على مسار مشواره الإبداعى الذى استمر لعقود طويلة، تأثر إبداع الراحل الكبير صلاح عبدالصبور بأشكال عِدة، بدأ مع قراءاته المُتعددة التى تراوحت من شعر الصعاليك إلى شعر الحكمة، وخوضه فى أفكار بعض أعلام الفكر الصوفى مثل أبو منصور الحلاج وبشر الحافي، وهما نفسهما اللذان استخدمهما فى كتاباته لإظهار أفكاره وتصوراته في بعض القصائد والمسرحيات فيما بعد؛ واطلع على الشعر الرمزى الفرنسى والألمانى عند بودلير وريلكه، والشعر الفلسفى الإنجليزى عند جون دون، ييتس، كيتس، وإليوت بصفة خاصة، وهو ما ظهر عندما ربط الكثيرين بين رائعة إليوت "جريمة قتل فى الكاتدرائية" ورائعته "مأساة الحلاج".
رحلة عبد الصبور لم تقتصر على الشعر فقط، لكنه اقتحم عالم القصة القصيرة، ومن يمعن النظر فى دواوين عبد الصبور الشعرية، سيجد أن الأسلوب القصصي في شعره احتل مساحة كبيرة جدا، عكست بالفعل حبه لفن القصة، لكن الشعر أخذه بعيدا عنها لأنه يحب تملك صاحبه ليكون أثيرا له ولا يرد أن يشاركه فنا آخر بل يستوعبه داخل دائرته ليعيد امتصاصه، وهو ما حدث بالفعل، فسرعان ما ودع كتابة القصة القصيرة ليخلص لتجربته الشعرية بشكل كامل.
وأصدر عبدالصبور العديد من المؤلفات؛ فصدرت له دواوين: "أقول لكم"، "تأملات فى زمن جريح"، "أحلام الفارس القديم"، "شجر الليل"، "الإبحار فى الذاكرة"، كما كتب خمس مسرحيات شعرية هى: "الأميرة تنتظر"، "مأساة الحلاج"، "بعد أن يموت الملك"، "مسافر ليل"، و"ليلى والمجنون"، وصدرت له عدة أعمال نثرية منها "حياتي في الشعر"، "أصوات العصر"، "ماذا يبقى منهم للتاريخ"، و"رحلة الضمير المصرى".
مهمة الشعر ليست هى رؤية ما يراه البشر. لكن عبقرته تكمن فى التقاط التفاصيل التى لا يراها سواه، وهو ما برع فيه عبد الصبور الذى كان مهموما بالتفاصيل وبرصدها داخل دواوينه الشعرية، وهو ما يظهر في قصيدته "شنق زهران: "إن زهران غلاما.. أمه سمراء والأب مولد.. وبعينيه وسامة.. وعلى الصدغ حمامة.. وعلى الزند أبو زيد سلامة".
ويقول الشاعر والناقد فخرى صالح، إن عبد الصبور استطاع في ديوانيه "شنق زهران"، "والناس فى بلادى" أن يقترب من تفاصيل الحياة اليومية للناس لإضفاء الشعرية على هذه الحياة التى لا يلتفت إليها الشعب، ويعدها موضوعًا غير شعرى ويلحقه بعالم النثر.
وفى سبيل تحقيق هذه الإستراتيجية، يحقن الشاعر قصيدته بما يتفوه به الناس وما يجرى على ألسنتهم من أمثال وتعبيرات شعبية وكلام مكرور مستعاد وصفات نمطية، ويلجأ إلى التعبير المباشر بحيث تخلو القصيدة من الصور والاستعارات ويكتفي الشاعر بالتشبيه البسيط إذا أضطر إلى لغة التصوير والتعبير الشعري المألوف".
كما ظل عبد الصبور غارقا فى التفاصيل اليومية، وهذا ظهر جليّا وبوضوح شديد فى قصيدته "الحزن" التى كانت تمجد تفاصيل الحياة، والتى هوجمت فى الوقت ذاته بأنها تنحدر بالقصيدة.
وعلى الرغم من تحمس "عبد الصبور" للتفاصيل الصغيرة إلى أن العمق والتأمل لم يغب عن قصائده، وهو ما كان يؤكد أنه شاعر المفاتيح الكثيرة التى كانت تبحث بصدق عن قيمه الحرف الذى كابد من أجله الكثير، واستطاع بذكاء كبير عبر لغته أن يجعلها متنوعة ما بين قضايا متعددة.
كذلك كان الحب مقترنا بالإبداع لدى الرجل، فشكَّل له الملتجئ الوحيد الذى هرب إليه ليكتب مأساته عن المصير والوجود الإنسانى، فجاءت لغته طازجة ومحملة بالحنين لكل القيم النبيلة التى اندثرت.
يقول الكاتب والناقد اللبنانى عبده وازن، عن تلك اللغة المميزة: "تنتمى لغة صلاح عبد الصبور الشعرية إلى تراث الحداثة مثله مثل بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتى ونازك الملائكة وسواهم، إلا أن "شيئا" ما في شعره يظل عصيّا على حكم الزمن. "شىء" كالجمر الذي لا يخبو تحت الرماد".
فى الوقت نفسه، لم يستطع صلاح عبد الصبور أن يهرب من الحزن الدفين الذى مزق قلبه الرقيق، فعبر عنه فى قصائده لكنه كره أن يلقبه النقاد بالشاعر الحزين. كان وفيا ولم يستخدم الفكرة لاستعطاف قلب القارئ ليتعاطف مع شعره، ولكنه وجد فيه مساحة شديدة من الإخلاص للتعبير عن أزمة الوجود الإنساني.
لذا يظل يكتب عبر قصائده ليعالج تلك الأزمة التى تلازم رحلة الإنسان، وكلما تعالت نظره النقاد اليساريين له كشاعر حزين كان يرد عليهم: " يصفنى نقادى بأني حزين، ويديننى بعضهم بحزنى، طالبًا إبعادى عن مدينة المستقبل السعيدة بدعوى أني أفسد أحلامها وأمانيها، بما أبذره من بذور الشك فى قدرتها على تجاوز واقعها المزهر إلى مستقبل أزهر.
وقد ينسى هذا الكاتب أن الفنانين والفئران هم أكثر الكائنات استشعارا للخطر، ولكن الفئران حين تستشعر الخطر تعدو لتلقي بنفسها في البحر هربًا من السفينة الغارقة، أما الفنانون فإنهم يظلون يقرعون الأجراس، ويصرخون بملء الفم حتى ينقذوا السفينة أو يغرقوا معها".
وعندما يتعاظم حنقه في دائرة الحزن يردد: "لست شاعرًا حزينًا، ولكنى شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأنى أحمل بين جوانحى كما قال "شيلى" شهوة لإصلاح العالم".
نبض الفكر.. كيف يرى عبدالصبور الشعراء؟
ومن يريد أن يعرف أوجهًا كثيرة للشاعر صلاح عبد الصبور فعليه بقراءة كتابه "نبض الفكر" ليعرف وجوهًا متعددة للشاعر، فهو المفكر والباحث عن تجارب شعراء سبقوه ليظهر وجه التشابه بينه وبينهم فيما يتعلق بالهم المشترك باتجاه المصير الإنسانى.
فقد تطرق إلى عدد كبير من الشعراء العرب من الماضي والحاضر، كما عرض لشخصيات ثقافية أجنبية مثل الروائى الروسى دستويفسكى والشاعر والمسرحى الإنجليزى شكسبير والشاعر الفرنسى سان جون برس والشاعر والناقد الإنجليزى الأمريكى ت.س إليوت، والشاعر والروائى اليونانى كازانتزاكيس وسواهم، وحاول أن يقدم فى كتابه رؤيته لهؤلاء الشعراء بعيدا عن ضجة الانفعال بل بدا باحثا هادئا داخل الكتاب.
فى الكتاب حقر عبدالصبور ذاته، بالمقارنة بذات "المتنبى"، فظهرت صورة الأخير فى كتابه بأنه شاعر يفوقه في البطولة والفحولة، كما كتب عن فتنة أبى العلاء بالمتنبى والتي كان يشاركه تلك الفتنة واصفا شخصيته القلقة بجملة بديعة: "كأن الريح تحته يصرفها يمينا وشمالا"، بل يضيف: "إن للمتنبى فتنة كفتنة الحب الأول".
ثم ينتقل إلى أبي حيان التوحيدى الذى أقدم على حرق كتبه فى أواخر أيامه ويصفها: "من أوجع الصفحات في التاريخ"، ولكنه يقول: "ومن حُسن حظنا أن أبا حيان حين أحرق كتبه لم يحرق إلا ما تأخر زمنه منها، أي ما كتبه فى العشرين عامًا الأخيرة من عمره.
الصحفى المُحافظ
وإذا ما تجولنا فى مقالات عبد الصبور حول الحب والحياة والفن، والتي استمرت منذ عام ١٩٥٧، وحتى عام ١٩٧٥ - قبيل تولى عبد الصبور منصب المستشار الثقافي في سفارة مصر بالهند كان حريصا على تجميع المقالات ذات الموضوعات المتقاربة فى كتب صغيرة، فصدر له "على مشارف الخمسين، وتبقى الكلمة، حياتى فى الشعر، أصوات العصر، ماذا يبقى منهم للتاريخ، رحلة الضمير المصرى، حتى نقهر الموت، قراءة جديدة لشعرنا القديم، ورحلة على الورق".
وبالحديث عن "أقول لكم" فهو ينقسم إلى ثلاثة أبواب؛ أولها "عن الحب"، الذى أظهر عبد الصبور كصحفى محافظ، يدافع عن الأعراف فى مواجهة ثورات الشباب وضد ما اسماه بالتقليد الغربى، ويسرد من المواقف ما يُعزز نظرته التي تؤكد مسئولية المرأة عن قسم كبير مما لحق بالمجتمع من أوبئة، بل يُصرح فى أحد المواضع بأنه يرى أغلب النساء العاملات "ما نزلن من بيوتهن إلا لاصطياد رجل، والحب فى سطوره إن لم يكن فى إطار اجتماعى مقبول فهو لهو".