لم يكن خيري بشارة يعبث عندما رسم شخصية زرياب في فيلمه الأشهر آيس كريم في جليم؛ ذلك الرجل الموهوب ذو القدرات العالية في الموسيقى الذي يرفض النجومية ويتجنب كل الطرق التي تفضي إلى الشهرة والثراء، فقط، يحب أن يعزف موسيقاه في الشارع ويغني للناس البسطاء ويستلهم إبداعه منهم ويدع نفسه لهم؛ قد يظن المشاهد أنها شخصية هلامية من نسج المخرج لكن عندما يتعرف على سيرة الشاعر حسن رياض يتأكد أن شخصية زرياب من نسج الواقع لا السينما وأن الشارع المصري به ألف زرياب.
هز رحيل الشاعر المصري الوسط الثقافي، ورغم ذلك إلا أن الجماهير العريضة لم تعرف عنه شيئا سوى من أخبار نشرت مؤخرا في الصحف تشير إلى أن مثقفين يستغيثون بوزيرة الثقافة لإنقاذ شاعر من أزمة صحية تلتها بساعات قليلة أخبار تفيد بأن الوزيرة استجابت وتدخلت لإنقاذ الشاعر وتم نقله إلى مستشفى زايد بعدها بساعات أقل تناقلت الصحف خبر وفاته، رحل في لمح البصر بالضبط كما مشهد موت زرياب في الفيلم وعرف الناس بعدها أنه مؤلف أغاني لنجوم كبار فهو من كتب "من غير ما تتبسمي" لعلي الحجار و"النواصي" لمحمد منير و"مالك بيا" لسيمون التي تشاء المصادفة أن تكون بطلة فيلم "أيس كريم في جليم" أيضا.
سيمون: تمنيت تصوير أغنيته فيديو كليب
تقول سيمون للبوابة عن "مالك بيا" إن الأغنية كانت من ألبومها السادس الصادر عام 1996 "فيه حاجة كده" أشرف على إنتاجه الفني المنتج والموزع عمرو محمود وكانت "مالك بيا" الأغنية الرابعة في الوجه الثاني من كلمات حسن رياض وألحان مدحت الخولي وتوزيع معتز بسيوني مشيرة إلى أن كلمات الأغنية أثارت أعجابها حيث كانت مختلفة تماما عن الجو العام لكتابات رياض.
تقول كلمات الأغنية: "مالك بيا/ يا أبو عيون ساهية ولعابية/ روّح يلا.. مين؟!!.. اسم الله/ ولا فاكرني يا واد تسلية/ روح يلا نام واتغطى/ خد بالك ع السلم قطة/ زي السيما طلعت أونطة/ بال العسكر والحرامية/ يلا يا واد شفلك شغلانة/ اوعى تقول ان انا تقلانة/ ولا فاكرني زي فلانة؟!/ لأه ياواد أنا متربية/ خليك ماشي جنب الحيطة/ ومن الشمس البس برنيطة/ يمكن أكون في حياتي بسيطة إنما زيك كده ولا بيا".
تظهر كلمات الغنوة هنا تجسيدا لشخصية أنثى لبقة تخاطب شخصا يطاردها بشكل يستعرض ذكاءها وعنفوانها في كلمات تخلق مشاهد ساحرة وهو ما يؤكد كلام سيمون عن الكتابة المختلفة إذ أن كتابات رياض اعتمدت على الديالوج الداخلي أحيانا كما في أغنية برج حمام لمحمد منير والمشاهد الممتدة كما في أغنية "اللي اشترى منك" لعلي الحجار والتي غناها أيضا أحمد الطويلة.
تتابع سيمون:"تمنيت حينها لو أن تصور "مالك بيا" على طريقة الفيديو كليب نظرا لما بها من صور ومشهدية عالية لكن المنتجين أرادوا حينها تصوير "مش نظرة وابتسامة" و"فيه حاجة كده" لكن أتمنى في الأيام المقبلة أن نصور كل أغانينا" واختتمت سيمون حديثها وهي تحاول تذكار مشاهد ربطتها بالشاعر أثناء تسجيل "مالك بيا" متمنية الرحمة له ولنا جميعا.
المنتج عمرو محمود: مودي الإمام كلمة السر في العثور على شاعر النواصي
لكن كيف وصلت كلمات حسن رياض لتيار الموسيقى الرائجة وهو الفنان الزاهد تجاه الشهرة؟؛ الإجابة على هذا السؤال دفعتنا للتواصل مع المنتج الفني عمرو محمود أحد أبرز المنتجين الفنيين في تلك الفترة ساهم سواء بالإنتاج أو التلحين في ألبومات هامة بينها "فيه حاجة كده" لسسيمون و"من أول لمسة" لمنير و"قمرين" لعمر دياب والذي كشف لنا عن اسم مهم في عملية البحث عن الموهوبين وهو الموسيقار مودي الإمام حيث أكد أن مودي كان كلمة السر في عثور الموسيقى الرائجة على كلمات حسن رياض مشيرا إلى إنه لم يتذكر أيا من المواقف التي تجمعه بالشاعر نظرا لبعد المسافة الزمنية حيث أن الألبوم قد خرج للنور منذ أكثر من 25 عاما.
الناقد سيد محمود: مثل امتدادا لفؤاد حداد واستكمالا لجهد عصام عبد الله في الفلكلور
رياض كان شاعر شارع مثلما كان زرياب أيضا في الفيلم موسيقار شارع، فلم يهتم رياض بنشر ديوان شعر واحد له ولم يهتم بالظهور الإعلامي على الإطلاق يؤكد هذا الكلام صديقه الناقد الأدبي سيد محمود فيقول لـ"البوابة": "رياض كان شخصية زاهدة عن الإعلام، حياته بسيطة وينحاز جدا إلى الهامش فكان شاعر الهامش بامتياز؛ لم يهتم بنشر أية دواوين وحاولنا حد التعب في تغيير طريقة تفكيره هذه، في بدايته كان يقرأ شعره في أمسيات ثم بعد ذلك تحمس إلى كتابة الأغنية خصوصا عندما غنت لها اسماء لها نجوميتها بسبب نبرته المميزة من هنا اتسعت المساحة التي كان يُستقبل فيها شعره، سلوكه الشخصي مال إلى العزلة وكان محترفا مقاهي وسط المدينة حتى المقاهي التي كان يختارها كانت هامشية وسميته الشاعر المشاء نظرا لحبه السير ليلا في شوارع القاهرة".
ويتابع محمود:" غرد حسن رياض خارج السرب وكان مخلصا في تقاليد الكتابة العامية التي رسخ لها فؤاد حداد حيث راهن رياض على الواحدات الإيقاعية السريعة المتدفقة التي تعتمد على ما يسمى بوحدة البيت وليست وحدة القصيدة"، مضيفا:" كان رياض مفتونا بقالب الأغنية يستمع إلى الفلكلور بنهم لذلك جاءت أغنيته تشير إلى شئ مختلف حيث تجمع بين نبرة المدينة بحكم سكنه في عابدين وسط العاصمة وفي نفس الوقت لها جذور شعبية بحكم سعيه الدائم للتفتيش في مصادر الغناء الشعبي وهذا يتجلى فيالأغنية التي كتبها للجزائرية أمل وهبي "يا بت بيقولك أبوك" حيث يتضج إجادته الاستلهام من مصادر الشعر الشعبي وفي ظني أنه أكمل بذلك جهد الشاعر عصام عبد الله في هذا المجال".
"اللي اشترى منك ما وزنش" تزيح النقاب عن "غنا المثقفين"
ربما لم يسمع عن حسن رياض في وسائل الاتصال الجماهيري فهو شاعر نواصي لا أضواء، كما كتب في أغنية لمنير يقول فيها "فين العم الواصي/ فين الخال الواصي/ رمشه عدى مزعلي توبي وفاتني على النواصي"، لكن بالنسبة لرواد الأنشطة الثقافية والفنية بحي وسط البلد فالرجل مشهور قد يقابله أحدهم على أي مقهى في طلعت حرب أو عابدين أو على عربة فول يتناول إفطاره أو مصادفة يسير في الشوارع مع أصدقاءه بعد جلسة مقهى مفعمة بالحكاوي والشعر أو في ندوات ثقافية ينظمها في قصر السينما الذي ظل يعمل فيه طيلة ختى خروجه على المعاش؛ لكن لو لم يلتقيه أحد في وسط البلد فمن الصعب ألا يلتقي أغنية "اللي اشترى منك ماوزنش" يعزفها أحد عازفي العود في أي مقهى؛ لحن هذه الأغنية الملحن حسن زكي وانتشر لحن زكي بسرعة كبيرة في مقاهي وندوات المثقفين؛ عن علاقة زكي برياض يروي حسن زكي كيف التقى برياض. يقول “زكي”: "عرفته من خلال اثنين من أصدقائي مخرجي سينما كانا يذهبان إلى قصر السينما حيث يعمل هناك حسن رياض وينظم أنشطة وندوات فنية مهمة فأسمعاني قصيدة له كانت هي "اللي اشترى منك ما وزنش" فعلى الفور ذهبت إليه وكنت قد انتهيت من تلحينها كان ذلك في العام 2004 ومن حينها صرنا أصدقاء".
ويتابع زكي: "هناك شعراء لما يسمى بالغنوة البديلة بدؤوا بعبد الرحيم منصور ثم تبعه حسن رياض وعصام عبد الله وحسن وكوثر مصطفى لكن ميزة حسن كانت على مستوى التفعيلة والعروض؛ فالميزان الشعري عنده كان حساسا للغاية فيستطيع أن يزن على تفعيلات مكسورة".
ويضيف: "اللي اشترى منك غنوة خاصة جدا فلم يتجرأ شاعر أن يناقش اللحظات السللبية في الحياة في أغنية، بالإضافة إلى أن وزنها غريب وبنائها لم يتكرر من قبل، فليست مقسمة كوبليهات بل دفقة واحدة تشبه الموشحات، فرياض كان شاعر قصيدة في الأساس حتى ولو لم يكتب القصائد، لكن كل تكنيكات القصيدة وضعها في الأغنية، نظمت الغنوة على مقام بياتي واخترت مقاسا للبياتي شجيا وقريبا للقلب كحسن رياض ووفقت في هذا اللحن مثلما وفقت كلمات حسن".
حكايات فن ممتدة تجمع الراحل بأحمد الطويلة
كان للمطرب أحمد الطويلة نصيب الأسد من غناء كلمات حسن رياض فقد غنا له "اللي اشترى منك ما وزنش" بلحن مختلف لكرم مراد و"وحشتيني" من ألحانه هو و"ولاد الناس الفقرا" و"بتنعس العمدان" وغيرها؛ الطويلة يعتبر نفسه فنان شارع كما رياض يعشق الناس ويهوى الغناء الحي أمامهم؛ يقول الطويلة: علاقتي برياض بدأت أوائل التسعينات كنت حينها قد انتهيت من ألبوم لي وبدأت بعده في التردد علي الندوات الثقافية التي منها تعرفت علي أغلب الشعراء في مصر ومن بينهم رياض، ازداد تعلقي بالوسط الثقافي غنينا في الشوارع والأزقة، ثم انشغلت بتجربة لغناء الفصحي، والغناء الصوفي لكن بعد سنين طوال التقينا مرة أخري لأغنيً له واحدة من أجمل الأغنيات علي الإطلاق "اللي اشتري منك ماوزنش " كان الملحن الموهوب حسن زكي قد شرع في تلحينها بالفعل، لكن باعدت بيننا الأيام وشاء القدر ألا يكون اللحن من نصيبي حتى التقيت الفنان الكبير أكرم مراد صديق العمر والتجربة الذي أعاد تلحينها وتوزيعها وقمت بغناء هذا اللحن، كنت حينها نعد أنا ومراد مشروعًا صوفيًا موسيقيا".
يصف الطويلة رياض بصاحب المفردات الطازجة الموغلة في عمق البسطاء والنازفة وجعا، ويقول: "رياض كثيرا ما جادلني بأن الغناء عند العامة والبسطاء لا النخبة.. رياض كان همه الأول الأغنية وكرس حياته لها".
"في عينيك ضي" عمل مرتقب يجمع علي الحجار برياض للمرة الثالثة
أما الفنان علي الحجار فكانت نصيبه من أغاني رياض أغنيتان، واحدة منهما تعتبر محورية في كل حفلاته والأكثر طلبا من الجمهور منذ أن غناها في منتصف التسعينات وحتى وقتنا هذا وهي أغنية "من غير ما تتكلمي" والأخرى قدمها منذ عامين هي "اللي اشترى منك ما وزنش" بنفس لحن حسن زكي لكن بتوزيعات جديدة ليعود للتعاون مع رياض بعد ربع قرن تقريبا لكن الحجار يكشف عن إنه يستعد خلال الأيام المقبلة لطرح أغنية بعنوان "في عينيكي الضي" ألحان طارق فؤاد لتعتبر التعاون الثالث بينه وبين رياض وحكى الحجار عن كواليس "اللي اشترى منك ما وزنش" حيث قال إنها وصلت إليه بمحض الصدفة عن طريق صديق مشترك في جلسة مقهى كان يستمع إلى حسن زكي وهو يغنيها فقال لحسن رياض وحسن زكي إن هذه الغنوة خلقت لعلي الحجار لماذا لم ترسلاها إليه وقام الصديق بإرسالها له وتعلق بها كونها تعبر عن حالة فلسفية عالية مشيرا إلى أن حسن رياض لم يأخذ حقه وموته لفت الأنظار إليه مطالبا بالاهتمام بالموهوبين وهم أحياء.
امرأة ثرثارة كانت سببا في "من غير ما تتكلمي"
تقول كلمات الغنوة: "من غير ما تتكلمي مدي العيون سلمي فوق الحيطان ارسمي الحلم متفسر وبكره جاي أخضر وانت بتتبسمي" وعن سر كتابتها يحكي الممثل شريف إدريس الذي كانت تربطه صداقة بالشاعر الراحل لـ "البوابة" قائلا:" سألته في إحدى جلساتنا عن سر كتابة هذه الغنوة فأجابني أنه كان يحب امرأة ثرثارة جدا زميلته في العمل.. الله يرحمك يا عم حسن".