الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

البوابة القبطية

القس سهيل سعود يكتب: الموقف الخالد للقديسة مريم العذراء

القس سهيل سعود
القس سهيل سعود
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

"تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي" (لو1: 47)، هو الموقف الخالد الذي اتخذته القديسة مريم العذراء، عندما امتدحتها اليصابات نسيبتها، قائلة "مباركة انت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك. فمن اين لي هذا ان تأتي أم ربي اليّ. فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني، ارتكض الجنين بابتهاج في بطني. فطوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب"(لو 1: 42-45) . اليصابات نسيبة مريم شعرت بشرف عظيم أن تلتقي أم المخلص. إلا ان مريم وأمام ذلك المديح ، شعرت أنه عليها بالدرجة الاولى، أن تقدم الحمد والتسبيح لله، على قوته وقداسته ورحمته، وأن تقدّم له وليس لنفسها، المكانة الاولى في الاكرام. 
فمريم العذراء تعظّم الرب، لأنه نظر الى إتضاعها (لو 1: 48)، ولأنه صنع بها عظائم (لو 1: 49) الرب لم يصنع بها عظيمة واحدة، بل عظائم عديدة، اهمها بشارته لها بأنها ستحبل بالمسيح المخلص بالروح القدس . فالله  قرر أن يحقّق خطته ن أجل خلاص العالم بالمسيح من خلال الفتاة مريم القديسة المتواضعة، الخاضعة لمشيئة الله والمؤمنة بقدرته . وهذا سبب اساسي  يوجه نظرنا الى مريم لنبتهج ونفرح معها، ونطوبها مع جميع الاجيال ، كما قال لنا البشير لوقا، "فهوذا منذ الان جميع الاجيال تطوبني" (لو 1: 48). لكن مريم أدركت أن تمييز الله لها، لم يستثنها من حاجتها للخلاص والمخلص. فجوهر أنشودتها، التي بدأتها، "تعظم نفسي الرب"، هو اعلانها الواضح والصريح ان الله هو مخلصها. آمنت مريم أن الله اختارها لسبب جوهري كونها  اتخذته مخلصا لها. فمريم  شهدت وشاهدت بل واختبرت تحقيق ابنها يسوع المسيح خلاص العالم على خشبة الصليب بدمه الكريم. فليس هناك في ملكوت الله منزلة متوسطة، بين المخلِّص والمخلَّص. 
الا إن نشيد العذراء لا ينتهي في تطويب مريم، لكن مريم  تنبأت في أنشودتها عن أخبار سارة للعالم يأتي بها  طفلها المخلص يسوع المسيح ، أخبار سارة عن قيم جديدة عن ملكوت الله،  قيم  تناقض وتنقض قيم العالم الحاضر البعيد عن الله. وسيبدأ  المخلص يسوع بتحقيقها بنفسه  أثناء خدمته على الارض. ففي هذا العالم ، فانه منذ القديم  وحتى اليوم، يسود  المفكرون المتكبرون على البسطاء، والمتسلطون المستبدون على المتواضعين، والاغنياء الجشعون على الفقراء، لكن مريم تنبأت بأن ابنها يسوع ، سيقلب قيم العالم الحاضر رأساً على عقب، ليضع مكانها قيم جديدة هي قيم ملكوت الله، على ان يتمم أولاده المهمة بعده. 
أكملت العذراء مريم أنشودتها، قائلة، "شتت المستكبرين بفكر قلوبهم، أنزل الاعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين، اشبع الجياع خيرات، وصرف الاغنياء فارغين" (لو1: 51-53) . ان استخدام مريم  لصيغة فعل الماضي حول عمل المسيح: "شتّت"، "أنزل"، "رفع"، "أشبع"، "صرف" للتحدث عن المستقبل، يشير وكأن الامر قد تحقق مسبقاً، مع ان المسيح لم يكن قد ولد بعد عندما نطقت بتلك الكلمات الخالدة.  هذا هو سر الايمان، أن نستطيع أن نثق  في الحاضر بقدرة الله على التغيير في المستقبل، ونتيقن من الآن أن الله سيتمم عملاً ما وضعناه بين يديه، وكأنه قد تحقق مسبقاً. وهذا فعلا ما فعله يسوع أثناء خدمته على الارض.
- "شتت المسيح فكر  المستكبرين، امثال الكتبة والفريسيين، ونقض آراءهم لانهم حمّلوا الناس احمالا عسيرة بشرائعهم الكثيرة التي تحولت الى عوائق كبيرة في طريق دخول الناس الى ملكوت الله، بينما رحب يسوع بالمفكرين المتواضعين الذين تركوا في فكرهم وحياتهم  مساحة لحضور الله،  كالمجوس الذين أتوا من المشرق حاملين هداياهم وساجدين له عندما كان طفلاً. 
- "أنزل الاعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين". فخبر ولادته هزّ عرش الحاكم المجرم هيرودس الكبير الذي عمل على الانتقام من أطفال أبرياء، فقتلهم علّه يتخلص من المسيح الطفل.  وفي انجيل لوقا الاصحاح الثالث والعشرين، نقرأ ان هيرودس ترجى ان يرى يسوع وهو يعمل آية، فرفض المسيح، وعندما وقف  امامه للمحاكمة وسأله هيرودس أسئلة، لم يجب المسيح على اسئلته (لو 23: 8 و 9 ) . فيسوع لم يحترم سلطة الظالمين الذين لم يستخدموها  في مكانها المناسب بل احتقرها ورفضها،  لكنه احترم وبارك سلطة المحبة والعدل والرحمة. رفع يسوع أولئك الرعاة االمتضعين الذين أتوا ساجدين لميلاده ورجعوا الى رعيتهم ممتلئين من محبة المسيح. 
-"أشبع  الجياع خيرات وصرف الاغنياء فارغين" .ان نبؤة مريم هذه لا تتحدث عن نزع الاموال من الاغنياء، وكأن المسيح يشن حملة ضد الاغنياء لمجرد حيازتهم على المال، بل تتحدث عن الاغتناء من حضور الله في الحياة، الأمر الذي يعيقه بل يمنعه محبة المال والتعلق به الى درجة التخلي عن الله . يسوع اشبع الكثير من الجياع واغناهم من خيرات خبز الحياة الذي اعطاه لمن آمن به، لكنه أيضا أغنى حياة بعض الاغنياء الذين وضعوا المسيح قبل مالهم ، كزكا العشار الذي حصل على خلاص المسيح ،لانه اعلن عن استعداده الكامل لمشاركة ما يملك مع الفقراء والمحتاجين (لوقا 19: 1-10). لكن يوجد بعض الاغنياء الذي لم يكونوا على استعداد لتجسيد ايمانهم بحياتهم بمشاركة ما يملكون من اموال مع الفقراء والمحتاجين، كالغني الذي ذكره انجيل لوقا (18)  الذي أتى الى المسيح طالبا الحصول على الحياة الابدية دون ان يكون له الاستعداد للاصغاء الى جميع وصايا الله، والتي من ضمنها مشاركة ما نملك مع الفقراء والمحتاجين، فذهب حزينا فارغ اليدين من خيرات ملكوت الله ( لو18: 18-27). 
ان موقف القديسة مريم العذراء الخالد هذا، يحمل لنا دروسا روحية عميقة، وتحذيرات هامة بجب أن نأخذها بعين الاعتبار، من هذه التحذيرات:
-لنحذر من تعظيم وتمجيد نفوسنا، ولنقدم كل المجد لله.
- لنحذر الاستكبار بفكرنا والتخلي عن الله في معرفتنا، لئلا يشتت المسيح تكبر فكر قلوبنا. 
- لنحذر اساءة استخدام سلطة ما ولِّينا عليها  صغيرة او كبيرة فنستخدمها لظلم الناس، بل لنحرص دائما على معاملة الناس بصدق وبمساواة وعدل وانصاف، لئلا ينزلنا المسيح عن كراسينا.
- لنحذر التعلق بأموالنا وممتلكاتنا على حساب تعلقنا بالمسيح، لئلا يصرفنا  فارغين من غنى ملكوت الله.