بمرور السنوات، تتجدد الأزمات فتختفي واحدة وتظهر أخرى، وتتبدل المواقف وتتأرجح الشكاوي بين الزيادة والنقصان، ويتغير مستوى الرضا الشعبي بالعوامل الداخلية والخارجية.. إلا أن أزمة سد النهضة خلال السنوات الأخيرة ظلت ثابتة لا تغيير فيها، مستكينة في الأذهان وعلى مرأى ومسمع المصريين الذين تابعوها عن كثب، نظرًا لكونها أزمة وجودية، لا فئوية أو حزبية؛ تمس القاصي والداني، ولا تفرق بين سكان الدلتا والجنوب، ولا تعرف أي معيار سوى الجغرافيا التي نتشارك فيها جميعًا. لذلك لم يكن قلق المصريين غريبًا أو مبالغًا فيه؛ فالقضايا المصيرية التي تحدد مستقبل الأمم لا يتم التعامل معها بتراخٍ وفتور، حتى إذا آلت للحرب، وهو الخيار الذي امتلكته مصر في جعبتها لوقت طويل ولم تتطرق إليه لاعتبارات قد لا تظهر لرجل الشارع البسيط، أقلها هو عدم التورط في عرقلة مسيرة التنمية -المفترضة- على الأراضي الإثيوبية، والحفاظ على صورة مصر أفريقيًا من لبس ثوب الاعتداء والاستعمار وإرادة السطوة والهيمنة الذي رُوج له في الداخل الإثيوبي لشيطنة مصر؛ وهي التي -أي مصر- حاربت مع دول الجنوب الإفريقي، والشمال أيضًا، ضد الاستعمار وحتى التحرير.
وبالرغم من كل المتغيرات الحادثة في الفترة الأخيرة، ما بين مبادرتي حياة كريمة والتمويل العقاري وغيرهما داخليًا، والأوضاع الإقليمية والدولية سياسية كانت أو حتى رياضية؛ على رأسها الملف التونسي وإشكالية الثورة والانقلاب، والأولمبياد التي يتابعها غالبية الشعب أملًا في ميدالية تُسعدهم، وفي أبطال جدد يستقبلونهم بأحرّ التهاني والتبريكات.. إلا أنه رغم كل ذلك، لا زال سد النهضة في الأذهان لا يغيب، ولا زال الحديث قائمًا ما بين عدم قدرة السد على التحمل، وما بين التفاوض، والخيار العسكري أيضًا.
وبالحديث عن خيار الحرب، فالحق أن هنالك فئة ليست بالأقلية -وأقول هذا بواقع تجارب وتعاملات شخصية- لا زالت تنتظر الإجابة؛ هل سنحارب أم هو التفاوض؟
بخصوص الحرب، يقول جون شتاينبك -كاتب أمريكي مشهور- أن كل الحروب ما هي إلا عرض فشل الإنسان كحيوان عاقل يفكر.. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا إذا حاول الإنسان وفكّر بالفعل ولم يتجاوب معه الطرف الآخر للجلوس والتفكير؟ في الواقع؛ فشلت المفاوضات مرة واثنتان وثلاث، وبغض النظر عن الدخول في تفاصيل تُخرجنا عن سياق موضوعنا؛ لم ننجح في الخروج باتفاق مُلزم يضمن حقوقنا المائية وحقوق الأجيال القادمة في النيل، وخابت كل المساعي التي سلكناها -حتى اللحظة- للخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر الممكنة، ولا أقول أن أحدًا -عاقلًا- كان ليدفع بالحرب قبل الجنوح إلى السلم والتفاوض، فالحرب دائمًا لها حسابات خاصة، وأجواء خاصة، وخسائر خاصة أيضًا، وأذكر هنا بالتحديد قصة للكاتب الأمريكي مارك توين نشرت باسم "صلاة الحرب"، تكشف للمرء أبعادًا أخرى للحرب قد لا يُدركها وحده إلا بخوض تجربة الحرب والصراع بشكل شخصي.
في قصته القصيرة، صلاة الحرب، والتي كُتبت في سياق الغزو الأمريكي للفلبين 1899-1902 اعتراضًا على فكرة الحرب كخيار مطروح ومستمر؛ تناول مارك توين طقوس الحرب من منظورنا الاعتيادي، ومن منظور الجانب الآخر -عدونا- على لسان عجوز غريب عاري الرأس شاحب الوجه لدرجة تثير الذعر، على حد تعبيره، ليأخذ الحاضرين -والقارئ معهم- بعد خطبته الوجيزة من التفكير البسيط ورؤية الحرب من منظور المكاسب والغنائم والانتصار، والشعور بالقوة والعظمة والهيمنة والفخر، إلى التفكير المركب والمُتَرَوّ فيه، والنظر إلى النتائج والتبعات قبل الانجراف وراء المشاعر الحماسية الجياشة وروح الوطنية الأخاذة وأحاسيس الاصطفاف التي تغمر الشعوب وقت الحروب العسكرية ما يستدعي الاتحاد كنسيج وطني واحد خلف القيادة السياسية والجيش بقياداته العسكرية.. فينتشلهم -العجوز- من جحرهم المسمى بصندوق الأفكار للنظر إلى ما هو خارج الصندوق.
يوضح توين المغزى من قصته في سؤالين، فيقول عن الدعوات والصلوات التي تسبق الحرب: "هل توقفتم قليلًا لتتأملوا الأمر؟ أهي صلاة واحدة؟ لا.. إنها صلاتين.. إحداها تفوهتم بها، والأخرى لم تفعلوا.".
إذًا.. في مثل هذه الحالات، فإن توسلاتنا للبركة تحوي ضمنيًا إنزال اللعنة على الطرف الآخر، والتوسل للرب يعني ضمنيًا وأقتبس: "يا رب ساعدنا لنمزق جنودهم إلى أشلاء بقنابلنا.. ساعدنا لنملأ حقولهم الجميلة بتلك الأجساد الشاحبة من الموتى. ساعدنا لنغطي على أصوات أسلحتهم بصراخ الجرحى والغارقين في ألمهم. ساعدنا لنغرق منازلهم ببراكين من النيران".
في الواقع، قد لا يختلف أحد على أن المكسب العظيم هنا يعني خسارة فادحة هناك، وأن النصر المبين لنا يعني خسارة مبرحة لهم، وهو أمر لا نريده كمصريين، لكن تساؤلًا بسيطًا أبديه: ما العمل إذا دُفعنا إلى الحرب؟ هل نترك النيل ونذبل لصالح دولة لم تفكر مرتين في إذاقتنا وبال الأمور؟ بالتمعن في أبعاد الموضوع، تدرك أنه بقرار واحد -غير محسوب جيدًا- قد تبدأ حربًا تستمر تبعاتها لعقود، وقد تدفع جنودًا إلى حافة الحرب دون ضامن لعودتهم أو تحقيق الهدف من الحرب، لذلك لم يكن هنالك ضير في الانتظار، والتمهل، ومحاولة الوصول إلى حلول سلمية، لكن إلى متى الانتظار؟ جوهر الإجابة يكمن في مدى أهمية القضية التي يتناولها، إذ لسنا نتحدث عن زيادة المعاشات أو ترقيات الموظفين مثلًا.. قد لا يكون الانتظار مُجديًا بالشكل المأمول، لكن التسرع في مثل هذه القضايا الشائكة قد تدفعك إلى ما لا تتصوره!
وبالتساؤل: لماذا سد النهضة؟ يقول الإثيوبيون أنه من أجل التنمية. حسنًا، وهل ندفع بعجلة التنمية لتسير على أجساد شعوب أخرى؟ أم أنه لكي تطفو إثيوبيا نغرق نحن؟ وحتى تنهض إثيوبيا نجثو نحن؟ ولتكبُر آمال إثيوبيا نيأس نحن؟ في الحقيقة أنه بإخطار الملء الثاني الذي بعثت به إثيوبيا إلينا منذ أسابيع فقد قلصت خياراتنا للتعامل مع هذه الأزمة قليلًا، وأعلنت علينا الحرب لا نحن من أعلنا، وقربتنا أكثر للخيار العسكري لا نحن من اقتربنا، ورغم تفضيل الدبلوماسية المصرية لخيار التفاوض دائمًا عن أيةٍ خيارات أخرى، إلا أن هذا الإعلان يرفع عنا أي إدعاء -مزعوم- في حال لجوء القيادة السياسية للحل العسكري.
أخيرًا.. قد لا يعرف الكثير من المصريين عن مارك توين أو صلاة حربه، لكننا وبدون أدنى شك، من أصغر طفل لأكبر مسؤول -بالفطرة السليمة- لم نأمل يومًا أن تكون مصر سببًا في دمار أو خراب، ولا أن نبدأ بالعدوان، وهو ما برهنت عليه السنوات السابقة، والشهور الأخيرة بالتحديد في ظل الاستفزاز الإثيوبي والتعنت وإفشال المفاوضات وكافة الطرق السلمية للوصول إلى اتفاق يضمن أمننا المائي وسير قطارهم التنموي في آنٍ واحد.. وبخصوص الخيار العسكري، فإننا لا نصلي للحرب كما جاء في قصة توين، فلسنا طامحين للهيمنة والمجد اللذين طمحت إليهما أوروبا لقرون من الزمن على حساب شعوب أخرى، ولا نبحث عن الموارد والثروات لنهبها كما فعلت أمريكا لعقود والأمثلة كثيرة لا حصر لها، لكننا نصلي هذه الأيام "صلاة النيل"، الذي لا حياة لنا بدونه، سواء بالتدخل العسكري وإعلان الحرب وهو الخيار الذي امتلكته مصر منذ البداية ولا نريد اللجوء إليه حتى اللحظة، أو استكمال التفاوض تحت مظلة الاتحاد الأفريقي والجنوح إلى السلم من جديد والحفاظ على حقوقنا باتباع النهج التقليدي للمدرسة الدبلوماسية المصرية.