ترك الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور قيمة إنسانية وأدبية كبيرة، من خلال إنتاجه الأدبى المتنوع، فأحرز مكانة مميزة فى وجدان قارئ الشعر العربى ومدرك تحولاته، وصفه الناقد الأدبى الدكتور جابر عصفور، أنه أهم شاعر فى مصر بعد شوقى، لكونهما خرجا من الشعر الغنائي إلى المسرح، وتركا تراثا مسرحيا شعريا يظل فى مرتبة متميزة.
وجاء "عبدالصبور" لكى يغير الاتجاه الشعرى والرؤية، حيث إنه قام بتغير تقنيات الشعر، وقد اعتمد على رموز صوفية تتحدث عن الوجود وعن العالم الآخر، فهذه الرموز الصوفية لم تكن مطروحة إلا من خلاله.
"البوابة نيوز" تحتفى اليوم السبت، بمرور ٤٠ عاما على رحيله، وتحيى ذكراه، فتلقي الضوء على دوره فى الثقافة المصرية.
تظل القاهرة نقطة الاتصال بالعالم الواسع والخروج من العالم الضيق المحصور في المناطق الريفية، فذهب إليها الشاعر صلاح عبد الصبور، مثلما ذهب كبار الكتاب والمبدعون، لاستكمال مراحل دراسته الجامعية في العام 1947م، فهي مدينة مليئة بالحياة عرف خلالها ما لم يكن يعرفه من قبل، وهو الاقتراب من عالم القراءة، والفكر، والفن، التقى خلالها كبار الكتاب، والشعراء، والفنانين، وكذلك الكتب في مكتباتها وأرصفتها، فكانت هذه المرحلة بمثابة مرحلة التشكل الحقيقي في حياته.
يصنع الشعر توازنا ما بين إيقاع الحياة المزدحم والمضطرب، وبين الحالة الروحية والايقاع الداخلي لمشاعر الإنسان، فعادة ما يلجأ الإنسان إلى مكانا هادئ، أو إلى قطعة موسيقية يحبها، أو لصديق يألفه، وأيضا إلى قصيدة يقرأها؛ فتنقله من هذا العالم المضطرب إلى عالم آخر أكثر هدوء بحيث يسترد بعض توازنه ويستطيع بعد ذلك أن يواجه صخب الحياة.
"الناس في بلادي" أول ديوان شعر نشر له في أوائل عام 1957م، وأحدث صدى كبير في الوسط الثقافي، لأنه أثار قضايا مهمة خلقت تحويل كبير في حركة الشعر الحديث بمصر، وكانت بداية الطريق في مشواره الأدبي، أتبعها مجموعة من الدواوين، والكتب النثرية، والمسرحية التي من بينها: "مأساة الحلاج، ليلي والمجنون، الأميرة تنتظر، بعد أن يموت الملك، مسافر ليل"، وغيرها من المسرحيات.
كانت علاقته الأولى بالمسرح عندما حضرت فرقة يوسف وهبي المسرحية إلى الزقازيق وقدمت عرضا مسرحيا بعنوان "أولاد الفقراء"، هذه الصورة المسرحية الوحيدة التي شاهدها الشاعر قبل الانتقال إلى القاهرة، ولكن كانت معرفته بالمسرح من خلال القراءة بداية من مسرح أحمد شوقي الشعري، ثم المسرح الأوروبي الذي يدين له في الأساس، مثلما فعل قبل سابق توفيق الحكيم في أعماله الشهيرة وهي: "شهر زاد، أهل الكهف" فهي عبارة عن تأثر كبير بالحكيم أثناء فترة إقامته بفرنسا وخاصة بمسرح "برانديلوا" و "الطليعي" آنذاك.
وقع "عبدالصبور" أسيرًا في أدب الشاعر الإنجليزي وليم شكسبير، حين بدأ بالتجربة الأولى في كتابته للمسرح، فكتب مشهدين وعقب الانتهاء منهما سرعان ما اتجه إلى المترجم محمد فريد أبو حديد بصفته أحد رواد ترجمة المسرح الأوروبي، ولكونه واحدا من القراء المهمين لوليم شكسبير ليقرأ له ما كتبه، فقد استطاع أن يخلق شخصية مثقف حائر ما بين الفكر والفعل في كتابته أي شخصية هاملتيه تمامًا، محاولا الكتابة مرة أخرى بمسرحية عن "الزير سالم"، ثم "مأساة الحلاج" التي كانت أول مسرحية تكتمل أركانها الأدبية وانتهى من كتابتها عام 1964م، وهي ما يطلق عليها مسرحيات الاستشهاد، حققت نجاحا كبيرا جماهيريا ونقديا سواء مادة أدبية أو على خشبة المسرح، التي ترجمت بعد ذلك إلى أربع لغات أجنبية.
"مأساة الحلاج"
واحدة من أروع ما قدمه الشاعر صلاح عبدالصبور للمسرح الشعري، وأخرجها المخرج المسرحي سمير العصفوري، وهي من الأعمال التي عرفها العالم العربي، والأوروبي، تناول خلالها شخصية الحسين بن منصور الحلاج المتصوف، الذي عاش في منتصف القرن الثالث للهجرة، ويتكون هذا العمل من فصلين الأول بعنوان "الكلمة"، والثاني بعنوان "الموت"، وهي ذات بعد سياسي تدرس العلاقة بين السلطة المتحالفة مع رجال الدين، وبين المعارضة الملتصقة بالشعب، متطرقًا إلى محنة العقل المتحجر أمام النص.
أدرجها النقاد ضمن مدرسة المسرح الذهني، ورغم ذلك لم يسقط المؤلف منها الجانب الشعري، فجاءت المسرحية مزدانة بالصور الشعرية ثرية بالموسيقى.
في مقالته النقدية عن "مأساة الحلاج" بمجلة "نادي المسرح" فبراير 1980م، أكد الدكتور أسامة أبو طالب، أستاذ النقد والدراما بأكاديمية الفنون، أن "عبدالصبور" استلهم مأساته الشعرية الأولى، فكشف بذلك عن التربة الخصبة للتراث الإسلامي والعربي، وفتح الطريق للتعامل مع كنز الدراما القومية الحقيقية بوعي وإدراك وحب، قدم خلالها "الحلاج" درسا للمعاناة في مأساته الفنية كما كان في حياته، يعاني الحلاج مرتين يتوقف في منهما فيتعذب ويكابر قبل أن يختار ويقرر، وفي كل وقفة يصنع مع نفسه قبل أحبائه وأعدائه خصومة وملاحاة، ففي الجزء الأول من المسرحية المسمى بالكلمة نجد الرجل ليس برجل دين ولا ملكا خالصا لها للذات ملكا بائع الخصوصية لا يصح اهداره أو هتكه بالإعلان عنه وإشهاره، وهو نتاج المجاهدات الشاقة للنفس المتصوفة يربطها فقط بسر الخلق ونور الخالق، لكن الحلاج على غير ما تعودت الجماعة يبوح ويعلن فلا يفهم من أحواله فيخالف بذلك شريعتهم الخاصة حتى ليعترض عليه الشبلي، الذي يمثل في تردده وإحجامه وخوفه تجسيد العقيدة الصوفية السائدة الذي حكوا عنه وعن غيره من الأولياء.
وعن مأساوية الأبطال في التاريخ يشيد "أبو طالب" بمسرحية عبدالصبور كونها تتخذ أهميتها البالغة إذ تصنع من التاريخ الإسلامي ومن أبطاله ذوي اليقين نماذج مأسوية لا تقل أبدا في أهميتها عن النماذج المعروفة والمألوفة المتمردة والرافضة نماذج ليست عدمية أو مكتشفة العبث واللامعقول في الكون، وإنما عبثا آخر وهو عبث الإنسان وفساده ودوره في تشويه الكون، وتصبح هي محاولة أن يعود للكون صفاؤه، وتصبح القضية هي تحدي الإنسان المفسد وليس الخالق والسعي محاولة لإثبات اليقين، هذا الكنز الأصيل الذي نقب عنه عبد الصبور في الحلاج، وتابعه الشاعر عبد الرحمن الشرقاوي في "الحسين ثائرا".
يتناول مسرح "عبدالصبور" قضايا سياسة واجتماعية محلية خالصة، ومع ذلك يقدمها بأساليب وصياغات أقرب إلى الطابع الغربي المعاصر منها إلى أي شيء آخر، فقد تعامل مع الكلمة في مسرحياته كأنها كائن حي وشخصية أساسية من شخوص المسرحيات، ويؤكد الشاعر على ضرورة الاهتمام بالأدب والمسرح بالإنسان والمجتمع والواقع، كما يرى أن التجربة الشعرية والصوفية تتبعان من أصل واحد، حيث يُعد واحدا من الشعراء العرب القلائل الذين أضافوا مساهمة بارزة في التأليف المسرحي، وفي التنظير للشعر الحر.