يبقى بريق الذهب وقيمته مهما طال عليه الزمان، بينما يصدأ الحديد إذا تعرض للهواء، وكذلك الرجال معادن ينكشف أصله بالمواقف والزمن، ولم يتغير معدن وزير الغلابة بمرور الأزمان وتغير الرؤساء فظل ثابتا ناصعا يعمل من أجل مصر وشعبها بكل إخلاص وتفاني.
ولا عجب أن ترى ملامح مصر في وجه هذا الرجل الشريف فقد صبغته شمس الجنوب بلون القمح أثناء عمله فى بناء السد العالى، وزادت ملامحه عزة وكرامة كلما أنجز إنجازا على أرض مصر لا يمحوها الزمان، وسيبقى ما شيده من مجد راسخا قويا لا يتأثر ما هما طال عليه الزمن..
إنه المهندس حسب الله الكفراوى، وزير الغلابة، و"أبو المدن الجديدة".
"البوابة" تستعرض أبرز أعماله، من خلال شهادات المقربين، خلال فترات عمله بالوزارة، والأعمال التى قام بها.
جندي فى بناء السد العالى
عبد الوهاب عبد الودود، مدير مكتب حسب الله الكفراوى، فى بعض الفترات، يقول إن لقاءه الأول بوزير الغلابة، كان فى أسوان، فى مشروع السد العالى حيث كان تكليفى بالعمل فى وزارة السد العالي، ثم تم نقل مقر الوزارة إلى أسوان، وفور وصولى لأسوان، وقبل تسلم العمل، وجدت أهالى المدينة يعرفون المهندس حسب الله الكفراوى، والذى سبقنى للعمل بنحو عامين.
وكان "الكفراوى"، مسئول عن متابعة مشروع السد العالى، وعن معدلات الحفر فى القناة الأمامية والخلفية وفى الأنفاق، حيث كان الوحيد الذى يركب اللنش بصحبة الوزير صدقي سليمان، والنائب التنفيذى إبراهيم زكى قناوى، للمرور على مواقع العمل، ويعود الوزير ونائبه للمكتب.
ويبقى "الكفراوى"، يراقب العمل بالموقع حتى السادسة مساءً، ثم يعود إلى المكتب ليعرض ما تم إنجاز فى معدلات الحفر والردم، فى جسم السد، على الوزير، حتى الثانية عشر مساء.
وأضاف "عبد الودود"، أن "الكفراوى"، أصيب بضربة شمس بسبب العمل تحت شمس أسوان الحارقة، ثلاثة مرات، خلال العمل بالخمس سنوات الأولى بالسد، وتم علاجه بالمركز الطبى ببلدة تسخال بمدينة جورجيا، بالاتحاد السوفيتى آنذاك، وأثر ذلك على صوته فيما بعد.
وتابع: بعد تحويل مجرى النهر فى الخامس عشر من مايو ١٩٦٤؛ نال "الكفراوى" وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، من الرئيس جمال عبد الناصر، ثم نقل للعمل بخطوط كهرباء السد العالى فى الصعيد، وإنشاء محطات الكهرباء.
وبعد وفاة "عبد الناصر"، وتولى السادات الحكم، تم ترقية الكفراوى، لدرجة المدير العام للمتابعة على أعمال الوزارة، تحت قيادة المهندس عبد الحميد حسنى، رئيس مؤسسة الكهرباء، فى هذا الوقت، وبعد الانتهاء من مشروع السد كاملا، منح الكفراوى وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، وضل في العمل بالوزارة، حتى نصر أكتوبر عام ١٩٧٣.
الكفراوي يصلح ما أفسدته الحرب بالقناة وسيناء
تولي المهندس عثمان أحمد عثمان، منصب وزير التعمير والمجتمعات العمرانية الجديدة والإسكان، بعد نصر أكتوبر المجيد، وتولى الكفراوى مهمة التنفيذ فى مشروع إعادة إعمار مدن القناة وسيناء، تحت قيادة المهندس إبراهيم زكى قناوى، عمل خلالها بكل تفانى وإخلاص.
وانطلقت مسيرة التعمير والبناء فى مدن القناة وسيناء، بعد الحرب حيث تم شق ترعة السلام لزراعة آلاف الأفدنة ورصف الطرق وإنشاء الجامعات والمؤسسات الحكومية، ثم عاد المهاجرين إلى القناة وسيناء لتبدا الحياة من جديد.
الكفراوى وزيرا.. عن جدارة وثقة
اعتذر المهندس عثمان أحمد عثمان، عن الاستمرار فى الوزارة، ورشح المهندس حسب الله الكفراوى لتولى مهام الوزارة، لما له من تاريخ مشرف فى مشروع السد العالى وشبكات الكهرباء، وتعمير مدن القناة، فتولى المهام، وبدأت مسيرة جديدة، برؤية سبقت العسر لبناء ١٧ مدينة جديدة فى عهده.
تولى الكفراوى وزارة التعمير والمجتمعات العمرانية الجديدة خلال ١٦ عاما بصفة دائمة ووزارتى الإسكان والمرافق واستصلاح الأراضى بالتبادل خلال فترة عمله بالوزارة.
العاشر من رمضان أول ثمار النهضة المعمارية
أخبر "الكفراوى"، الرئيس محمد أنور السادات، بجاهزية المدينة للطرح، فى ذكرى العاشر من رمضان، بواقع ٢٢٠ مليون متر، بتكلفة ١٦ جنيها للمتر الواحد، لكن الرئيس السادات أعلن عن الأراضى المطروحة بسعر ٥٠ قرشا للمتر الواحد.
وعندما تحدث إليه الوزير، بأن التكلفة عالية جدا على الموازنة، ولا تستطيع الدولة أن تدعم المتر بـ١٥ جنيها ونصف للمتر آنذاك، قال السادات إن المواطن من حقه أن يحصل على قطعة أرض يعيش بها أو يبني عليها مصنعه أو يدفن فيها لن يكون لديه انتماء للبلد ولا أستطيع أن أطلب من أن يرسل أبنه للدفاع عن بلده.
ومن هنا؛ طالب "الكفراوى"، المستثمرين المصريين بالخارج العودة من أجل الاستثمار مع توفير كافة الخدمات وقام أيضا بإعفاء المصانع والشركات من الضرائب لمدة عشر سنوات تشجيع لهم على الاستثمار في المدينة.
كانت مدينة العاشر من رمضان باكورة أعمال المهندس حسب الله الكفراوى والشرارة التى بدأ بها لتكون أكبر مدينة سكنية ومدينة صناعية بين القاهرة ومدن القناة الثلاثة وأنشأ الجامعة للتكنولوجيا ومدارس على أعلى مستوى، وفروع لجميع الوزارات بالمدينة لتيسير الخدمات لتسهيل الخدمات للعاملين بالمصانع والسكان.
وقال عبد الرازق عبدالصادق، وكيل أول وزارة الإسكان: "رشحت للعمل مع الوزير الراحل دون أن أعرف، وفى اللقاء الأول بيننا قال الكفراوى بالنص: "كباية الشاى بتعتى أنا أدفع حسابها، ضيوف الوزارة العلاقات العامة تتولاها".
وعنما سأله أحد القيادات عن مراجعة الأوراق التى يعتمدها، قال أى ورق يخالف القانون لا يتم تنفيذه، حتى وإن كنت اعتمدته، وكان الوزير السابق خصص مبلغا لكل مكتب قيادى فى الوزارة للمشاريب، فرفع الكفراوى مكتبه من القرار، وبالتالى ترك باقى القيادات هذه المحنة".
موقف بطولى مشرف بعد زلزال ١٩٩٢
وقال عبد الرازق عبدالصادق، وكيل أول وزارة الإسكان، إن الكفراوى كان يشغل منصب نائب رئيس جمعية المستوطنات البشرية، التى تعالج مشكلات الإسكان على مستوى العالم، وحصل على جائزة أفضل دولة تقوم بالبناء والتعمير فى هذا الوقت. وعندما ذهب لتسلم الجائزة وقع زلزال ١٩٩٢ وبعد أن وصل التقرير للرئيس مبارك بأن أكثر من ٦٠ ألف أسرة أصبحوا بلا سكن نتيجة للزلزال فطلب الكفراوى والذى عاد من المطار لمقابلة الرئيس مبارك دون العودة للمنزل.
وطلب مبارك توفير ٦٠ ألف وحدة سكنية للأسر المتضررة من الزلزال، فأجاب الكفراوى على الفور الوحدات موجودة بالفعل لكن المحافظ القاهرة يرفض توصيل المرافق إليها فاستدعى مبارك محافظ القاهرة، على الفور، وأمر بتوصيل المرافق. واجتمع الكفراوى بالشركات المنفذة، وطلب منها تسليم المشروع فى أسرع وقت حتى يتمكن المواطنون من استلامها قبل حلول فصل الشتاء وقد كان.
بنك التعمير والإسكان.. مشروع من أجل الفقراء
بعد إعلان السادات عن طرح الأراضى في العاشر من رمضان؛ حصل البنك الأهلى الرسوم من المواطنين؛ حيث فرض ٥٠ جنيها على الرسوم البالغة ٣٠٠ جنيه فقط؛ اعترض "الكفراوى" على هذا التصرف بقوة، وطالب بتخفيض المصاريف، وعندما لم يستجب البنك فكر فى إنشاء بنك التعمير والإسكان.
واستدعى "الكفراوى"، المستشارين، وقام بتأسيس بنك التعمير والإسكان، وشاركة هيئة المجتمعات العمرانية بـ٥١٪، لكي يحق له الإدارة، وأنشأ البنك شركات بناء ليحل مشكلة، ويوفر مصدر دخل للوزارة.
فوائد القرض التعاونى ومساند الغلابة
عندما أصدر وزير المالية آنذاك قرار أنه من يتأخر عن سداد القسط تسرى عليه الفائدة الرسمية، وجاء أحد المواطنين يشتكى أنه بعد تأخره عن سداد وعندما ذهب لسداد القسط وجد الفائدة ١٢ ٪ بدلا من ٤٪ فجاء يشتكى لوزير الغلابة فتدخل ورفع الزيادة عن المواطن.
واعترض البنك الدولى على الفائدة التى قيمتها ٤٪، وطالب برفعها إلى ٧٪، وعندما طالب رئيس الوزراء بالزيادة المفروضة، حمل الكفراوى أوراقه وغادر المجلس.
وعندما علم الرئيس حسنى مبارك، بما حدث تحدث إلى الوزير، وقال له إن البنك الدولى مصر على الزيادة، فرد عليه الكفراوى: هو حضرتك اللي بتحكم مصر ولا البنك الدولى، فرد مبارك حضرتى، فأجابه الكفراوى: أعلم أن سيادتك مع الغلابة، فحكم مبارك بزيادة ١٪ فقط.
الكفراوى رجل النزاهة والمبادئ
يقول المهندس محمد رمضان، السكرتير الخاص للوزير: "تشرفت بالعمل مع السيد الوزير حسب الله الكفراوى رحمه الله سكرتيرا خاصا فى الفترة من ١٩٨١ حتى أواخر ١٩٩٣، وخلال هذه الفترة تعلمت منه الكثير.
وأضاف "رمضان": كان يتحلى بالخصال الحميدة، وطهارة اليد، والتفانى في العمل ليلا ونهارا، كان يتقى الله فى عمله وكل تصرفاته وكان رحمه الله محبا لمصر والمصريين بالإضافة لحرصه الشديد على المال العام.
وتابع بأن الكفراوى رفض أن يستخدم السيارة المصفحة التى أرسلها له مجلس الوزراء، وذلك بعد استشهاد الدكتور رفعت المحجوب، رئيس مجلس الشعب الأسبق، ومحاولة اغتيال وزير الداخلية آنذا، وقال الكفراوى: الحافظ هو الله، أنا خادم للشعب المصرى، وليس لي أي أعداء أخشاهم.
وقال: فى يوم من الأيام، حاولنا تجديد فرش المكتب الخاص بوزير الغلابة، وعندما فوجأ بالفرش الجديد، طالب بإعادة الفرش القديم، والذي استمر معه طوال ١٧ عامًا فى الوزارة، وقال لهم بالنص "الفرش ده والمكتب ده عشرة وميهنش عليا".وفى إحدى الزيارات إلى مدينة العاشر من رمضان وضع فريد خميس سجادة فى سيارة الوزير كهدية وعندما ذهب إلى المنزل وجد السجادة فأعادها إلى ديوان الوزارة واعتبرها مالا عاما.
وذات يوم علم الكفراوى بانفجار مسورة مياه رئيسية بمحطة صفط اللبن، وكان ذلك فى فصل الشتاء، ووفور علمه توجه إلى الموقع، وظل طوال الليل يراقب ويتابع العمل، حتى عادت الأمور كما كانت، وكان الوزير دائما ما يذهب إلى الوزارة سيرًا على الأقدام.
مدينة ٦ أكتوبر رؤية ثاقبة وقوة فى القرار
وأضاف المهندس محمد رمضان، السكرتير الخاص للوزير، أن حسب الله كفراوى كان دائما يقوم بعملية مسح جوى لاختبار أفضل مواقع المدن الجديدة، ووقع اختياره على منطقة ٦ أكتوبر، لكونه موقعا مسطحا، ولا يوجد به كثير من الأعمال، ولقربه من العاصمة، وقام بدراسة المشروع وتجهيزه لطرحه على مجلس الوزراء.
وعندما طرح المشروع اعترض المشير أبوغزالة وزير الدفاع آنذاك ولم يستطع رئيس الوزراء الفصل في الموضوع فرفع الموضوع إلى الرئيس السادات والذى فصل فيه بانتداب خبراء أجانب للفصل فى المشروع وكان التقرير فى صالح وزارة الإسكان.
ويروى سكرتيره الخاص تفاصيل اليوم الأخير له فى الوزارة؛ حيث قال: ترك الكفراوى الوزارة بكامل رغبته، بعد أن قدم استقالته للمرة الثانية، لوجود خلافات على افتتاح سوق العبور، وعندما ذهب لوداع الموظفين، ونقل متعلقاته الشخصية، كان الجميع فى حالة حزن وبكاء شديد، وكانوا يقولونه له "هتسبنا ليه يابا"، لكنه ودع الجميع، وظلت العلاقة الطيبة والاتصالات دائمة بعد رحيله من الوزارة.
بعد أن ترك "الكفراوى"، العمل فى الحكومة لم تتغير شخصيته، وحبه للعمل، وعندما عرضت عليه كثير من شركات القطاع الخاص، والجهات التعاون معهم، لما له من رؤية وفكر وخبرة طويلة لكنه رفض.
مواقف إنسانية في حياة وزير الغلابة
وقال المهندس عبدالعزيز الكفراوى، نجل وزير الغلابة، إن والدته كان لها دور كبير في رفع أعباء الأسرة عن والده، فكان متفرغا تماما لعمله فى خدمة مصر والمصريين، فكان والدى يتغيب كثيرا عن المنزل، وأتذكر أن والدى دائما كان يحمل المصحف فى جيبه، ودائمًا على وضوء.
وأضاف "عبد العزيز"، أن والده عندما كان يشغل منصب محافظ دمياط، كان يذهب إلى كفر سليمان مسقط رأسه فى المناسبات، يرفض الذهاب بسيارة الوزارة، وكان يذهب إليهم بسيارة ١٢٥، وعندما سألته: لماذا لا نذهب بسيارة الوزارة، قال له بالنص: "يا ابنى هو أنا هتنصل من أهلى" فكان يذهب إليهم بكل بساطة وتواضع.
وتابع كان أبى دائما يحضر الأوراق إلى المنزل لمراجعة حسابات المدن الجديدة فعندما عرضت عليه استخدام الآلة الحاسبة فرفض وكان يقوم بالحسابات يدويا حيث كان يمتلك قدر كبير من الذكاء وسرعة البديهة وكان يجيد فهم الناس والتعامل معهم والإحساس بهم.
وفى عصر الانفتاح الاقتصادى عرض علينا الكثير المشاركة فى مشروعات لكن أبى رفض بشكل كبير ورفض أن أعمل في مصر خلال فترة وزارته وسافرت إلى الخارج لإكمال دراستى وبعد عودتى من الخارج عملت فى شركة خارج تخصصي حتى لا أحتك بعمله، كان يكره أن يتوصط لنا فى أى عمل وطلب منى السفر مرة أخرى ولم أعود إلا بعد أن ترك الوزارة.
موقف طريف مع الشيخ الشعراوى
وقال "عبد العزيز": أتذكر كنا نسكن فى شقة فى الدور الأول في الدقي، وفي إحدى الزيارات للشيخ محمد متولى الشعراوى، وزير الأوقاف آنذاك، والذى كانت تجمعه علاقة طيبة جدا بوالدي، وجد إحدى درجات السلم مكسورة، فقال لوالدى ممازحا "بقى يا حسب الله تبقى وزير الإسكان ومش عارف تصلح سلمة بيتكم"، ثم تعانقا عناقا شديدا، وعندما علم السادات بما حدث قال لوالدى ممازحًا "فضحتنا يا كفراوى"، وأمر لنا بشقة أخرى.
الكفراوى يهاجم الإخوان فى مكتب الإرشاد
يقول المهندس عبد العزيز، نجل وزير الغلابة، إن والده كان منزعجا من الفوضى التي أصابت مصر بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وعندما وصلت الجماعة الإرهابية إلى الحكم، كان فى غاية القلق على مصير مصر.
وقرر الذهاب إلى مكتب الإرشاد، وقال لهم: إن مصر لن تحكم بأيديولوجية الجماعة، وأن مصر دولة وطنية قوية، ترفض أفكار الجماعة المتطرفة، وفى حالة فرض فكر الجماعة، لن يكون الامر سهلا، وسيرفض الشعب ذلك فمصر لكل المصريين.
ولم يعجب الحاضرون كلام والدي، فقال لهم أظن أن رسالتى واضحة، لن يسمح لكم بأن تأخونوا مصر أبدًا، اللهم بلغت اللهم فاشهد، ثم تركهم وغادر المقر.