في كتابه "عبقرية الشريف الرضي" يشيد الدكتور زكي مبارك (1892-1952) بدور الشاعر الشريف الرضي (ت406هجرية) في تجميع آثار وخطب أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب في كتاب "نهج البلاغة"، لما لها من خدمة أدراها الرجل لـ "اللغة والأدب والسياسة والأخلاق"، ولما للآثار من أهمية كبيرة فهي "تورث الرجولة والشهامة وعظمة النفس؛ لأنها فيض من روح قهار واجه المصاعب بعزائم الأسود" كما وصف خطب أمير المؤمنين بـ"فرصة ثمينة لحركة الأفهام والعقول".
مبارك، الذي تحل ذكرى ميلاده اليوم الخميس، قال إن آثار الإمام علي المجموعة في كتاب "نهج البلاغة" تعرضت للشك في نسبها، حيث يرى أن "هذه الشكوك مما يشرِّف ماضينا؛ لأنها فرع من التحقيق العلمي الذي تفوق فيه أسلافنا أشد التفوق، وما يجوز القول: بأن تلك الشكوك قامت جميعًا على أساس النزعات المذهبية، فقد كان في أسلافنا رجال لا يهمهم غير الحق ولا يستهويهم غير الصدق، ولا يرضيهم أن يُزَوَّرَ التاريخ".
كما عارض ابن أبي الحديد، شارح نهج البلاغة، لأنه وصف المشككين في الكتاب بـ"أرباب الهوى" لأنها "لا تخلو من جفاء، وفيها غض من أقدار الباحثين الذين أرادوا أن يمسُّوا نهج البلاغة بالوضع والتزييف". كما أن "مبارك" يؤكد أنه لا يقول بأن مجموعة «نهج البلاغة» صحيحة النسب إلى أمير المؤمنين في كل ما اشتملت عليه، ففيها فقرات وفصول ينكرها الناقد الحصيف.
وخلال فصل بعنوان "نهج البلاغة والشريف" يناقش زكي مبارك مسألة الوضع على الإمام علي، بينما يشيد بدور الشريف الرضي الذي تصدى لجمع خطب ومقولات الإمام قدر استطاعته، كما أنه يؤكد أن ضمير "الرضي" يمنعه من صناعة بعض الخطب ودسها على أمير المؤمنين.
يقول "مبارك": والحق أن الأدب العربي تعرض إلى شبهات كثيرة من هذا اللون: فقد كان للأحزاب السياسية والدينية دخل في تلوين الآثار الأدبية، وقد حدَّثَنَا بعض المؤرخين عن أشعار أضيفت إلى كثير من القبائل الجاهلية، ألم ينص صاحب الأغاني على أن يزيد بن المفرغ هو الذي صنع الأشعار المنسوبة إلى القبائل اليمنية؟!
وأضاف: ونزاع المذاهب لم يكن أقل من نزاع القبائل، فقد وصل الخصام بين الأمويين والعلويين إلى أقصى حدود القسوة والعنف، ومن المستبعد أن يكون أنصار العلويين قد تفردوا بالتجمُّل، وإيثار الصدق في محاربة أعدائهم من الأمويين. وهل يجوز أن يلتزم العلويون الصمت وهم يرون طلائع الشر تفاجئهم من كل باب؟
وتابع: لا يقول بذلك إلا من يجهل كيف تأرثت نار العداوة بين الحزبين لذلك العهد، العداوة التي قضت بأن يأمر بنو أمية بسبِّ عليَّ فوق المنابر، وبأن ينهوا الناس عن تسمية أبنائهم باسمه، وهذا الحمق السياسي غير مستغرب: فقد رأينا له شبيهًا في زماننا يوم أمرت إحدى الوزارات المصرية بأن لا يُذكر اسم سعد زغلول في الجرائد! فالذي يتَّهم الشيعة بأنهم أنطقوا عليًّا بأقوال لم يقلها ليؤيدوا قضيتهم المذهبية لا يبعد في حكمه عن الروح، الذي كان سرى في الخصومات السياسية لتلك العهود.
واستكمل قائلا: ولهذا الرأي شاهد من التاريخ: فقد أسرف الشيعة في تحقير يزيد حتى صار مثلًا في الرقاعة والسخف، ومع ذلك رأينا من يرفع يزيد إلى صفوف العظماء، كالذي صنع مؤلف «نجباء الأبناء»، فهو يرد قالة بقالة، ليرفع عن يزيد إصر الأراجيف.
وعلى ذلك لا يستغرب في شرعة العقل أن تكون مناقب الأمويين والعلويين مدخولة في كثير من الشؤون، وفقًا لما اصطلح عليه العرف السياسي من تحقير الأعداء وتعظيم الأصدقاء.
والعرف السياسي خلقه أسلافنا، أو لسكوا فيه مسالك اليونان والرومان، وهو عرف يقضي بأن لا ترى في صديقك غير الحسن، ولا ترى في عدوك غير القبيح.
ويستطرد: والأدب العربي مدين للإفك السياسي أكبر الدين، فبفضل ذلك الإفك خلقت محامد ومثالب هي صور روائع من الشمائل الإنسانية، ولو خلا أدبنا من ذلك الافتعال الجميل أو البغيض لصار مثلًا في العجف والهزال. وأقول بصراحة: إن التزيد على أمير المؤمنين أمر واقع، وهذا التزيد يشرف من اقترفوه؛ لأنه يشهد بأنهم كانوا رجالًا أقوياء يعرفون كيف يتسلحون للحرب السياسية، وهي حرب لا ينهزم فيها غير من يتورعون عن الابتداع والافتعال.
وفي النهاية يؤكد "مبارك" أنه مهما تكن حال «نهج البلاغة» فهو وثيقة أدبية وتاريخية وسياسية قليلة الأمثال، هو إن صح صورة من صور النضال السياسي في مطلع العصر الأموي، وإن لم يصح فهو أيضًا صورة لذلك النضال حسبما فهمت الأجيال التي سبقت مولد الشريف، وهو كذلك ثروة أدبية ولغوية تورخ اللغة في ذلك العهد، أو تورخ ما فهم الناس إنها كانت عليه في ذلك العهد، وهو أيضًا يصور ما فهم العرب من أصول السياسة والمعاش وتدبير الملك في أعقاب عصر النبوة، أو ما تمثلوه بعد ذلك من تلك الأصول.