ترك الشاعر صلاح عبدالصبور قيمة إنسانية وأدبية كبيرة، من خلال إنتاجه الأدبى المتنوع، فأحرز مكانة مميزة فى وجدان قارئ الشعر العربى ومدرك تحولاته، وصفه الناقد الأدبى الدكتور جابر عصفور، أنه أهم شاعر فى مصر بعد شوقى، لكونهما خرجا من الشعر الغنائي إلى المسرح، وتركا تراثا مسرحيا شعريا يظل فى مرتبة متميزة، وأن "عبدالصبور" جاء لكى يغير الاتجاه الشعرى والرؤية، حيث إنه قام بتغير تقنيات الشعر، وقد اعتمد على رموز صوفية تتحدث عن الوجود وعن العالم الآخر، فهذه الرموز الصوفية لم تكن مطروحة إلا من خلاله.
"البوابة نيوز" تحتفى اليوم، بمرور ٤٠ عاما على رحيله، وتحيى ذكراه، فتلقي الضوء على دوره فى الثقافة المصرية.
فى ديوانه "أقول لكم"، الصادر عام ١٩٦١، مجموعة متنوعة من القصائد، أبرزها قصيدة طويلة بنفس عنوان الديوان "أقول لكم"، تضم ٨ مقاطع شعرية، هى: من أنا، الحب، الحرية والموت، الكلمات، القديس، السوق والسوقة، موت الإنسان، أجافيكم لأعرفكم.
فيما يلى قراءة فى قصيدة عبدالصبور البارزة التى تنطلق من إطارها الدينى وكأنه قديس أو نبى أو صوفى يتحدث إلى مريديه وأتباعه.
أحلام الشاعر فى مجاورة المتنبي والمعري وشوقى
فى قصائده "أقول لكم"؛ يقرر الشاعر أن يوجه حكمته لجموع الناس، ويخص بها الأصدقاء، ويتمنى أن يبوح بها للتاريخ، شريطة أن يتواضع هذا التاريخ، وتأذن مسامعه الجليلة لعبور كلامه، بينما لا يطلب من المستمعين غير الشعور بهناء القلب لمجرد وصول كلماته إلى أذنهم هانئة يغرقها الندى بعطر الحب.
"سأحكي حكمتى للناس، للأصحاب، للتاريخ، إن أذنت/ مسامعه الجليلة لي، فإن طابتْ وإن حسنتْ سيفرح قلبى المملؤء بالحب/ يطيب القلب إذا ما أغفت الكلمات في الأسماع هانئة/ منداة بعطر الحب..".
يلتمس الشاعر من مستمعيه مغفرة التقصير، فسوف يقدم حكمته في قالبه الشعرى، لكنه مضطر لتدوير الكلمات، وتنغيم الزمن الموحش، ثم يعتذر لأنه ليس أبا الطيب المتنبى، ولم يتمتع بموهبة اقتناص المعنى كالمتنبى، الذي وصفه بالفارس العملاق، كما أنه ليس أبا العلاء المعرى، الشاعر الحكيم، الذى بات رهين المحبسين، ويعزز اعتذاره بأنه لو حبس نفسه لمات من الجوع، فهو مضطر للخروج، أيضا لم يكن الأمير، ويقصد به أحمد شوقى، ويصف حياته المترفة فى حضن النيل.
يقدم الشاعر نفسه لمستمعيه، فيصبح هو الشاعر العصامى الذي تعذب فى جمع الكلمات من لضم الحروف، فى تكوين المعاني والمبانى، ليعلن أمام الجميع أنه شاعر إنسان يدير الكلمات فى فكيه ويخرجها للإنسان، ليتمكن من التعبير عن أحلام الجميع التي تأوي إليه، فيصبح الكل شفيعه أمام الشيخ المرهوب وهو الزمن، وليأخذ مكانه فى "وعاء الأيام" أو التاريخ بجانب الفارس العملاق وهو المتنبى، والشيخ الضرير وهو المعرى، وحامل الراية وهو شوقى أمير الشعراء.
"شفيعى أنتمُ للشيخ.. هذا الأبد المرهوب/ لكى يحفظ فى واعية الأيام اسمًا ذاجًا للغاية/ بجانب الفارس العملاق والشيخ الضرير وحامل الراية"..
الحب.. قهار الجباه الذي تتبدد الأيام وتذوب الكلمات بدونه
المقطع الثانى الذي يحمل عنوان "الحب"، نكتشف أن الحب يأخذ سمات الشعر، فكلاهما ميلاد بلا حسبان، تبوح بح به الشفتان من غير أوان، كلاهما "قهار" يقهر جباه الناس دون أن تنكسر جبهته، حيث تجمع الحالة العاطفية المرهفة بين الحب والشعر، ولأن الحب يحتل القلب وله مكانة كبيرة ومماثلة للشعر، فأحب أن يبدأ حديثه الشعرى عن الحب بقوله: أحدثكم– بداية ما أحدثكم- عن الحب/ حديث الحب يوجعني ويطربنى ويشجينى".
وتتشكل حركة وخفقان الحب فى صور عديدة لتصبح قريبة، فحركته تشبه "النجوى بلا صاحب" و"الشكوى إلى الصحاب" و"السلوى لأيام بلا طعم وأشباح بلا صورة" و"أمنية مجنحة بجوف النفس المكسورة"، وكلها صور حزينة تثير أشجان قلب الشاعر الذى يرى فى الحب المقدرة على صناعة إنسان حقيقى، وأنه البحث فى العيون عن عينٍ صديقةٍ، والبيت والدفء وتوارى الخوف فى مكانه، فهذه كلمات بريئة من القلب يوجهها الشاعر لمستمعيه، لكنه دومًا حزين القلب، لذا عندما طُلب منه أن يغنى أغنية لقلبه، راح يستقطر النغم قطرة وراء قطرة، ليتحرك أنين العود ويغمغم الصمت.
"وقالت لى لوجهي والهوى ياشاعرى غنيت/ فغن الآن أغنية.. لقلبك أنت/ أسندت عودى على الضلوع/ ورحت أستقطر النغم/ فأنَّ عودى على الضلوع/ وغمغم الصمت.. وانبهم/ لحنى، فلتسفِ الدموع".
"الحرية والموت".. صياغة مفاهيم الأغلال وتصورات ما وراء الحياة
تختلف طريقة نقل الخبرة والحكمة فى المقطع الثالث فى "أقول لكم" لنجدها "رووا" و"قيل لكم" إلى جانب "أحدثكم" و"أقول لكم"، لأن عادة ما تتشكل أزمة الحرية وحدها فى توريث العبودية والقيود، وأيضا من المهم أن تتم مواجهة تلك الأفكار المزيفة ليتم استبدال القيد بمزيد من الحرية، لذا وجدنا طريقة تلقى الخبرات المعرفية القديمة عن طريق "رووا فيما أسلفوا" و"قيل لكم". ويقلب الشاعر المعلومات الموروثه فيخبر مستمعيه بأن القيد حرية، وأن النسيم فى إطلاقه أسيرًا، وأن الحر هو من يمشيى ثقيلا فوق الأرض، وتحفر بطن ساقيه فى وجه الأرض الجدباء حفر وخطوط ومعالم.
ويعود الشاعر فينقل للمستمعين أقوال السابقين وتصوراتهم عن الوجود، وعن الحياة التى تمثل جسرا، والعمر الذى يمثل لحظات صغيرة، وأهمية زهد العاقل فى الزاد، فكل هذا سوف يعين هذا العاقل فيما وراء هذه الحياة حيث هناك شطوط طامة وموجها شديد الظلمة والخوف، لا يستطيع أن يعبره أحد إلا مع ملاح يشق ظلام الموج يقول للناجى اركب.. وهي حالة مرعبة عما وراء الحياة وتطالب الناس بالخوف من الحياة أيضًا، هنا يعود صوت الشاعر ليحدث المستمعين مجددا ومهاجمًا هذه الأقوال.
ويستكمل الشاعر حديثه عن الموت، لأن الراحلين جزء من بقايانا، وفي نهاية المقطع يؤكد أن الموت حق، لكنه يجب أن يكون فى وقته وليس حتف الأنف، فمن حق الأجيال أن تختار، ولن تختار سوى الموت!
"وقفت أمامكم بالسوق كي أحيا.. وأحييكم/ لا أبكى وأبكيكم/ وما غنيت بالموتى كى أصنع من جماجمهم/ عمامة وعظ/ فلو عاش الذي مات/ فأين يعيش من ولد؟/ أقول لكم بأن الموت مقدور، وذلك حق/ ولكن ليس هذا الموت حتف الأنف".
الكلمات والقديس
في الكلمات، تتحول الكلمة لفارس مهيب يبدد الظلام ويقهر الظلم ويحقق العدل، تيجرد صاحب الكلمة من الشارات وصولجان الحكم والمناصب ولكن المفارقة أن الكلمة هي تملك السلطان على الإنسان، أيضا تحوز الكلمة مكانة مقدسة، حينما يقول: "ألم يرووا لكم في السفر أن البدء يومًا كان.. جل جلالها الكلمة"، فهي التي تقود الحق وتصبح الكلمة لا قول بل فعل له جناح.
وفي القديس، استطاع الشاعر أن ينفذ إلى عمق الوجود، لتتحدث له مفردات الكون من مياه وموسيقى وأزهار ونجوم، فأحس أنه يرى الله في قلبه، ليتحول إلى قديس يحمل رسالة للبشر وهي أن أقدسكم..
وكتب عبدالصبور عددا من المؤلفات الأدبية الشعرية والمسرحية: مأساة الحلاج، مذكرات بشر الحافى، الناس في بلادي، ليلى والمجنون، وغير ذلك.