الأحد 15 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

محمد سليم شوشة يكتب: استراتيجيات هيمنة الإخوان على الحياة الثقافية والفكرية

د. محمد سليم شوشة
د. محمد سليم شوشة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ربما تبدو الحياة الثقافية بالنسبة لجماعة الإخوان المجال الأكثر سهولة ويسرا من حيث الهيمنة بخلاف بقية المؤسسات ومراكز السلطة، والأخطر من كونها الأسهل فهي الأهم والأسرع تأثيرا وتشكيلا للوعي والرأي وهذا هو عين ما يريدون. الهيمنة على مراكز القول والرأي ومنصات بث الأخبار والمعلومات والأفكار، منصات الإعلام من الصحف والمجلات والقنوات والكتب ودور النشر وبالطبع كانت الحلقة الأسهل من منصات الثقافة كلها المساجد، فهي المنصة الأوسع والأهم في تشيكل الثقافة الدينية وفق التكوين الذي يريدون من التطرف وكراهية الآخر وتكفير الدولة وبث أفكار مثل الخلافة.

نعم هم متغلغلون في التعليم بمساحة ليست هينة، وبخاصة التعليم الجامعي الذي دشنوا فيه قواعد ومراكز قوى منذ منتصف السبعينيات، وأعرف أساتذة بعينهم كانت مهمتهم الأساسية تعيين أبناء الإخوان في الجامعات الإقليمية الناشئة، وفق استراتيجية واضحة بداية من مساعدتهم في الدراسات العليا وحتى تعيينهم ومتابعة ترقياتهم وصعودهم في المناصب الجامعية مثل عمداء الكليات ووكلائها، وبعضهم كان يصل إلى مناصب أعلى فترأسوا بعض الجامعات وبخاصة في فترة 2011 وما بعدها بقليل. لكن يبدو أن طموح هذه الجماعة وبإرشاد وتعليمات من القوى العالمية التي تخطط لهم كان أكبر من هذا، فهم يريدون السيطرة التامة على منابع الفكر في المجتمع، لأن أسرع الطرق لإحداث تحول جذري في بناء المجتمع المصري وتفتيته هو التحكم التام في منابع الأفكار التي يتغذى منها المجتمع. فكرة واحدة إذا ترسخت في مجتمع تقلب كيانه رأسا لعقب. ما حدث في أفغانستان لم يكن يزيد عن ترسيخ لفكرة الجهاد، استقطبوا المقاتلين من الخارج ودفعوا الأغلبية من الطبقة المتحكمة في الرأي في الدولة إلى الهجرة لأوربا وأمريكا وبهذا فرغت لهم الساحة تماما، ولكن جمع المقاتلين من الدول الأخرى لا يمكن أن يستمر طويلا في خيارات التجييش، فهم يريدون أن تكون الكاتئب المقاتلة من داخل كل دولة، ولهذا فليس هناك أفضل من السيطرة التامة على منصات الرأي والقول وتشكيل الوعي.

فكرة مثل حتمية الخلافة أو فكرة مثل الحاكمية وأن الخروج عليها هم حكم الطاغوت والكفر، فكرة مثل كراهية الآخر أو محاربة كل من هو مختلف عن الإسلام ومعاداته، كلها أفكار كفيلة بأن تصنع تحولا خطيرا إذا زادت نسبة انتشارها وبلغت معدلات معينة أو نسبة معينة من التغلغل بين الشباب. 

فيما يعرف بدراسات التاريخ الإسلامي مثلا وفي كافة التخصصات والكليات التي تدرس التاريخ الإسلامي في العصور الأولى يكون التركيز على أن هذه هي العصور القوة الحقيقة وعصور الخير والرخاء والعصور التي يجب أن نعود لها. لن تجد أستاذا في أي كلية من الكليات التي تدرس هذه المواد يقول شيئا أكثر من هذا، إقناع الطلاب بأنها العصور المثالية التي يتوجب علينا العودة إليها بشكل كامل، ليس مطلوبا منه أن يضمهم لتنظيم أو يدعو بشكل فج لجماعة معينة، فهذا خطأ جسيم تحذرهم الجماعة منه، هي تريد لهم أن يستمر صعودهم وارتقائهم في مناصب ومفاصل الدولة، تريد لهم أن يكونوا في أمان، وليس عليهم إلا أن يمهدوا للأفكار المؤسسة للجماعة والتنظيم وكافة التنظيمات الشبيهة أو المتفرعة عن هذا الأصل.

لن يدرسوا هذه العصور أو هذه المقررات بشكل نقدي، لن يتعاملوا معها بشيء من الموضوعية ولن يحاولوا رؤيتها في إطار من العلوم الحديثة أو في إطار رؤية نقدية نابعة من العصر الحديثة واللحظة الراهنة، وهذا ما يجب أن يكون عليه تعليم هذه العصور، لن يدرسوها في جانبها الإنساني وفي جانبها التراثي وأنها جزء من التراث العالمي والإنساني وفيها قيم مهمة كما هي دالة على سلبيات كثيرة، بل سيدرسونها بهذه الحالمية والرومانسية. قد تجد طالبا يدرس مثلا الشعر في عصر صدر الإسلام ويبكي حين يقرأ نصا شعريا يهجو فيه غير المسلمين أحد الصحابة، يمتلئ بالكراهية والعنف لمجرد أن يقرأ قصيدة يهجو فيها رجل رجلا قد يصبحان أصدقاء بعد ذلك بقليل حين ينضم الآخر إلى المسلمين ويختار العمل معهم سياسيا وعسكريا. لن يفكر كيف بقي نص شعري كهذا وظل محفوظا وكيف أن أهل هذه العصور كانوا أكثر عقلانية منه ومن جماعته لأن بقاء هذا النص الشعري دليل على إدراكهم لقيمة الشعر وإدارك قيمة الأدب وإدارك قيمة الخطاب وتأثيره، وأنهم قبل كل هذا كانوا مستوعبين لاختلافاتهم وكانوا أكثر تسامحها معها وأكثر قبولا للآخر. 

يمتلئ الطالب وفق هذه الاستراتيجية التدريسية بمزيد من العصاب والتشنج والأحادية، ويجافي عصره تماما حد العداء، فيجافي التحضر ويصبح حيا تماما في الماضي، يدشن دولة الخلافة في مخيلته ويدخل إلى أسوارها ويعيش فيها تماما، وينزعج إذا حاول أحدهم أن يسحبه خارجها. ينتظر توسيعات سور دولة الخلافة بحسب أفكار شيوخه ومدى قابليتهم للتجديد الفكري، فيقبل استخدام الموبايل مثلا إذا قالوا له يجوز في الجهاد، يستخدم أي من منتجاب الحداثة والعصر الحديث إذا أجازوا له فقط، ودون ذلك يبقى في أسوار دولة الخلافة مثل ذئب مفترس جاهز للانقضاض على من خارج السور إذا تم إطلاقه. 

في الإعلام وفي الصحافة القومية أحيانا قد تجد من يبث أفكار كهذه تخدم الأساس التي تقوم عليه الجماعات، من يحدثك عن بطل قديم حارب الصليبيين أو المغول أو غيرهم من الملل، من يتحدث عن قائد تركي أو كردي أو عثماني، لا يريد أكثر من أن يقول إن الأبطال كانوا في القديم فقط، تجده يهرب للماضي ولا يحاول ربطه بالحاضر أبدا، لن تجده يشير إلى نموذج عصري مع نموذج قديم، أبدا، لن تجده يتناول بطولة من بطولات الجيش المصري الحديثة مثلا إلى جانب بطولات القدماء. فهو يريد فصل المتلقي تماما عن الحاضر، يريد أن يوحي له ويهمس له بصوت ناعم أن الأبطال العظام كانوا في الماضي فقط، ولا يوجد في الحاضر من يدافعون عن الأرض والعرض والدين. برغم بساطة حياة الماضي وأن أي قائد ما كان ليقود أكثر من مئات أو ألوف من المحاربين على الخيول والجمال وفي مناطق فضاء أو بعيدا خارج المدن في الغالب، وبرغم أن حياة القدماء لم تكن بالتعقيد الحالي ولا بالتحديات الحالية لكن ستجد كثيرين يستغرقون فيها تماما ولا يرون شيئا غيرها. 

لا يتوقع أي إنسان عاقل من العنصر المنتمي في الخفاء للإخوان أن يجاهر بانتمائه أو بالأفكار الإخوانية المباشرة، بل يدرك تماما أنهم يدسونها في خفاء وخفة، مثل نشال محترف تربى على الكراهية والغل، ويمتلئ بهما تجاه الدولة الحديثة والجيش المصري. يهمس أحدهم بأن الخلافة ركن أساسي من الدين وقد كنا نتصور أنه وسطي وأنه شخصية محبوبة ومقبولة، بل هذا الشخص نفسه الذي يتحدث عن حتمية الخلافة قد يسب الإخوان أو يشتمهم، والحقيقة أن خدماته التي يقدمها لهم بترسيخ مفهوم الخلافة وحتميتها أكبر وأعظم بكثير عندهم من أن يشتمهم، لو سبهم أو قال عليهم أي كلام سلبي مطلق، قد يتعاطف الناس معهم، قد يجعلهم يظهرون بصورة المظلومين المضطهدين، وهكذا تكون خدمة أخرى، لكن لن تكون هناك خدمة أعظم وأجل بالنسبة لهم من ترسيخ أحد أهم أفكارهم المؤسسة وهي فكرة الخلافة وحتمية قيامها. أو فكرة مثالية الماضي ومثالية عصوره القديمة أو إقناع قطاع بفريضة الجهاد وفق منطق ديني لا وطني.

لقد نجحت الدولة المصرية نجاحا مبهرا في التصدي لهم على المستوى الأمني، المستوى المعلن والظاهر، وأثبتت كفاءة عظيمة، لكن الأخطر في هذه المرحلة هو التصدي الناعم لأفكارهم والعمل على اقتلاعها تماما من تربة المجتمع المصري، ففي رأيي أن هذه هو التحدي الأكبر وأن هذا هو الذي يكفل لنا تحولا حقيقيا إلى مجتمع عصري وحضارية مصرية عظيمة، وتسهم في استعادة تماسك النسيج المجتمعي، لأن هذه الأفكار هي التي تمزق المجتمع وتعطل تلاحمه.