أربع سنوات تمر اليوم على رحيله.. وسنوات طويلة مرت على موقف معين يظل محفورًا في الذاكرة على مر الزمان.. كان ذلك في يوم من أيام أبريل عام ١٩٧٦.. توجهت لمقابلته دون موعد مسبق في مكتبه بجريدة «الأهرام»، ولم تكن إلا لحظات ودخلت إليه فوقف مرحبًا.. جلست أمامه شابًا حديث التخرج دون أن أنطق بكلمة، بينما كانت يده اليمنى تمتد لتفتح درجًا من أدراج مكتبه وتخرج محملة بكمٍ من الرسائل المحفوظة داخل الأظرف الخاصة بها.. يضعها على سطح المكتب قائلًا: فاكرك.. دى جواباتك اللى كنت بتبعتها لـ«الطليعة».
فاجأنى الدكتور رفعت السعيد بهذا الموقف، لكنه لم يترك لى فرصة الحديث، واستكمل قائلًا: «علمتنى دراستى للتاريخ أن أحتفظ بأى ورقة أو قصاصة، فقد أحتاجها يومًا ما، وأتعامل مع ما يصلنى من رسائل كمستند يمكن الرجوع إليه ولا أستهين بأى شىء يصل إلى يدى»، ثم سألنى: «تحت أمرك»، ورددت سريعًا: «الأمر لله.. عايز أنضم لمنبر التجمع»، وابتسم قائلًا: «ده المتوقع والواضح من رسائلك.. نلتقى غدًا في مقر التجمع بالدور التاسع في مبنى الاتحاد الاشتراكى على كورنيش النيل».
لم أتصور، وقتها، أن ألتقى بكاتب مرموق واسم لامع في عالم الصحافة، وله كتاباته المهمة وأبحاثه التى أحدثت ضجة في المجتمع، ومنها دراسته عن القوى البرجوازية وعلاقتها بثوار يوليو، والتى أعدها من خلال البحث والتنقيب بين السطور في صفحة الوفيات، وكان لها صداها في الأوساط السياسية والصحفية.
حتى هذه اللحظة، ورغم مرور أكثر من ٤٥ عامًا على اللقاء الأول، فإننى لا أعرف السر وراء اختيارى «رفعت السعيد» من بين أسرة تحرير «الطليعة» كى أبعث إليه برسائلى.. لم يكن رئيسًا للتحرير أو مديرًا للتحرير أو سكرتير التحرير.. كان فقط ضمن هيئة تحرير المجلة، لكنها كيمياء العلاقات الإنسانية التى لا يدركها كثيرون.. فقد استمرت معرفتى به وتوطدت العلاقة أكثر وأكثر على مدى كل هذه السنوات.. اختلفنا واتفقنا، تعاركنا كثيرًا لكنه كان دائمًا السباق إلى التسامح والسمو عن الصغائر والحرص على الاحتواء كأى أب حريص على أبنائه مهما بلغ بهم الشطط.
إنه الدكتور رفعت السعيد القائد الحزبى المرموق.. رمانة الميزان في حزب التجمع.. أيقونة اليسار المصرى.. خبير العمل التنظيمى الذى لا يشق له غبار.. المفكر الواعى بأولويات العمل السياسى.. الباحث المدقق في مجالاتٍ عدة.. معلمى الذى أفخر به.. الإنسان ثم الإنسان والإنسان بكل معنى الكلمة وتجلياتها ومعانيها.. وغير ذلك كثير وكثير. إنه واحد من عظماء مصر، قضى عمره كله، يبحث وينقب ويكتب في مجالات السياسة والثقافة والفكر والتنوير والوطنية المصرية، ولا يمكن أن ننسى دوره في كشف حقيقة الإخوان وتعريتهم أمام الرأى العام، وسيظل التاريخ شاهدًا على أن رفعت السعيد خاض معركته ضد الإخوان قبل الزمان بزمان، وفى وقتٍ كان آخرون يهللون لهذه الجماعة المارقة، ولا ننسى أيضًا أنه صاحب مصطلح "المتأسلمين"، فهو أول من أطلقه على هؤلاء الإرهابيين الذين دأبوا على خلط الدين بالسياسة، وله في ذلك بحث متكامل يتضمن مراجع عديدة في اللغة العربية وأصل الكلمات، وقد أودع بحثه هذا في مجلس الشورى عندما كان عضوًا به.
وعلى ذكر الشورى، فقد مارس دوره كمعارض بمسئولية كبيرة تجاه الوطن والمواطن، ولم يمنعه تعيينه في الشورى من ممارسة هذا الدور، حتى أنه كان بآرائه وأفكاره التى يطرحها خلال جلسات المجلس، يسبب إزعاجًا لرئيس المجلس صفوت الشريف. حكى لى الراحل الوطنى الكبير محمد فريد خميس رئيس لجنة الصناعة في الشورى آنذاك أن الدكتور رفعت السعيد تشاور معه لإعداد مذكرة حول خطوات ضرورية لإنقاذ الصناعة المصرية، ووقع عليها عشرون عضوًا يتقدمهم فريد خميس، وعندما تم تقديمها، فوجئ بصفوت الشريف يقول له: «هو الدكتور رفعت بهت عليك؟!».
هذه الواقعة تحديدًا، إلى جانب ما كانت تنشره الصحف من وقائع للجلسات العامة، تؤكد ما هو مؤكد: التعيين لم يكن أبدًا عائقا بين الراحل العظيم وبين أداء دوره كمعارض يعرف معنى المعارضة الوطنية.
هل تكفى هذه المساحة لاختزال رحلة طالت ٤١ عامًا، نلتقى خلالها كل صباح إلا أيامًا قليلة؟.. حتى عندما شاءت ملابسات معينة أن أبتعد عن مقر التجمع في السنوات الأخيرة، لم ينقطع التواصل بيننا وكان دائمًا سباقًا بالسؤال.
دروس كثيرة تعلمتها منه، أحاول أن أسرد بعضها سريعًا.. عندما ذهب السادات إلى تل أبيب، أصدر التجمع عدة بيانات ووثائق، وطلب منى السعيد إعداد كتيب يرد على مؤيدى الزيارة، وصممت غلافًا عبارة عن نجمة داود يخرج منها رأس توفيق الحكيم «الذى أعلن يومها تأييده لخطوات السادات»، وذهبتُ فرحًا إلى السعيد أحمل نسخًا من الغلاف بعد طباعته، فإذا به ينزعج ثم يتكلم بهدوء: «الحكيم أيد سفر السادات إلى إسرائيل، لكن ده مش معناه إنه صهيونى.. الحكيم برضه قيمة كبيرة في المجتمع.. اعمل غلاف غيره وقطع ده»... وبعدها بيومين اصطحبنى إلى مكتبه بـ«الأهرام»، لأجد نفسى وجهًا لوجه أمام توفيق الحكيم بعد أن دخل السعيد غرفته، وحكى له ما حدث وتركنى وخرج، وبدأ الحكيم يتحدث: «تأييدى للزيارة لوقف سيل الدم، لكن موقفى ثابت من الصهيونية وأعلم أن إسرائيل عدونا الرئيسى»، وتكلم توفيق الحكيم كثيرًا، وخرجت من مكتبه، أكن كل احترام وتقدير لشخصية توفيق الحكيم ومنهجه كواحد من الكبار الذين أثروا في العقل العربى، بعيدًا عن تهورات الشباب وطريقة تفكيرهم.. وكان ذلك درسًا علمنى إياه رفعت السعيد: «الأحكام القطعية والمزايدات الشبابية على خلق الله.. فيها ضرر بالغ بالجميع».
ذات مرة، قررنا في «الأهالى» الاستغناء عن محررة تحت التمرين لأنها اعتادت أن تأتى بموضوعات سبق نشرها في صحف أخرى، لكنها بدلًا من أن تتعظ وتتعلم الدرس، بدأت في شن حملة على عدد من قيادات الحزب والجريدة، وخصت رفعت السعيد بالهجوم الأكبر، ورأى رئيس التحرير وقتها أن ننشر بروازًا، نكتب فيه: «تحذير.. فلانة الفلانية لم تعد تعمل بالجريدة وانتهت علاقتها نهائيًا بنا»، لكن رفعت السعيد رفض ذلك بشدة.. لماذا؟.. قال السعيد: «ماتنسوش إنها بنت، والناس ممكن تفهم أن استبعادها تم لأسباب أخلاقية.. كلنا عندنا بنات ولازم ندارى على بناتنا».
في كتابه «مجرد ذكريات»، نالنى شرف كتابته عنى عندما سرد حكايات من دفتر حزب التجمع، وحاولت أن أسرد هنا بعض الذكريات، من وسط تاريخ يحتاج إلى مجلدات ومجلدات، وتبقى صفته الإنسانية تعلو على كل الصفات، وهو ما لا يدركه ولا يفهمه كثيرون ممن اختاروا كيل الاتهامات دون وعى أو تمحيص.. باقٍ أنت بيننا إلى يوم الدين مهما طال الرحيل، نتذكرك ويتذكرك كثيرون كلما كان الحديث عن هموم الوطن، ونراك دائمًا روحًا ترفرف على أروقة الحزب عندما ندلف داخلين إلى قاعته الرئيسية.. سلامًا على روحك الخالدة وسلامًا على الصابرين.
آراء حرة
"مجرد ذكريات".. مع أيقونة اليسار المصري رفعت السعيد
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق