الشَّمْسُ فِى بَنشيهَا *** يَجْمَعُهُمْ حَوْلَهَا النِّظَامُ
وَحَوْلَهَا مِنْ أَخٍ وَخَالٍ *** مَنْ يَعْرِفُ النبْلُ وَالذِّمَامُ
فَاسْتَقْبِلِى يَا عَرُوسُ حَظًّا *** كَانَ لَهُ بَارِقٌ يُشَامُ
وَلْيَحْيَ فِى غِبْطَةٍ وَجَاهٍ *** عَرُوسُكِ المَاجِدُ الهُمَامُ
الوَجْهُ صُبْحٌ أَغَرُّ سَمْحٌ *** وَالاسْمُ مِسْكٌ عَدَاهُ ذَامُ
عِيشَا وَتَهْنِيكُمَا دَوَامًا *** طَلاقَهُ العَيْشِ وَالوِئَامُ
القديسة النقية
ويصفها أحد الشعراء العرب، فى قصيدة بعنوان: «القديسة مريم»، فيقول:
يا قـديـسة مـريـم
دعينى أشْـتـّقْ من كـيانـك صفة العـفة السذجـية
واحتويـنـى بذكر دعـائك الـمـجـدلـيـة
فيا أم مثالية
اظهرى لى فى أحـلامِ الـوردية
وكونى لنا موسى كـنـزًا يـُثـْمـِرُ بـبـراءة طـفـولـية
فأغرزك فى قلبى كـقدوة وحـيـة
واتـخـذكِ عـونـًا معـيـنـًا لاهـتـمامـاتـك الاعـتـنـائـيـة
يا صديـقـة أوهـبـت عـطـاءها صدقةً إكـرامـية
وأنـعـمـت بالـرزق سرفـًا غـنـيـًا.
ونِّـسيـنـى فى ساعـة أحـزانـي
وواسـيـنـى فى لحـظـات ضـعـفي.
وخُـذِيـنـى كـوردة مَـقْـطـوفـة تحتاج إلى دفء كـفـيـكِ
أنتِ يا أهل الـبـسمـة يا ساكـنة فـؤادي
أنتِ التى تـغـفـى على كـاحـلـة أقـدامـهـا بـساتـيـنُ أزهـاري
أنتِ التى تُـذيـبُ هوائـى من لـفـحـة ثـنـايـاكِ
أقطرى الماء بـيـديـكِ علـيَّ واغـسلى بـزيـتـه روحي
لـيرتـوى من ظمأ الخـطـايـا شبـعـًا من الـغـفـرانِ
فـطـوبـى لمن سَـمـِعَ نِـدائُـكِ
وأنتِ تـصرخيـنَ آهًا على الظالمينَ الحُسادِ
المحبوبة والاسم المفضل
الأديب الشهير صالح الاسمر وثق ما سطره جبران فى قصيدة يذكر فيها ظروف ولادة السيد المسيح عيسى بن مَريَمَ، من حَبَل طاهر بلا دنس. ولذلك حملت السيدة مريم لقب العذراء.
وقد خصها القرآن الكريم بأجمل الثناء وفضّلها على كافة النساء، كما جاء فى سورة آل عِمران: (وإذ قالت الملائكة يا مَريمُ إن اللهَ اصطفاكِ وطهٍّركِ واصطفاكِ على نساء العالمين).
وأضاف أن مريم مِثال الطهر والعَفاف والتقوى والإيمان، والمرأة الوحيدة التى حملت اسمَها إحدى سُوَر القرآن وهى سورة مَريم.
ومَريَم من أكثر أسماء العلم انتشارًا عند المسلمين والمسيحيين على السواء، تَيمُّنًا بالسيدة مَريَم العذراء، ومن ألقاب السيدة مريم لقب البتول. والبتول لغةً صفة المرأة المنقطعة عن الزواج. والبتول أيضًا من ألقاب السيدة فاطمة الزهراء، ابنة النبى محمد، وزوجة الإمام على، ولُقّبت بذلك لانقطاعها عن نساء زمانها فضلًا ودينًا وحسبًا.
وربما يُرمز باسمى مَريم وفاطمة عن مسلمى لبنان ومسيحييه، واختتم بأن الشاعر بشارة عبد الله الخوري، الأخطل الصغير، سطر شعرًا رائعًا، قال فيه:
لبنانُ كم للحُسن فيك قصيدة *** نثرت مباسِمَها عليها الأنجمُ
كيفَ التفتَّ فجوهرٌ مُتأوّهٌ *** تحت الغصون وربوة تتبسّمُ
وطنُ الجميع على خدود رياضة *** تختال فاطمةٌ وتنعمُ مَريَمُ
ومَريَم اسمٌ سِريانى معناه «المُرتفعة»، أو «مرارة البحر»، كما جاء فى مُعجم محيط المحيط للمعلّم بُطرس البستاني.
وجاء فى قاموس الكتاب المقدس أن مريم اسم عِبري، معناه «عِصيان» أو تمرُّد.
ويرد فى مصادر أجنبية أخرى أن مريم اسم عِبرى معناه «قطرة البحر». أو قد يكون مأخوذًا من كلمة مْريت أو مَريت فى اللغة المصرية القديمة ومعناه: «محبوبة».
ولاسم مريم صِيغٌ عديدة فى اللغات الأجنبية اشهرها ماري، ماريّا، ماريانا، ميراي، ماريون، فضائل العذراء:
توثق موسوعة تاريخ الكنيسة العديد من فضائل العذراء مريم، والتى كانت سببا فى إلقاء الشعر والقصائد فى شخصها وصفاتها النادرة، فقد تجملت بالفضائل الكثيرة، وفى مقدمتها لا تضاع والوداعة، لعل الفضيلة الأساسية والعظمى التى جعلت الرب ينظر إليها إنها كانت وديعة، إذ قالت «لأنه نظر إلى اتضاع عبدته».
وقد ظهرت وداعة العذراء مريم فى عدة أمور:
احتمال الكرامة: قد يظن البعض إن احتمال الآلام صعب ولكن يجب أن نعرف إن احتمال الكرامة يحتاج إلى مجهود أكثر من احتمال الآلام والإهانات وقد قال أحد القديسين: «هناك الكثيرون يحتملون الإهانات ولكن القليلين يحتملون الكرامات».
إنكار الذات: حينما كان المسيح فى الهيكل وهو طفل صغير وبحثت عنه العذراء ولم تجده مع الأقرباء والمعارف وكان معها يوسف النجار، وجدته فى الهيكل جالسًا وسط المعلمين (قالت له العذراء». هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين»العذراء كانت تعرف أن ابنها ليس ابنًا ليوسف ومع ذلك كانت تدعوه أبًا له، والأفضل من ذلك أنها كانت تقدمه على نفسها فتقول: «هوذا أبوك وأنا...»، معطية له كرامة أكثر.
خدمة الآخرين: العذراء مريم ذهبت إلى أليصابات لتخدمها عندما علمت أنها حبلى مع إنها أم المسيح، إلا إنها لم تمنعها كرامتها من تذهب إلى أليصابات فى رحلة مضنية شاقة ومضنية عبر الجبال
الإيمان: فى بشارة الملاك للعذراء كشف لنا جوهر الإيمان العميق فى حياتها، هذا الإيمان الذى تسلمته من أبويها وازداد نموًا بوجودها فى الهيكل وصلواتها وتضرعاتها المستمرة وحفظها لكلام الله الذى كانت تخبئه داخل قلبها.
كان إيمان العذراء يتصف بثلاث صفات:
إيمان بلا شك: عندما بشر جبرائيل الملاك العذراء بميلاد المسيح قالت له مريم: «إيمان بلا جدال»، فهناك الكثير من النعم التى نفقدها إذا جادلنا وناقشنا وسألنا بعقلنا الجسدى وحكمتنا البشرية. لم يكن غريبًا ان عاقرًا تلد ولكن الغريب ان تلد عذراء لهذا قال الله على لسان أشعياء النبي.
الشعر وثيقة خالدة: استعرضنا جزءًا بسيطًا تناول فضائل وإيمان العذراء، وثقه الشعر العربي، على مدى قرون، خاصةً وأن الشعر وثيقة خالدة، وكلمة مطبوعة، لا يمحوها الزمن، ويعتبر تأريخ متجدد.