قد تختلف التحليلات بشأن توصيف نوعين من الخيانة هما الجاسوس والخادم أو المتعاون مع المحتل. مع الأخذ في الاعتبار بأن حاجة الدول الى جواسيس بالخارج قد تناقصت وربما في بعض الأحيان قد انعدمت لأسباب متعددة، منها التقدم التكنولوجي الفائق ومن ثم عدم الحاجة في غالب الأحيان للعنصر البشري، والتعاون غير المحدود بين أجهزة المخابرات بعضها البعض وعلى رأس التعاون تأتي عمليات تبادل المعلومات، وتسليم بعض الدول التابعة مقدراتها للدول الأخرى وإعطائها طوعا ما تريده من بيانات ومعلومات، وعدم مخاطرة الدول بهز علاقتها مع دول أخرى إذا تكشفت عمليات التجسس. كما أن عمليات الجاسوسية، وخاصة بعد انقضاء أكثر من 75 عاما على نهاية الحرب العالمية الثانية، قد تناقصت أهميتها وخطورتها وأعدادها وأضرارها. كما أن العثور على من يقبل العمل في الجاسوسية، غالبا ما تكون عملية دقيقة وحساسة ومضنية ونادرة الحدوث. إضافة الى احتملات كبيرة لقيام الجاسوس بالإبلاغ والعمل مع دولته كجاسوس مضاد. وإجمالا فقد اصبحت عمليات الجاسوسية نادرة الحدوث، محدودة الأثر، متناقصة القيمة، سهلة الاكتشاف، وفاتها قطار الزمن.
أما المتعاونون مع الاحتلال والخادمون له، فهم مجموعات كبيرة من أبناء البلد على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية تعرض نفسها عرضا رخيصا على الاحتلال للعمل معه، لمساعدته في تكريس احتلاله، غير عابئين بنظرات الاحتقار التي تلاحقهم ليل نهار من جموع أبناء البلد. فالمهم والأهم عندهم هو قبض الراتب والأجر المعلوم أخر الشهر أو أخر الأسبوع أو كيفما يكون. وخادم المحتل لا يساعده فقط في تسهيل امور تواجده واستمراره في الاحتلال، والتي من لوازمها ما يحدث من قتل وسجن وتنكيل بأبناء البلد، بل يساعده ايضا في رفع معنوياته وتبرير تواجده. فهؤلاء هم أبناء البلد سعداء بالعمل مع الاحتلال ويتسابقون لخدمته والترحيب به. وكم تكون سعادة المحتل بالمتعاون والخادم ابن الوطن، وهو يغسل أوساخ المحتل ويكوي له ملابسه وينحني أمامه وينافقه ويدعو له بطول البقاء!!
وجاءت أحداث أفغانستان لتكشف المستور وتفضح خدام المحتل، وهم يتمادون في إهانة أنفسهم على بوابات مطار كابول ويجرون وراء الطائرات المغادرة. فبعد انتهاء المولد بشكل درامي مفاجىء، تحولت مجموعات الخدم من قبض الدولار الأخضر آخر كل شهر أو أسبوع كثمن للخيانة العلنية لوطنهم، إلى تسول المطالبة بجواز السفر الأزرق كمكافأة لنهاية تلك الخدمة المشؤومة، وكملاذ بعيد للهروب من فضيحة ملوثة للشرف وللعرض وللقيم ستظل تلاحق هؤلاء الخدم وأبنائهم وأحفادهم مهما طال الزمن. فهل سيحصلون على الأزرق بعد أن حصلوا على الأخضر طوال عشرين عاما، ليعيشون على بعد ألاف الأميال في أرض بعيدة، ظنا منهم أنها ستطهرهم من روث الخيانة والقذارة والحقارة. لقد ساهم هؤلاء الخدم في اسالة الدماء الحمراء لأبناء بلادهم. ولن يستطيع الدولار الأخضر والباسبورت الأزرق محو هذا الدم الأحمر.
لقد بلغت المأساة قمتها أو الدراما ذروتها، عندما قررت مجموعة من الأفغان، لم يعملوا كجواسيس ولا كخدام ومعاونين للاحتلال، في أن يندسوا بين الجموع المتواجدة بمطار كابول ويحاولون هم أيضا الحصول على الأزرق في هذا الأوكازيون العبثي.
إن الجاسوس يموت أو يتم إعدامه في صمت ويطويه الزمن، أما هؤلاء الخدم وهم كثيرون فسوف تظل فضيحتهم على مدار الزمن بالصوت والصورة والورق.
وختاما...ومهما قيل في تحليل ما حدث، ومهما تفلسف المنظرون وقال المعلقون، فقد نجح الرئيس الأمريكي بايدن في الخروج الآمن بأرواح جنوده وبلم شملهم مع أمهاتهم وابائهم وزوجاتهم وبناتهم وأبنائهم. وهو أثمن وأغلى من تريليونات الدولارات التي تم انفاقها، وأفضل من سباب وانتقاد المنتقدين.
فهل تستوعب أمريكا الدرس، وتفهم أن العالم قد تغير، وأن الصين قد أصبحت عملاقا جديدا لم يعد بإمكان أحد إيقافه، وأن الاتحاد الروسي قد أصبح قوة عسكرية لا تبارى، وأن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي قد كشفت المستور أمام سكان الكرة الأرضية؟؟
ومهما كانت الحقيقة...هزيمة ساحقة لأمريكا...أو خطة ماكرة لإفشال طالبان بالسياسة، بعدما فشل العالم في إفشالها بالحرب. فعلى أمريكا أن تمتنع عن دس أنفها بعيدا عن أصابع أقدامها. سيكون هذا أفضل وأزكى لها.