الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

أحرق الله قلب الفراق

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

حياة كل منا طالت أو قصرت نهايتها الرحيل،  فكلنا راحلون ولكن مع فارق التوقيت الزمني.
ننتقل بأسفارنا ونتجول في ترحالنا حيثما شئناومتى شئنا إلى أن تأتي على كل منا لحظة المغادرة وهي اللحظة الحقيقية في حياتنا جميعا.
فكل منا لاشك سيسافر وحدهطال العمر أو قصرشاقا طريقه وحيدا فريدا،  نحو رحلته الأبدية.
غريب فعلا أمر هذه الحياة،  والأغرب تعلق الناس بها إلى هذا الحد المخيف،  لدرجة الاقتتال،  ومنابذة العداوة، بشكل مرعب،  رغم أن الجميع يتركونها  مفتوحي اليدين.
فإذا كانت حياتنا أقل من أن تكون غاية وإذا كانت أهم من أن تنسى..إلا أنه تبقى المعادلة الصعبة كامنة، في كيفية تحقيق التوازن بين عالم المادة وعالم الروح!
إنها الفلسفة الصعبة،  والتي لا يقدر على تحقيق توازنها،  غير الأفراد القلائل في دنيا الناس.
كانت لحظات قاسية جدا حين أبلغت بمرض خالتي(فاطمة)التي تجاوزت السبعون عاما بسنوات قليلة،  تلكم السيدة التي عاشت الحياة بفطرتها السليمة، فلم تتلقى تعليمها في المدارس أو الجامعات،  بل تلقت تعليمها في مدرسة الحياة، فلم تعرف غير بساطة الريف الذي لم تلوثه شعارات المدنية الزائفة.
أم مصرية كحال غالبية أمهاتنا، حيث الطيبة المتناهية، والقلب الأبيض، الذي يحمل الخير إلى كل من حوله.
ابتليت منذ سنتين وفي عام واحد بموت ابنيها شبابالم يفصل بينهما الموت غير ثلاثة أشهر!
كان ابتلاء كبير على النفس لم تتحمله العجوز، فزاحمتها الأمراض من كل جانب رغم إيمانها الشديد بالله سبحانه وتعالى.
ولكنها بواعث البشرية، وغريزة الأمومة كانت تضرب في أعماق وجدانها شوقا دفينا لأبنائها فلذة أكبادها، حتى وإن تظاهرت بالنسيان أو التناسي شيئا قليلا.
كنت أزورها على فترات ليست ببعيدة نظرا لظروف الحياة ورحاها التي لم يسلم منها أحد.
فكانت أقرب زياراتي لها قبل ذلك يوم عيد الأضحى الماضي، ولكن لم يطل بي الجلوس معها كثيرا.
حتى ذهبت إليهاطيب الله ثراها في مرضها الأخير،  فوجدتها في غيبوبة تامة كما قرر الأطباء.
كانت رغم فقدانها الادراك، وغيبتها عن الوعي، تنادي من حولها بسرعة التجهيز لسفرها حيث أنها راحلة_كما تقول وتقرر _إلى بيت كبير ذا نوافذ خضراء وستائر من الحرير، وحديقة كبيرة!
سمعت منها هذه الكلمات فتيقنت أنها راحلة لا محالة، واذا بصوت المذياع عبر الأثير ينطلق فجأة لأسمع الشيخ في حديثه يقرر:"بأن المؤمن يرى مقعده من الجنة" كما جاء في الحديث الشريف عن المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم.
وكأنها إشارة ورسالة ربانية لتأكيد صدق ما سمعت أذناي.
فإذا بالدموع تلاحقني، لم تستطع عدسات نظارتي الطبية أن تخفيها.
لحظات من الصمت خيمت على المكان، وكأنها سنينا من العمر مر خلالها شريط الذكريات.
هنا توقف العقل، بعدما خضعت معه المادة خضوعا تاما إلى الأرواح ونورانيتها، فلا يستطيع أحد أن يدرك حقيقتها وما كشف لها من حجب لحظة الاحتضار! 
فلا مؤهلات علمية أحملها، ولا تفسيرات منهجية أتقنها، تستطيع أن تفسر ما يحدث أو يدور.
وما كانت سوى ساعات قليلة حتى انتهى الأجل، واسترد الخالق وديعته،  عساها تجمع بمن فقدت، وترتاح عظامها المجهده، في معية أرحم الراحمين سبحانه وتعالى.
فلله درك أيتها الأم الرءوم ماذا بينك وبين الله سبحانه وتعالى؟
أهو فطرتك السوية؟
أم صبرك على فقد أبنائك فلذة أكبادك؟
أم صادفتك دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يوم قال:"اللهم إني أسألك إيمانا كإيمان العوام".
فكم يرتعش القلب وينتفض حنينا إلى الأيام الخوالي، حيث الطيبين الذين يرحلون عن حياتنا واحدا تلو الآخر.
فيطاردنا الأسى وتحيطنا الذكريات، الى زمان ولى وفات، فتدور حربا ضروس بين الماضي والحاضر وترانا بلسان الحال نردد مع الشاعر الملتاع أبياته حين جادت قريحته المقروعة بنار البعد والفراق:
إِنَّ يَوْمَ الْفِرَاقِ أَحْرَقَ قَلْبِي
وَكَوَانِي الْفِرَاقُ بِالنَّارِ كَيَّا
إِنْ قَضَى اللهُ بَيْنَنَا بِاجْتِمَاعٍ
لاَ ذَكَرْتُ الْفِرَاقَ مَا دُمْتُ حَيَّا
فهكذا كلنا راحلون ويبقى الأثر