"أصحاب العقول في راحة"، "المجانين في نعيم"، أمثال شعبية لا تعبر عن حقيقة ما يعيشه مرضى الاضطرابات النفسية، الذين يبلغ عددهم مليار شخص، فى العالم، من معاناة حقيقية، بسبب الجهل بالثقافة النفسية، تتمثل فى نظرة مجتمع قاتلة، وأحيانا معاملة سيئة من الأهل بل تنصل وتبرؤ منهم، وهو ما ينتهى بالانتحار.
المرض النفسى، وصل إلى حد كبير من الخطورة والقلق عالميا، حيث قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، إن ما يقرب من مليار شخص في جميع أنحاء العالم، يعانون من شكل من أشكال الاضطرابات العقلية.
وأيضا منظمة الصحة العالمية دقت ناقوس الخطر، في أكتوبر من العام المنصرم 2020، ولفتت إلى أن كل 40 ثانية يموت شخص ما بسبب الانتحار، وأن المرض النفسي سيكون الأول في قائمة الأمراض التي تواجه البشرية بحلول عام 2030.
وكشفت منظمة الصحة العالمية في حملتها لرعاية المرضى النفسيين، أن مرضى الاكتئاب في العالم يبلغون تقريبا 140 مليون نسمة، وحالات الفصام في العالم يقدر عددهم الآن حوالي 50 مليون نسمة، وفي مصر يمثل حوالي مليون نسمة، وأيضا عدد المنتحرين في العالم حوالي مليون شخص 70% منهم يعانون من الاكتئاب، أي انتحار شخص واحد كل 40 ثانية، وهو السبب الرئيسي الثاني لوفاة الشباب بين 15-29 سنة.
وأشارت إلى أن واحدا من كل 5 أطفال ومراهقين يعاني من أحد الاضطرابات النفسية، كما أن فقدان الإنتاجية الناجم عن الاكتئاب والقلق من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعا ويكلفا الاقتصاد العالمي تريليون دولار أمريكي سنويًا، والمصابين باضطرابات نفسية حادة يتوفون قبل غيرهم بـ10 سنوات.
ونوهت منظمة الصحة العالمية، إلى أن الاستثمار الحالي في خدمات الصحة النفسية يقل بكثير عن اللازم وفقا لمسح عام 2014، فتنفق الحكومات 3% في المتوسط من ميزانيات الصحة الخاصة على الصحة النفسية، وتتراوح النسبة بين 1% في البلدان المنخفضة الدخل إلى 5% في البلدان المرتفعة الدخل.
وأوضحت أن الاستثمار في مجال الصحة النفسية معقول على ما يبدو من الناحية الاقتصادية؛ لأن استثمار كل دولار واحد في تحسين علاج الاكتئاب والقلق يحقق عائدات قدرها 4 دولارات في تحسين صحة الفرد وزيادة قدرته على العمل، وعلاج الاكتئاب والمرض النفسي هو استثمار لاقتصاد الأمة، وهناك دراسة حديثة في لندن من كلية الاقتصاد البريطانية؛ توضح أن علاج الاكتئاب وعودة المرضى للعمل والمشاركة تزيد من الناتج القومي 3%.
وفي مصر اتخذت الدولة، إجراءات تشريعات صارمة، لرعاية المرضى النفسيين، حيث صدر قانون رعاية المريض النفسي، وبه عقوبات رادعة على الجرائم التي تقع بحق المرضى النفسيين، حيث تنص المادة 46 من هذا القانون على أن يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز 6 أشهر وبغرامة لا تزيد على 3000 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، في الحالات الآتية:
كل من مكن عمدا شخصا خاضعا لإجراءات الدخول أو العلاج الإلزامي من الهرب أو ساعده عليه أو أخفاه بنفسه أو بواسطة غيره مع علمه بذلك.
كل من حال دون إجراء التفتيش المخول للمجلس القومى للصحة النفسية أو المجلس الإقليمى للصحة النفسية أو من يندبه لذلك طبقا لأحكام هذا القانون.
- كل من رفض إعطاء معلومات يحتاج إليها المجلس القومى للصحة النفسية أو المجلس الإقليمى للصحة النفسية أو مفتشوها فى أداء مهمتهم أو أعطى معلومات مخالفة للحقيقة مع علمه بذلك.
- كل من أبلغ إحدى الجهات المختصة كذبا مع سوء القصد فى حق أحد الأشخاص بأنه مصاب بمرض نفسى مما نصت عليه أحكام هذا القانون.
المجتمع المصرى، لديه جهل بالثقافة النفسية، وكثيرون يعتبرون المرض النفسى، مس أو لبس جنى، وبالتالى يذهبون إلى الدجالين والمشعوذين، مما يتسبب في جرائم أخرى منها النصب والابتزاز المالى، وأيضا جريمة جنائية تتمثل في ضرب المريض حتى الموت، مثلما حدث في عدد من الوقائع الجنائية، بحجة إخراج الجن من الجسم.
الدكتور أحمد عبدالله، أستاذ الطب النفسى، كشف عن أن معظم الناس لديهم جهل بالثقافة النفسية، فهم لا يعرفون كيف يعمل المخ ولا الخلايا العصبية، أو ما هو المرض النفسى وما أعراضه، لافتا إلى أن الدولة توفر مراكز العلاج النفسى، فى المستشفيات الجامعية وغيرها، بأسعار رمزية، وكلها تعمل بكفاءة عالية، عكس العيادات الخاصة التى تطلب مبالغ كبيرة فى كل جلسة، ولا يستطيع كثيرون دفعها.
ولفت إلى أن هناك عدة عوامل تغذى عند الناس الذهاب للدجال، وهى توافر وكثرة المشعوذين وإعلاناتهم فى كل مكان حتى الطرق، بالإضافة إلى قلة خبرة بعض الأطباء النفسيين فى التعامل مع المريض الذى يدعى أن الجن يحدثه أو يظهر له، بالإضافة إلى ارتفاع سعر الكشف والعلاج النفسى.
وأضاف عبدالله، لـ"البوابة نيوز"، أن الثقافة السائدة فى المجتمع، عبر كل الوسائل الاجتماعية والدينية، تغذى الشعور بأن الجن وراء ما يحدث للبشر، فى حين أن أعراض كل الأمراض الذهنية، تنحصر فى العيش فى عوالم أخرى وهوالس سمعية وبصرية، وظهور أشخاص يحدثونه، أو الحديث بلغة غير مفهومة، أو تغيير صوته، أو تشنجات.
ولفت خبير الطب النفسى، إلى أنه يعمل طبيبا نفسيا منذ ٣٠ عاما، وعالج آلاف الحالات، منهم الكثير ممن كانوا يعتقدون أن الجن يحدثهم ويكلمهم، وتلقوا العلاج بالأدوية المعترف بها فى علاج الأمراض النفسية؛ لافتا إلى أن بعض الأطباء النفسيين فى مصر، لا يعرفون التعامل مع المريض المقتنع أن الأمر بسبب الجن، وبالتالى يلجأ المريض إلى الدجالين والمشعوذين، بعدما يشعر أن الطبيب يهزأ به.
وعن معاملة المريض النفسى فى المجتمع المصرى، يقول الدكتور يحيى الرخاوى، أستاذ الصحة النفسية: “أعتقد أن قبول المرض النفسى بطيبة واحترام فى المناطق الريفية هو أفضل منه فى المدن، حيث تباعد الناس عن بعضهم البعض، ففى الريف يغلب التعاطف مع المريض النفسى واعتباره ”مبروكا" وقريبا من الله بشكل أو بآخر، أما فى المدن فقد أصبح استعمال صفة المرض النفسى إما مبررًا للعجز والكسل والتخلى أو ربما للصق لافتة مشوِّهة تؤدى إلى تمادى عزله وتجنبه".
وأشار في حديثه لـ"البوابة نيوز" إلى أن ٦٠٪ من المرضى النفسيين لا يتوجهون لطلب المساعدة للعديد من الأسباب مثل عدم الاقتناع بالاضطراب، مشيرا إلى أن يوجد مرضى نفسيون بيننا ولا يعرفون هذا أو يظهرون على الفضائيات يتحدثون إلينا، وعموما فإنه لا يوجد خطر من هؤلاء على المجتمع، والحد الفاصل بين السوى والمريض النفسى هو حد هـُـلامـِىّ غامض.