تمثل استعادة يوسف إدريس استعادة لقيم الثقافة الوطنية المصرية، في تجلياتها الواعدة والخلاقة، وبما يعني أن ثمة سؤالا جوهريا يمكن أن ننطلق منه في الذكرى الثلاثين لرحيله (ا أغسطس 1991)، لماذا يبقى يوسف إدريس في الذاكرة الأدبية؟ سيبدو هذا السؤال المفتوح على تأويلات متعددة علامة على الحضور الممتد ليوسف إدريس بنصوصه وشخوصه في الذاكرة الجمعية للكتابة.
بدا يوسف إدريس ابن أوانه - بامتياز-، معبرا عن جوهر لحظته السياسية والثقافية، قابضا وببراعة على زمام الحكاية، ومدافعا من خلالها عن ناسه من البسطاء والمنسحقين والمهمشين، فبدت كتابته- وباختصار - صوتا للمقموعين: "فلاحون، وأجراء، وعمال تراحيل، وموظفون برجوازيون/ وطلبة، ومناضلون، ونساء حائرات، ونساء مقموعات،…إلخ"، ومن ثم أصبحت كتابة يوسف إدريس تاريخا لمن لم يقف عندهم التاريخ.
نحن أمام أبطال هامشيين طيلة الوقت، متواضعي الحال والقدرات، أبناء لواقع بالغ القسوة ولتلك الضرورة الحياتية المعاشة، يبني عوالمهم ذلك الخيال الجديد لكاتب طليعي، مختلف، ومغاير، قرر منذ مجموعته القصصية الأولى "أرخص ليالي" أن يكتب عن شخوص منسيين، يمثلون في جوهر الحكاية القصصية متنها، مثلما يمثلون تماما لكل الكتاب الطليعيين والتقدميين في العالم ملحا للأرض وللحياة معا، من هنا سنجد حكايات عن عبدالكريم الفلاح المعدم الأجير، ورمضان أبو سيد، والحفني أفندي مدرس الكيمياء التعيس، وغيرهم كثيرون، بشر يعيشون على الحافة، مأزومون ومرتبكون، في آن، لكنهم أبناء اللحظة الفائتة، والأمل المراوغ، بشر من أولئك الذين يعبئون لياليهم بوهج الحكايات الساخرة، ونَفَسها الذي لا ينقطع، أو يلين.
انطلاقا من الخصوصية الثقافية المصرية، وتعبيرا عن الوجدان الجمعي للأمة المصرية، كتب يوسف إدريس نصه القصصي، فيختار لحظته السردية، ويحدد أسلوبه، ويختار لغته وطرائقه الفنية، فينحاز للعامية في حواراته إمعانا في إضفاء مزيد من الواقعية على الحدث السردي، ودفعا بالنص إلى أفق الحياة اليومية بناسها المنسيين، وعراكها المستمر، وهوامشها المختلفة، وطزاجتها الدائمة.
من المكون المحلي المصري إذن يبدأ يوسف إدريس وينتهي كاتبا مجيدا مقتصدا في سرده، موجزا ومكثفا في آن. لقد كان إدريس إذن معنيا أكثر بكشف التناقضات الاجتماعية الفادحة في المجتمعات المغلقة، وتعرية ذلك المسكوت عنه داخلها، مثلما نرى في " أرخص ليالي"، و"حادثة شرف"، والنداهة، و"بيت من لحم"، وغيرها.
القصة والجسارة
تبدو القصة النوع الأدبي الأكثر التصاقا بالإمكانات التعبيرية ليوسف إدريس، فكانت استجابة جمالية لرؤية واقعية للعالم، تحوي نزوعا ساخرا، ومساءلة موضوعية وفنية بلا صخب أو ضجيج.
في قصة "رمضان" في مجموعة "جمهورية فرحات" نجد أمامنا فتحي، الذي لم يكن أكثر من طفل يبغى الكمال والبراءة معًا، يريد الالتحاق بأفراد عائلته الأكبر سنا، ويصبح رجلًا مثلهم، قادرًا على الصوم في رمضان. ووجبة السحور التي يريد الاستمتاع بها فعلًا ومعنى، ستظلّ لصيقة بالصائمين، وفتحي ليس أقل من أحد؛ هكذا يفكّر ابن العاشرة في اختراق جدار رمضان الصلد، في قصة "رمضان" ليوسف إدريس.
لكن منذ متى والأيام تأتي على هوانا، فالعطش قاس والصيف مارد ثقيل، وحينما يختلس لحظات يرتوي فيها مكمّلا صيامًا ظاهريًا، تراه أمه ذات مرّة ليقرر الجميع مراقبته، ويصبح خوفه مضاعفًا، من رمضان الذي يجلس بعيدًا، مشاهدًا الجميع، الصائمين والمفطرين، والذي يعتقد الصبيّ بأن رمضان "سيبطحه" في رأسه لا محالة من مكانه هناك؛ لتتعزز ثقافة الخوف من القيد الاجتماعي ذاته عبر الضغط العائلي الذي تمارسه الأسرة في العقاب والمراقبة: " ضربوه علقة وأرغموه على الصوم بالقوة وراقبوا التنفيذ بدقة. واضطر فتحى أن يصوم بعد هذا ويواظب على الصيام، لا خوفًا من رمضان وبطحاته، ولكن خوفًا من أهله الذين لا يفيد معهم رفع ذراع أو إجراء تجارب، إذ هم يعرفون كل شيء إن آجلًا أو عاجلًا، وهم الذين يتولون بأنفسهم العقاب، ويضربون العُلق، ويبطحون، ولا يرحمون".
وفي ( حادثة شرف) ستقابلنا فاطمة الشابة الجميلة الفاتنة التي تجد نفسها عرضة لحديث لا ينقطع من أبناء عزبتها، فالشاب المستهتر "عبدون" الوافد قد تسبب لها في أذى كبير، وعلى الرغم من أنه لم يحدث شيء سوى الضجة التي قد تكلف البسطاء في الأماكن المطمورة حياتهم، مثلما تخنق إنسانيتهم، إلا أن فاطمة وبعد الكشف على سلامة عذريتها من قبل نساء العزبة في مشهد عبثي، لا تعود كما كانت، فقد عرفت أن الصرخة التي أطلقتها فعلت ذلك كله، في مجتمع يتعيش على التواطؤ بالصمت والمداراة، بينما يحرس في العلن الفضيلة المدعاة.
وفي "النداهة" ستجد عالمين متقابلين، ينبئان عن رؤيتين متمايزتين للعالم، حيث القرية والمدينة من جهة، والماضي الأسطوري والحداثة المادية من جهة ثانية، وفي كل يبدو يوسف إدريس في قصصه مفعما بالسؤال، مشاركا متلقيه في إنتاج الدلالة الكلية للنص القصصي.
الحرام والعيب
لم يكن يوسف إدريس يصدر أحكاما قيمية بالية تدين الناس، أو تصنفهم وفقا لرؤية أحادية للعالم، بل كان يدرك تماما ذلك المنطق الديمقراطي للسرد من جهة، وحركة الواقع المؤثرة في حركة الشخوص والمتجادلة معها في آن من جهة ثانية، مثلما نرى في روايته ( الحرام).
من لحظة متوترة دراميا يبدأ الحدث السردي في رواية الحرام، فثمة رضيع لا عائل له، يكون مفجرا للحدث الدرامي داخل الرواية، ويصبح الخطاب المهيمن على حوارات الشخوص شاكا ومتسائلا، فمسيحة أفندي يرمي زوجته وابنته بالباطل، وتنتفي المسافة بين "الغرابوة" و"أهل العزبة" ( فلاحو التفتيش)، بعد أن كان عمال التراحيل ( الغرابوة) وحدهم في قفص الاتهام، وتتجادل العلاقات المرتبكة بين الطرفين، أحدهما يمثل القاع ( أهل العزبة)، والآخر يمثل ما أسميه بهامش ما بعد القاع، وتتحرك الرواية من السؤال إلى المساءلة التي تصير بنية مهيمنة على نص يعي فضاءه الروائي جيدا، ويدرك شبكة العلاقات الاجتماعية الحاكمة له.
شخوص يوسف إدريس معذبون بذواتهم وواقعهم معا، لا تملك سوى أن تتعاطى معهم وفق منطق الحاجة، مثلما لا تملك أيضا سوى أن تحمل ذلك القدر من الأسى حيال أوضاعهم الاجتماعية البائسة، والتي تتمثل في الثالوث القاتل: الفقر، والجهل، والمرض.
يقدم يوسف إدريس تصورات مختلفة للدلالات المستقرة، والمعاني الجاهزة، ففي نصه ( العيب) تبدو سناء محاطة بشبكة من العلاقات المراوغة داخل المصلحة التي تعمل فيها، والتي تقدم مفهوما للرشوة بوصفه هدية أو إكرامية، وبينما تعاني سناء من شظف العيش تعاني بالأساس من النظرة الذكورية، والتكالب النهم للنيل منها أو على الأقل تطويعها لما يريدونه، وعلى الرغم من الضعف الذي تبديه سناء في النهاية إلا أن التوصيف والرصد وتحليل الانفعالات النفسية وتأملها يهيمن على النص أكثر من الرغبة في الفضح والإدانة.
صيغة مسرحية مصرية
ثمة ملمح بارز لدى يوسف إدريس يتمثل في محاولة التأسيس لصيغة مسرحية مصرية الطابع، عبر تفعيل إمكانات مسرح السامر بحسه الشعبي، وروحه المصرية، واستلهام مفردات التراث الشعبي، بخياله الخصب المتكيء على ممارسة اجتماعية ضاربة في العادات والتقاليد والذهنية المعبرة عن العقل العام، والحياة الممتدة لآلاف السنين.
يأتي يوسف إدريس من خلف ذلك كله ليعاين عالمه الخاص، حيث الخلق الفني أساسا للدراما في مسرحيته الشهيرة ( الفرافير)، التي لم تدشن صيغته المسرحية قدر ما كانت خطوة في التعبيد لمسرح مغاير ومختلف عن السائد والمطروق، كتب يوسف إدريس أيضا المهزلة الأرضية، والمخططين وغيرهما من النصوص المسرحية.
وبعد.. ضرب يوسف إدريس بسهم وافر في مناح جمالية وفكرية مختلفة، كان الجامع بينها جميعا موهبة فذة، مدفوعة بطموح ممتد، ورغبة عارمة في التأثير، من السرد ( قصة ورواية )، إلى المسرح، والمقال الخلاق ( اتسمت مقالاته المهمة في جريدة "الأهرام" بالمتعة الفكرية والفنية والاشتباك مع الواقع)، ثلاثون عاما لم تعنِ الغياب، بل حملت حضورا ممتدا، في متن السردية المصرية، والثقافة الوطنية الخلاقة والمتجددة باستمرار.