في الحلقة الأولى، ذكرنا أن حركة "النهضة" وصلت إلى طريق مسدود، ليس أدل عليه من وقفة الحزن لرجل بلغ الستين من العمر أمام البرلمان التونسي، وهو ينادي بأن منعه ووقف جماعته يعد انقلابًا باطلا فيما لا تجتر ذاكرته ما اقترفته يد جماعته من استقواء بالخارج وإنهاك للقوى الوطنية في معارك لا طائل من ورائها، فيما المواطن التونسي يأن من الفقر وتبعات وباء كو رونا.
وتابعنا في الحلقة الأولى أغراض تركيا في تمويل جماعات الإخوان في سوريا وليبيا وتونس وحقيقة الهوة بين شعارات حزب "النهضة" والواقع علي الأرض وعدم الاستفادة من تجربة الإخوان في مصر، وفيما يلي نعود للخلف لنفهم كيف تحول دارس للفلسفة بجامعة السوربون إلي أمير ذراع جماعة الإخوان في تونس ليسقط الذراع في تونس كما سقطت الرأس في مصر.
لطالما كانت ما تسمي "الحركة الإسلامية" قوية في بلدان المغرب العربي، ولكنها التفتت لنداء السياسة في ستينات القرن الماضي، وارتبك المشهد كثيرا بتحالف بعضها وانضوائه تحت عباءة التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، مما خلق تبديلا لأولويات العمل التربوي الدعوي وجعل السياسة وصراعاتها للوصول للحكم الغاية التي تبرر كل وسيلة!
سنحاول فهم تفاصيل ما جرى وفق رؤيتين متعارضتين، لكاتبين تونسيين، يمثلان النظرتين المتعارضتين او الدينية والمدنية.
يصف ابن القيادي التونسي الهاشمي الحامدي ــ أحد رفقاء الغنوشي ــ في وثيقته الهامة "أشواق الحرية.. قصة الحركة الإسلامية في تونس" وضعية البلاد في أواخر الستينات، وكانت ناكصة عن التجربة الاشتراكية الأولى ومستعدة لمرحلة الانفتاح الليبرالي أو ما وصفه الكاتب بـ"موسم الهجرة إلى الشمال" في إشارة للرواية السودانية الأشهر للطيب صالح.
صراع بورقيبة والثعالبي
كانت تونس تشهد صراعات قوتين بارزتين كاغلب العواصم العربية، حزب دستوري حر قائم على مبادئ فصل الدين عن الدولة بزعامة بورقيبة، وجامع الزيتونة بثقله الإسلامي والعروبي القديم، وكانت عودة عبدالعزيز الثعالبي احد الزعماء الدينيين البارزين من جولة للحشد ضد الاستعمار الفرنسي إلى تونس أواخر الثلاثينات مناسبة تاريخية تفجر فيها الخلاف على أشده بين الحزبين وكان الثعالبي من مؤسسي العمل الوطني في تونس، وله صلات بحسن البنا وجماعة الإخوان في مصر ومتعاطفا مع فكرة الجماعة واوهام الخلافة.
وباعتراف الهاشمي في وثيقته كان بورقيبة أكثر ذكاءً من الثعالبي، حين وجه خطابا لفرنسا يوحي بالاقتناع بمباديء الثورة الفرنسية ويتحاشى الحديث عن "الاستقلال" إلا في مرحلة متأخرة، وكان خطابه الآخر للجماهير في تلك المرحلة يحمل آيات الجهاد ويخاطب عاطفتهم الدينية، بل إنه زار البنا وطلب تأييده، وأمام قدرة حزبه الحركية وانتشاره، بهت تأثير الزعماء الإسلاميين.
لقد كسب بورقيبة جولته الأولى ضد السلفية في تونس قبل إعلان الاستقلال، وحال تسلم الحزب الجديد للحكم نهائيا بعد الاستقلال عن فرنسا، بدأت الجولة الثانية الأكثر وضوحا وركزت على نشر ثقافة عصرية ولكنها لم تستند لأي مرجعية إسلامية بل همشت الوجود الديني وجففت منابعه تدريجيا، وظهرت معارك الحجاب ونحوها على السطح، وهي مرحلة اتسمت بسياسات متطرفة علمانية أججت المشاعر الدينية لاحقا لاستعادة البلاد لجذور هويتها العربية الإسلامية!
تونس بين هويتين!
تؤكد الوثيقة التي بين أيدينا أن التعليم قد ذهب والحركة الثقافية لمناهج ورؤى غربية تماما، وأصبح الحديث عن هوية متوسطية لتونس، نسبة لدول حوض المتوسط وحضارته، بدون إشارة لهويتها العربية الإسلامية، وطال ذلك اللغة العربية التي أصبحت محصورة في حصص التربية الوطنية والنحو دون غيرها من سائر العلوم حتى الأدبية منها كالفلسفة مثلا، فكانت كلها بالفرنسية!
كانت النصوص الدستورية لتونس الحديثة تؤكد أن الإسلام دين الدولة والعربية لغتها، لكن هذا على الأرض كان الحزب الحاكم ضائقا به ذرعًا، ومن جهة أخرى فإن كافة النصوص المتعلقة بحرية التجمع والنشر لم تكن واقعا وبخاصة بالنسبة للتجمعات الإسلامية، تري وثيقة "أشواق الحرية" – لنجل الهاشمي الحامدي أحد مؤسسي النشاط الإسلامي مع راشد الغنوشي أواسط الستينات والذي سُجن معه فى الثمانينيات - أن تلك الفترة كرست الدكتاتورية السياسية، وتوابع ذلك كثيرة، فالارتقاء في الوظائف والسلك الجامعي والمناصب العامة يعني ليس كفاءتك بقدر ولائك للحزب الحاكم!
لقد شهدت تلك الفترة ظهور طبقة جديدة تتمتع بثمرات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهي مرتبطة بمراكز القوى داخل وخارج البلاد، أي الحزب الحاكم والغرب، ولقد طبقت تونس الاشتراكية في فترة الستينات، وصودرت أملاك ليس الميسورين فقط لكن بعض متوسطي الحال لصالح الدولة، ومني الاقتصاد التونسي بخسائر مهولة، وبدأ الانفتاح على الغرب مثل حال العالم العربي والارتباط بالمراكز المالية الكبرى وشروطها.
هذه هو جزء من تبرير ظهور ونشاط ما يسمي الحركة الإسلامية في تونس والتي تحولت إلي حزب النهضة.
في تلك الفترة بزغت بوادر نشاط تلك الحركات، مع توقيف مجلة "المعرفة" الإسلامية للشيخ عبدالقادر سلامة، وهو أحد علماء الزيتونة، وكان راشد الغنوشي في الثلاثين من عمره آنذاك عائدًا من دمشق بعد تحصله على الأستاذية من قسم الفلسفة بكلية الآداب بدمشق 1968 ومنقطعا عن اعداد رسالة دكتوراه سجل لها بجامعة السوربون لكنه عاد بعد عام واحد ليدرّس الفلسفة الإسلامية في المعاهد الثانوية.
الغنوشي ومورو.. نواة جماعة النهضة
خلال إقامته في سوريا تعرف الغنوشي إلى الحركة الإسلامية السورية، وكان يمقت مكوث عشرات الشباب في سجون عبدالناصر، ولهذا عاد لبلاده رافعًا شعار "بالإسلام وحده تنهض الأمة وتتوحد" وكانت دراسته للفلسفة عاملا هاما في إدراك بعض نواقص الخطاب الإسلامي المشرقي وحدوده، أما الشيخ عبدالفتاح مورو فكان خريجا للحقوق، وكلاهما درس على يد الشيخ بن ميلاد في جامع الزيتونة، ثم ألحق بهما أحميدة النيفر خريج اللغة العربية من دمشق، وكانت تلك نواة انطلاق العمل الإسلامي الجديد في تونس.
كانت البلاد تدخل ما اصطلح على تسميته بالتجربة الليبرالية بزعامة الهادي نويرة وتحت إشراق الحبيب بورقيبة، بعد سقوط التجربة التعاضدية الاشتراكية، وساءت الأوضاع الاقتصادية، وسادت النخب الثقافية نزعة ذاتية مادية، لا تعرف من الدين إلا اللمم، وكرس الإعلام نسقا قيميا جديدا للحياة، وعلى الجانب الآخر كان الحزب الإسلامي التابع للغنوشي يقوم على طريقة جماعة التبليغ بالدعوة عبر الطواف على المدن ودعوة الناس إلى المساجد والحديث عن مفاهيم الإسلام الكبرى، ثم لاحقا قرروا اقتحام ساحة الشباب من خلال المعاهد الثانوية، بعد انتشار ما قال عنه مؤلف الكتاب بأنه سيادة "الإلحاد" والذي وصل لتمزيق المصاحف علنا من قبل بعد المنتسبين للنخب وداخل حرم الجامعة!
كان هذه ايضًا ضمن مبررات الغنوشي وجماعته لتبرير النشاط المكثف في الجامعات التونسية.
مؤتمر الأربعين ومبايعة الغنوشي أميرا
مع عودة راشد الغنوشي انطلقت الحركة الإسلامية وبصحبة الشيخ الحبيب المستاوي مؤسس جمعية لتحفيظ القرآن، سُمح للغنوشي ومورو ببث دروس دعوية إصلاحية داخل الجمعية، وقد أسند إلى الغنوشي عضوية المكتب الجهوي لمدينة تونس 1971 وارتقى مورو إلى عضوية الهيئة المديرة للجمعية.
في عام 1972 انطلق "مؤتمر الأربعين" التأسيسي للحركة الإسلامية "حزب النهضة حاليا"، بمشاركة 40 شخصية إسلامية بارزة، وبحسب كتاب " النهضة.. تنظيمات الإرهاب في العالم الإسلامي"، للمؤلف التونسي عبدالله العمامي فإن هذه الشخصيات شكلت بوادر الدعوة لأعمال العنف الديني والإرهاب، إلي جانب العمل الدعوي خرج المؤتمر التأسيسي بعدة قرارات أولها هوية الحركة التي أصبح اسمها الجماعة الإسلامية بتونس، وأنها تعبير محلي عن التيار العالمي للإخوان المسلمين الذي مقره في مصر، وتم ترتيب البيعة للمرشد العام للإخوان المسلمين، حسن الهضيبي الذي بقى في المنصب حتى عام 1973، وبالفعل تمت البيعة في السعودية خلال مؤتمر جمع الأعضاء الأربعين للجماعة في تونس بالهضيبي في أثناء موسم الحج.
لقد حظي الغنوشي بعد هذا المؤتمر بـ"إمارة" الجماعة الإسلامية في تونس، والتي أصبح لها هيكل تنفيذي ومجلس شورى واسر وشعب وهو ما ينفي تبرؤ الغنوشي الدائم من اخونة حركة النهضة.
في عام 1977 دعا ما يسمي الإسلاميون في تونس إلى اول اجتماع رسمي باسم "الاتجاه الإسلامي" في كلية العلوم فاعترض الماركسيون وهاجموه هجومًا عنيفا، وبين هذا المشهد ومشهد انعقاد المؤتمر الطلابي العام في ابريل 1985 وبناء الاتحاد العام التونسي للطلبة في غلبة تامة للتيار الإسلامي، بدا وجه مميز من أوجه التجربة الإسلامية في تونس، وهنا نلاحظ نفس ما حدث في مصر في اوساط السبعينيات من قيام الجماعة الإسلامية الطلابية بالاحتكاك بالحركة اليسارية في الجامعات المصرية وخاصة جامعات اسيوط والمنيا والقاهرة لفرض وجودها بالقوة.
الغنوشي تلميذ البنا والمودودي والخميني
شهد الغنوشي وحركته نهوضا كبيرا مع نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية بزعامة الخوميني عام 1979، ومع تولي حكومة المزالي، أصبح المجال أكثر انفتاحا على التعددية السياسية والاجتماعية، ليس اقتناعا بوجود هذه الحركة ولكن لامتصاص آثار انتفاضتي 1978 و1980، وصرح بورقيبة انه لا يرى بذلك مانعا طالما تم احترام شروط أهمها: الاعتراف بشرعيته، التمسك بالنظام الجمهوري، عدم الولاء للخارج، تجنب العنف.
كانت خطب الغنوشي واضحة في الحشد لمواجهة النظام: وقد انطلق يقول: "إن الجهاد من أجل الحرية هو جهاد من أجل الإسلام".
في عام 1981 م أعلن الغنوشي عن تشكيل المكتب السياسي العلني الأول لحركة الاتجاه الإسلامي والتقدم بطلب رسمي إلى وزارة الداخلية للحصول على الترخيص لحزب سياسي، كان ذلك ممنوعا عليهم منذ دخول الحقبة الاستقلالية 1956.
ويسلط كتاب "النهضة.. تنظيمات الإرهاب في العالم الإسلامي"، للكاتب التونسي عبدالله العمامي، الضوء على مقال كتبه الغنوشي في مجلة المعرفة التونسية خلال فترة تأسيس الجماعة، أشاد بجماعة الإخوان في مصر ونظيرتها من حركات باكستان برعاية المودودي وإيران برعاية الخوميني، فكتب: "إن الاتجاهات الكبرى في الحركة الإسلامية المعاصرة هي الإخوان المسلمون والجماعة الإسلامية في باكستان والحركة الإسلامية في إيران، أما ما تبقى من الاتجاهات الإسلامية فهو تابع بشكل أو بآخر لأحد هذه الاتجاهات الكبرى". واستطرد: "إني أتردد في تقديمهم نظرا لما أشعر به من حرج أمام تقييم رجال وعلماء فطاحل لست أنا إلا تلميذا صغيرا من تلاميذهم".
ثم يدعو لتأييد الحركات الانقلابية بقوله: "الآن سقطت الخلافة فسقطت الشرعية وعند إذن فالموقف الإصلاحي لم يعد كافيا، إذ البيت قد سقط ويحتاج لتأسيس جديد".
تهم الإرهاب تلاحق جماعة الغنوشي
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ففي عام 1980 حاولت مجموعة مسلحة السيطرة على مدينة "قفصة" بالجنوب التونسي كمرحلة لاسقاط النظام، ضمن احتجاجات واسعة طلابية وشعبية ضد الفساد، ساندتها حركة الغنوشي، ثم تدخل الجيش مسنودًا بمساعدات عسكرية سريعة من فرنسا والمغرب وسحق الانتفاضة، وتوجهت أصابع الاتهام للحزب الإسلامي باعتبار أنه المساند لاحتجاجات الطلاب والجماهير ضد الفساد، وكانت تلك مقدمة لأحكام سيلقاها الغنوشي ورفاقه في المحاكم.
اتهمت السلطات الحاكمة الحزب بممارسة العنف والحض عليه، وفي 18 يوليو أقدموا على اعتقال رئيس الحركة الإسلامية وأمينها العام وأكثر من سبعين من قادتها، واتهمت الحركة الجهات الأمنية بممارسة القمع والتعذيب ضدهم في التحقيقات لانتزاع اعترافات مكذوبة، وحكم على الغنوشي وصالح كركر وبن عيسى الدمني وعلى نوير وعبدالفتاح مورو وغيرهم بعشر سنوات، وتنوعت الأحكام بين المدانين، ولكن تكرست محاكمات 1981 في نظر الإسلاميين باعتبارها بداية عصر القبضة الحديدية وملاحقة مشروعهم، ثم أطلق سراح الغنوشي 1984 وعاد 1985 رئيسا للمكتب السياسي العلني لحركة الاتجاه الإسلامي، قبل أن تبدأ حلقة اعتقاله من جديد عام 1987، ثم خروجه من البلاد.
كان حزب النهضة وقت تأسيسه 1972 يسمى بـ "الحركة الإسلامية" ثم "الجماعة الإسلامية" تبعا لجماعة الإخوان في مصر، إلى أن تحولت لـ"حزب النهضة" بعد ثورة تونس عام 2011 التي أطاحت بالرئيس بن على.
وهكذا انحرفت هذه الحركة عن اهدافها المعلنة بعد حقبة الاستعمار وانحدرت إلى مزالق السياسة، وسافر الغنوشي ينظّر لعلاقة الإسلام بالديمقراطية والغرب، وعاد مع اندلاع الثورة التونسية 2011، واستقبله الآلاف، ولكن الفعل لم يكن انعكاسا للكلام، وسقط حزب النهضة في نفس مزالق الإخوان المسلمين في مصر وحول العالم، وظهر الفساد الاقتصادي والاستقواء بالخارج وتردي البلاد.
ألم تكن تجربة الإخوان في مصر وسقوطهم درسا لتونس، خاصة وان حركة النهضة المنتمية فكرا لجماعة الإخوان ورئيسها راشد الغنوشي، قد أظهرا مزيدا من النضوج عن سياسات الإخوان التقليدية، وكانت لديهم رؤية أكثر تطورا بخصوص الديمقراطية كمبدأ إسلامي، بل وتعد تلك النقطة محور أغلب محاضرات راشد الغنوشي خارج البلاد، بعد أن اضطر للجوء إلى لندن واختارها منفى بعيدا عن ملاحقته قضائيا في بلاده، على إثر تصريحاته المعارضة تارة والمستقوية بالخارج تارة أخرى ليحتل منصبا مرموقا في اتحاد علماء المسلمين، وكانت مباديء الشفافية ونبذ العنف والديمقراطية، عمدة أعماله ومحاضراته وكتبه ، فأين ذهب كل ذلك ؟!