عرفت الراحل الكبير فى القاهرة، عندما كنت طالبا ثم معيدا بكلية الألسن، وقدمنى له أستاذ الأدب الإنجليزى الدكتور رمسيس. عوض، شقيق لويس عوض الذى سيأتى دوره فى هذه السلسلة.
ثم توطدت العلاقة كل صيف بالإسكندرية حيث نلتقى بمقهى«الشانزليزيه»،بسيدى بشر مع نجيب محفوظ والوفدى الكبير إبراهيم فرج وثروت أباظة وحسن الإمام وكان اختيار هذا المقهى بعد هدم مقهى«بترو» الذى كانوا يرتادونه وكان ذلك الاسم الجديد إشارة إلى أن مغامرة فرنسية قادمة على الطريق، وأثناء التحضير للماجستير عن أدبه كنت ألتقيه إما فى منزله على نيل جاردن سيتى وإما فى الأهرام.
ثم جاءت بعثتى للدكتوراهفى السوربون فى الوقت الذى كان فيه الصديق الراحل يوسف فرنسيس يحضر لفيلمه«عصفور من الشرق» مع نور الشريف فى دور الحكيم وتوفيق الحكيم نفسه فى إطلالة سريعة وذكية فى الفيلم.
أكاد أجزم أننى طوال سنوات الاقتراب من الحكيم فى مصر لم أر منه إلا معشرا طيبا مع عبوس فى أغلب الأحيان. لم أر ابتسامته إلا فى مقهى«دانتون» القريب من مسرح الأوديون بالحى اللاتينىحيث تدور قصة غرامه مع فتاة الشباك بالمسرح التى يرويها فى «عصفور من الشرق».
انتقل«الحكيم» وقد جاوز الثمانين من عبوس الكهول إلى مرح الشباب فى شوارع الحى اللاتينى.
كانت متاعب سلسلة مقالاته بالأهرام«حديث مع الله» قد تحولت إلى معارك ربما تكون آخر المعارك الفكرية الكبرى فى مصر سيأتى الحديث عن معركة كتاب «عودة الوعى».
وكان يسألنى إن كنت قد كتبت ردا باسمه على الكاتبة الشابة السعودية رقية حمود الشبيب التى أرسلت خطابا رائعا لتأييده سأعود إليها، وكان محبطا من المناخ الفكرى فى بلادنا، والتفت ذات يوم وكنا فى حى مونمارتر حى الفنانين المطل على المدينة كما يطل المقطم على القاهرة وقال لى:«تعرف الفرق بينا وبينهم إيه؟» نظرت إليه مستفسرا. أجاب:«شايف اسقف بيوت باريس تحت أرجلنا ؟.الفرق هنا». ازدادت حيرتى فقال مبتسما ومتحسرا:«تحت كل سقف من دول هناك عقل يفكر بشكل مختلف عن ساكن السقف المجاور».
كان السبب الآخر لحسرات الحكيم هو الأموال الطائلة التى ينالها لاعبو كرة القدم بينما المفكرون والفلاسفةيعيشون أحيانا على الكفاف. عدنا إلى مقهى«دانتون» فإذا به يفتح مرة أخرى مسألة لاعبى كرة القدم.
«تعرف إيه الفرق بين الرياضى والفيلسوف؟» لم أر وجها للمقارنة وشعر بذلك فقال:«انت ممكن تعمل رياضى ممتاز كل يوم بالتدريب والتمارين والتغذية لكنك لا يمكن أن تصنع فيلسوفا إلا بعصارة حضارة قومه وروح أمته. عشان كده ممكن تعمل رياضى ممتاز كل سنة لكن ماتقدرش تعمل مفكر إلا فى بعد أجيال متعاقبة».
رحم الله توفيق الحكيم.