"انظر يا إبراهيم كم هو جميل هذا النيل".. وقف محمد على باشا مطلع عام 1918 محدثا إبنه الأكبر إبراهيم، بعد أن استقرت له واحدة من أعظم الممالك الحديثة في الجنوب، على حافة هضبة المقطم بجوار قاعة صلاح الدين الأيوبي، قبل أن يختاره لتشييد جامعه الذي يشبه في تصميمه مسجد آيا صوفيا، فقد انبهر الوالي بمشهد النهر الخالد وهو يخترق صحراء أعظم حضارة في التاريخ، فالتفت إلى ابنه يسأله: "من أين يأتي هذا النهر الخالد؟" فأشار إبراهيم باشا إلى الجنوب قائلا: من بلاد بعيدة يا والدي، بلاد كان يغزوها الفراعنة الأولين، هناك أسفل هضبة الأحباش، كانت قرى واليوم أضحت ممالك ودويلات!.
هنا انتفض محمد على باشا من حديث إبنه إبراهيم، كيف يترك شريان حياة مصر هكذا في يد ممالك لا يعلم عنها أي شيء؟ هل يأمن أن يهددوا ذلك النهر الخالد، والذي أصبح هبة مصر على مر العصور؟ أم علية أن يفعل شيئًا من أجل إستمرار جريانه، لذا قال مقولته الأشهر والتي بدأت معها نواة المملكة المصرية الحديثة: "مصر يجب أن يكون لها علم هناك يا إبراهيم.. علينا أن نحافظ على نهرنا الخالد.. حتى تظل مصرنا كما قال الشعراء، هبة النيل.
كان هذا هو السبب الحقيقي للفتوحات المصرية في الجنوب، مع بناء مصر الحديثة على يد محمد على باشا، والذي أيقن أن بناء مصر يبدأ من بالحفاظ علي وادي النيل ومنابعه، وضمان جريانه، وإعتباره مسالة حياة أو موت، لذلك وجه أنظاره للسيطرة على السودان ووضع يده على منابع النيل، وكانت تدفعه إلى ذلك رغبته في ضمان مياه الري لأراضي مصر، للاستفادة منها في توسيع مساحة الأراضي الزراعية، فشكل لجنة اختصت بشئون النهر وفيضانه، واهتمت بكشف منابعه عام 1821 ميلادية، ودخلت الحاميات المصرية في الجنوب في حرب مع أثيوبيا، فكانت معركتي "جوندت" في السادس عشر نوفمبر 1875، و"جورا" في السابع من مارس 1876.
مصر هى النيل، وطيلة آلاف السنين كان أمنه، الأولوية الأولى لأمن مصر القومى، لذا فقضية النيل تُعد أعقد وأصعب كثيرًا من مجرد سد قام الأحباش ببنائه، فهى قضية وأولوية أزلية لا وقتية، ومنذ معركة التوحيد التي أشعلها الملك "نعرمر" منذ ما يقرب من ٥٢٠٠ عام مضت، ليؤسس أول دولة مركزية في التاريخ بحدودها الحالية، وطيلة تاريخ تلك الدولة المركزية، تفهم حكامها البالغ عددهم ٨٧٧ حاكمًا محورية النيل وأهميته الوجودية منذ القدم للدولة المصرية، فكانت بحق دولة هبة ذلك المجري الآتي من الجنوب.
منذ بدء التاريخ، وبمجرد أن إنتهي موحد القطرين من مهمته، وذلك في العام ٣٢٠٠ قبل الميلاد، أي منذ ما يقرب من ٥٢٠٠ عام مضت، عكفت الدولة المصرية القديمة علي الإمتداد حتي الشلال الرابع، وهو شلال سد مروي ويقع بين مروي وصحراء المناصير، علي بُعد حوالي 200 كيلومتر من العاصمة السودانية الخرطوم، كانت الدولة المصرية تقوم بذلك طيلة آلاف السنين في فترات قوتها العُظمي، وحينما كانت تُصاب بالضعف، كانت تنحسر إلي الشلال الأول في أسوان، لتبدأ في حماية النيل من حدودها.
الغريبة أن التواجد المصري في المنطقة ما بين الشلال الأول والشلال الرابع لم يأخذ علي الإطلاق الطابع الإستعماري الإستغلالي لأرض ولشعوب تلك الأرض، ولكنه كان شكل من أشكال الحماية والهيمنة المصرية إداريًا وأمنيًا علي المنطقة، حتي أن جمال حمدان، أحد أشهر أعلام الجغرافيا المصريين، في موسوعته "شخصية مصر"، لم يجد وصفًا لتلك السيطرة أبلغ من عبارة "السلم المصري"، فقد كانت الدولة المصرية تهتم بإقامة القلاع العسكرية علي طول نهر النيل، وذلك لحماية القوافل التجارية، ولتؤمن الحملات التى كانت تسير إلى مناجم الذهب في أراضي الدولة الكوشية، وفي بلاد النوبة السودانية حاليًا.
بمجرد أن تسلم محمد علي باشا وظيفته كحاكم للدولة المصرية، كان أول ما فكر فيه، كي يحقق نهضة مصر العظمي التي كان يحلم بها، أنه أدرك ضرورة حماية نهر النيل، فقد كان دائمًا ما يردد أن هذا النيل هو السر في تلك الحضارة المصرية العظيمة، ورغم انشغاله بالصراع مع الدولة العثمانية في بلاد الشام والأناضول، لم ينسي أن الجنوب، حيث منابع نهر النيل، يحتاج هو الأخر لحملات التأمين، لذا أمر أبنائه طوسون باشا وإبراهيم باشا بقيادة عدة حملات عسكرية إلى السودان، لاكتشاف منابع النيل والسيطرة عليها، لحمايةً مصالح الدولة المصرية، ولضمانًا استمرار تدفق مياهه، واستمر في ذلك، واتبع سياسته أسلافه، حتي امتدت السيطرة المصرية حتي بحيرة تنجانيقا في جنوب دولة أوغندة، وحتي مدينة فاشودة أسفل هضبة الحبشية، وظلت كذلك حتي مع الإحتلال البريطاني لمصر عام ١٨٨٢، ولم تتغير إلا مع استقلال مصر عام ١٩٢٢.
اليوم وبعد قرنين من الزمان.. يعكف البعض علي نزع النيل من مصر، لا يريدون لها أن تبقي هبة النيل، وبات الجميع يرفع العديد من الشعارات، إما الحرب دفاعًا عن حقنا في نهر النيل، وإما البحث عن بديل أخر له، الكارثة أن البعض تقدم بالفعل بعدد من الإطروحات والبدائل، هذا البديل تمثل في بعض الأفكار لتوفير بديلًا لنهر، إما من خلال نهر الكونغو، أو بتحلية مياة البحار، وزادت تلك المطالب خاصة في ظل التصعيد الإثيوبي التي قرر فجأة وبدون أي مبرر منطقي دخولها ودول الحوض حرب مياه بالوكالة عن إسرائيل ضد مصر، بهدف تسعير المياة لأول مرة في التاريخ.
"النيل نجاشى.. حليوه اسمر.. عجب للونه دهب ومرمر".. هل تذكرون تلك الكلمات الرائعة التي دونها الشاعر المصري الكبير أحمد بك شوقي، وتغني بها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عام 1933، كلماته كانت تعبر عن عُمق العلاقة بين دولتي المنبع والمصب، بين مصر وإثيوبيا، وبين النجاشي ووالي مصر، اليوم وبعد أكثر من خمسة وثمانون عامًا أصبح لزامًا علينا أن نعدل من كلمات تلك الأغنية، ليُصبح عنوانها "النيل مجاشي.. والأرض جفت ثراها.. وناس مصر عطاشى".
"المؤامرة هي السبب".. كنت أعتقد إنه كعادتنا نحن المصريين، دائمًا ما نضطر للإستعانة بصديق ليبرر لنا فشلنا في حل أي أزمة نواجهها، وما أفضل من "المؤامرة" صديقًا لتلعب هذا الدور في حياتنا اليومية، فطبقًا لعشرات ومئات ما يُسمي بالخبراء الإستراتيجيين والأمنيين ومسئولي المكاتب المكيفة بالعاصمة المصرية القاهرة، هناك تحالفات إنجليزية أمريكية إسرائيلية إيرانية كونية تسعي لتعطيش المصريين، وتهدف إلي نزع اللقب الذي إختصنا به المؤرخ الإغريقي "هيرودوت" منذ ألفين وخمسمائة عام، مصر هبة النيل، لكن الحقيقة التي غكتشفتها بعد أكثر من إحدى عشرة عامًا من تلك الأزمة، أكاد أجذم أن هناك بالفعل يد خفية تلعب في حوض النيل، يد ترغب في وضع استراتيجية جديدة تسمح بوضع المياة ضمن قائمة الموارد المُسعرة التي لها ثمن، وذلك من خلال بنك ضخم للمياة مقره إثيوبيا.
"تصميمات هندسية مخالفة للواقع عدائية الطابع.. تحذير من هيئة الأنهار الدولية.. صور فضائية أمريكية مُضللة.. بُحيرة صناعية شاسعة لا يتحدث عنها أحد".. مجرد معلومات قد لا تكون ذات أهمية لغير المتخصصين، ولكنها في واقع الأمر تحمل دلالة علمية خطيرة لمتخصصي الموارد المائية، وخبراء هندسة السدود، وطيلة عام كامل عكفت خلالها علي إثبات تلك الدلالات العلمية ومن مصادرها الرئيسية حول العالم، إعتمدت فيها علي الجانب العلمي والهندسي، وهو الجانب الذي افتقده الرأي العام طيلة عشرة سنوات من المفاوضات، وهو ما سأعرضه خلال مقالات أخري قادمه، توضح بالادلة المعلومات العلمية والهندسية المهمة التي تثبت ما توصلت إليه، علي رأسها الصور الفضائية الأمريكية لسد النهضة، والتقرير الذي يثبت الخداع الأمريكي بالصور الفضائية المعدلة والمُضللة، وتقرير هيئة الأنهار الدولية بالتأثير الكارثي علي مصر والسودان.