الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

موهبة إفساد المواهب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

عالم الموسيقى الكلاسيكية، عالم مذهل ومبهر لمن يقترب  منه، وربما يكون تعلمها (أداءا أو تأليفا أو قيادة)، من أصعب المجالات وأكثرها تحديا، وخاصة لمن  يغوص فيه، فهو لا يعتمد على الموهبة فقط -والتى يختزلها البعض فى الأذن الموسيقية- حتى وإن رافقتها الدراسة، وإنما يحتاج لعوامل أخرى لا تقل أهمية، كالقدرات العقلية  أو النفسية أو العضلية، فمثلا يصعب إجادة العزف حتى إذا توافرت الأذن الموسيقية، إذا كان الذكاء محدود، حيث يتطلب العزف قدرة على القيام بأكثر من شئ فى نفس الوقت بتركيز شديد، ويتطلب كذلك ثبات إنفعالى، وجرأة،  وقدرة على المواجهة، وإحساس يمكن العازف أو قائد  الأوركسترا من نقل حالات شعورية مختلفة للمتلقى، وكثير من المتطلبات الأخرى التى تتحكم فى جعل هذا الشخص موسيقى محترف أم يتوقف عند حد معين لا يتخطاه..وهناك دور آخر  لا يقل أهمية عن الموهبة، وهو دور الأستاذ. والذى يلعب دورا محوريا فى حياة طلابه، ويؤثر فيهم، ويساعد فى تكوين شخصيتهم الفنية..ربما يظن البعض ممن لم يقتربوا من مجال التعليم الموسيقى المتخصص، أن دور الأستاذ فيه هو نفس دور الأستاذ فى أى مجال تعليمى آخر -والذى لا نقلل منه  بلا شك- ولكن الواقع أن دوره أكبر وأكثر تأثيرا بمراحل..وذلك لأن التعليم الموسيقى المتعارف عليه فى العالم يعتمد على الدراسة الفردية،  والتى ينفرد من خلالها الأستاذ بكل طالب على حدة -حوالي ساعتين اسبوعيا- وليس كالمجالات الأخرى التى يحاضر فيها الأستاذ لعشرات أو مئات الطلاب!.وبالتالي فالعلاقة التى تجمع أستاذ التخصص الموسيقى بطلابه أقرب ما تكون بالبنوة، وليس مجرد علاقة طالب بأستاذ، وتكون الكارثة إذا شاب تلك العلاقة أى توتر أو قصور!..وقد أثار شجوني ما نشره الصديق العزيز متعدد المواهب/محمد صالح(عازف البيانو، والممثل، والكاتب بجريدة، روسيا اليوم، وخريج كلية الهندسة) عن وفاة أستاذة البيانو الروسية الشهيرة(آنّا كانتور)والتى توفيت منذ أيام قليلة عن عمر 98 عاما، بعد أن حققت شهرة عالمية..وسبب شهرتها هو طالبها الوحيد(يفجيني كيسين) الذى وهبت حياتها له..والذى أصبح من أهم عازفي البيانو على مر العصور، فقد منحه الله موهبة عبقرية، فكان منذ طفولته عاشقا للموسيقى، يعزف كل ما تسمعه أذنه،  ولديه معارف تلقائية واسعة، وقدرة هائلة على الإرتجال. وكأنه خلق دارسا للعلوم الموسيقية والنظريات والهارموني..وهذا النوع من الموهبة أكثر صعوبة في تعليمه من الطفل الأقل موهبة،  فهو لا يحتاج تعليم بقدر ما يحتاج توجيه وإرشاد.. ولأن والدته كانت عازفة بيانو أيضا فقد أدركت مع "كانتور" أنه طفل معجزة..فكان قرار عائلته مع أستاذته توفير بيئة حاضنة وداعمة لتلك العبقرية، فيما يشبه "الحضانة" وقرروا إقامة كانتور معهم فى المنزل لرعايته موسيقيا، إقامة دائمة!..وأصبح الطفل ذو ال6 سنوات يصحو وينام  ويرضع موسيقى..وحين بلغ 11  عاما أصبح 

 أصغر أشهر بيانيست في الكون، وبعد  4 أو 5 سنوات لم يعد يذهب إلى مدرسة أو كونسرفتوار، فهو لم يعد محتاجا لذلك.. فكان يذاكر 10 ساعات يوميا، ويعزف أكثر الأعمال صعوبة يإحترافية شديدة وإدراك..وأصبح فعليا وكأنه مدمن!..أدمن البيانو والثقافة والفنون بكل أنواعها، وأصبح لا يفعل أي شئ سوى مذاكرة البيانو، وتقديم الحفلات المنفردة مع أكبر الأوركسترات  فى العالم وعلى أكبر المسارح، وتسجيل الأسطوانات  مع أكبر الشركات في التاريخ..وظلت كانتور طوال عمرها رفيقا له فى كل مكان، لم تتركه. كانت مستشاره الدائم، وأول من يثق فى رأيها وذائقتها الفنية..أدركت كانتور أنها ليست "أستاذة" بالمعنى الأكاديمي للكلمة، بقدر ما كانت الشخص الذى ساقته الأقدار كى ينزع "السيلوفانة" من هذا الكائن العبقري المسمى يفجيني كيسين.. فكانتور لم تصنع  كيسين، ولكنها أدركت حجم موهبته واستوعبتها، واستطاعت التعامل معها..ولو أنها لم تدرك  عبقريته، وتعاملت معه بشكل تقليدى، ربما كانت أفسدت موهبته، وربما دفعته لترك البيانو، والاتجاه لمجال آخر!..فكما يقول صالح:"أنا متأكد إن العالم مليان ناس زي كيسين، في شتى المجالات، بس فيه ناس ربنا ما يوقعهم ف سكتك يا رب عندها موهبة إفساد المواهب، وموهبة تكسير المقاديف، وعمل الفسيخ من الشربات مش العكس"..وهو ما أتفق معه تماما، وعلى يقين بأننا فى مصر ما زلنا نملك الكثير من الأفذاذ، والذين لم نكتشف حجم موهبتهم، ولم ندرك أنهم من المنح الربانية التى خلقها الله لنفعنا بهم..وأتمنى أن تسارع مؤسسات الدولة المعنية بإحتضانهم قبل فوات الأوان!..والسؤال هنا كم  "كيسين" أضعناه بعدم إدراكه وإحتوائه?!..وكم فنان حقيقي أو موهوب قتلنا شغفه ووأدنا موهبته فى مهدها?!..وهل لو موهبة كبيرة -مثل كيسين- لم يتوافر لها الدعم والمساندة والاحتضان، كنا سنراها تغزو قلب العالم كله?!..أم كانت ستضيع وسط صخب الحياة، كموهوبين كُثر قُتلوا عمدا وهم أحياء؟!