يوضح الكاتب والناقد المسرحي أحمد عبدالرازق أبو العلا، في كتابه "دفاعا عن تاريخ المسرح المصري"، الصادر حديثا عن دار مكتوب للنشر والتوزيع، حقيقة ريادة "يعقوب صنوع" للمسرح المصري، الذي شكك فيها البعض، تلك الريادة التي أكدها من قبل عدد كبير من الباحثين، من بينهم: "الدكتور محمد يوسف نجم، الدكتور لويس عوض، الدكتور علي الراعي، الدكتور إبراهيم عبده، الدكتور محمد عزيزة، رشدي صالح، الدكتورة نجوى عانوس، الدكتور عمرو دوارة، فاروق عبد القادر" وغيرهم.
ورصد المؤلف في الجزء الأول، من خلال منهجه الاستقصائي مجموعة من النتائج في "٣١" نقطة نذكر منها: "أن هناك وقائع تؤكد صدق ما ذكره "صنوع" في مذكراته، وما كتب عنه وشعبيته في صحفه، وامتناع محمد عثمان جلال عن ذكر اسم "صنوع"، في كتابه الأول الصادر عام ١٩٧١، ليس معناه أنه لم يكن موجودًا، لكنه إنكار متعمد من أحد ممثلي النخبة المثقفة الرافضة لهذا النوع من المسرح.
تلك النخبة التي تتحمل مسئولية اختفائه من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، فضلا عن مسألة الاستعلاء على المظاهر المسرحية الشعبية، وإغفال تجربة "صنوع"، والتشكيك فيها، بحجة عدم وجود وثائق كافية، جريمة في حق تراثنا المسرحي.
وكل ما كتبه "صنوع" في صحفه عن مصر يكشف حبه لها، وإيمانه بالمصريين وكراهيته لإنجلترا، وريادته يعود سببها لمحاولته الجمع بين مفهومي الفن التمثيلي، والمسرحي، لتحقيق التوازن الذي لم يكن موجودًا قبله.
ويقدم لنا المؤلف في الجزء الثاني تحليلًا نقديًا لنص "موليير مصر وما يقاسيه"، بنسختيه؛ الأولى: التي قدمها "صنوع" على مسرحه في ١٨٧٢، والثانية: التي نشرها في كتاب عام ١٩١٢، وأهداها للباحث اللبناني الشهير "الكونت فيليب طرازي" عرفانا له، لأنه كتب عنه جزءًا في كتابه "تاريخ الصحافة العربية".
وقد أشار في هذا الجزء، إلى ريادة "صنوع" قائلا: "أنشأ أول مسرح عربي في القاهرة بمساعدة الخديو إسماعيل، الذي منحه لقب "موليير مصر" وحفزه على عمله، وشهد مرارا تمثيل رواياته، فألف ٣٢ رواية هزلية وغرامية منها بفصل واحد، وأخرى بخمسة فصول".
وحدد المؤلف أهم السمات والخصائص الفنية للنص، متناولا فيها بعض القضايا التي طرحت بشأنه، من خلال قراءته للنص مؤكدا اهتمام صنوع بالجمهور في العرض المسرحي واحترام ذائقته، والاستعانة بتقنية "المسرح داخل المسرح"، بالإضافة إلى إتاحة مساحة لارتجال الممثل، واستفادته من مسرح "الفودفيل".
وذلك حين استعان بالغناء، والتلحين، والكوميديا، مستلهما موضوعاته من الحياة اليومية العادية، وصياغة الحوار سجعًا في النص المنشور ومحاكاة اللغة المقامة لأنها تميل إلى الدرامية، وروح ابن البلد تتجلي في بعض التعبيرات والأمثال في النسختين معا، والشعر الشعبي الذي كتبه صنوع يؤكد مصريته، ويعكس مشاعر أولاد البلد.
وأشار "أبو العلا"، إلى مسرحية "لعبة راستور وشيخ البلد والقواص" التي قدمها على مسرحه، وذكرتها نسخة النص المنشور عام ١٩١٢، وأشارت لها جريدة "الجوائب" في عددها رقم ٥٣٥، وكذلك امتلاكه لناصية العامية المصرية التي لا يقدر عليها إلا المصري.
ويتناول المؤلف في الجزء الثالث، الإرهاصات الأولي للمسرح الشعبي في مصر، موضحًا التطوير الذي أحدثه "صنوع" لبعض عناصر المسرح الشعبي، الذي كتبه في الفترة من ١٨٧٠-١٨٧٢، وذلك من خلال تحليله لنص صنوع "الضرتان" الذي عرض عام ١٩٧٠، وقدم في إطار الكوميديا الشعبية، التي تتضمن كل مواصفات الكوميديا الشعبية.
وذلك من حيث "الشخصية النمطية، وموضوع من الواقع الاجتماعي، والأداء المعتم على الارتجال، وهدف الإضحاك والتسلية، واللغة الخشنة التي تميل أحيانا إلى الإسفاف والخروج على المألوف، وقدرة الممثل على الأداء التمثيلي والرقص والغناء"، لقد أصبح لدينا مسرحا شعبيا الآن، له خصائص وسمات تميزه عن غيره من أنواع المسرح.
ونتعرف عليه في بعض إبداعات عدد كبير من كتابه من بينهم: "توفيق الحكيم، يسري الجندي، محمد أبو العلا السلاموني، شوقي عبدالحكيم، نجيب سرور، محمود دياب، رأفت الدويري، محمد الفيل، عبدالغني داود، ألفريد فرج، فاروق خورشيد، شوقي خميس، سمير عبدالباقي" وغيرهم، فكل منهم له طريقته الخاصة في التناول والمعالجة والاختيار.
وتابع قائلا: هذا النوع من الكتابة ليس سهلا يتطلب وعيا بالمفهوم، وأن يكون الكاتب عالما بالضرورة التي تجعله يذهب إلى عناصر الشعبية ويجعلها قالبا لمسرحيته بلا ادعاء، وقدرة الكاتب على إضفاء الطابع الشعبي على القالب المسرحي، ما زالت تشغل النقاد الذين يهتمون بمناقشة القضايا المتعلقة بالمسرح الشعبي.
وقد استخدم المؤلف كلمة الإرهاصات لأنها تعنى أن هناك نشاطا غير مكتمل، وأن تلك الأشكال والظواهر ليست "مسرحية" بالمفهوم الدقيق لكلمة المسرح، لكنها مجرد عناصر ومصادر درامية يمكن بتطويرها أن تصبح مسرحا، وظلت تلك الظواهر لسنوات عدة مجرد إرهاصات لم تجد من يتحمس لتطويرها في قالب مسرحي مكتمل، ولم يحدث هذا إلا مع "صنوع" الذي استلهم كثيرا منها وطوره بمسرحياته خاصة في مسرحيته "موليير مصر وما يقاسيه".
كما نجد مع فن "الأراجوز" أن تاريخ المسرح العربي يبقى مرتبطا شعبيا بالظاهرة دون تطويرها، وبالتالي يبقى الاستفهام المقرون بافتقاد تطور الظواهر المسرحية في تاريخنا مطروحًا، الأمر الذي أكده الكاتب المسرحي محمد أبو العلا السلاموني وغيره، لقد حاول المؤلف استدعاء بعض الأشكال الشعبية القديمة، التي اعتبرها إرهاصًا للمسرح الشعبي المعاصر، الذي تحددت سماته وخصائصه على أيدي عدد كبير من كتابه من جميع الأجيال، الذين اعتمدوا على فكرة الاستلهام بعيدا عن النظرة المتعالية الرافضة لها.