بعد قيام الثورة المصرية في الثالث والعشرين من يوليو لعام 1952 ومع وصول قائدها جمال عبدالناصر إلى سدة الحكم تغيرت السياسة المصرية تجاه جميع القضايا والملفات وعلى رأسها قضية أفريقيا التى نظر إليها ناصر باهتمام بالغ جاءت نتائجه سريعا.
وانطلق ناصر في تعامله مع أفريقيا من مبدأ كون مصر تحتفظ بهويتها الأفريقية التي تعتز بها وتنتمي إليها، وأن مصر شريك في البناء والتنمية والدعم السياسي لكل قرار وطني مستقل لشعوب هذه القارة، وأن مواجهة الاستعمار ومحاصرته بتأليب الشعوب عليه أمر حاسم، ولم تكن بلادنا ترغب وسط كل هذه المساعدات أن تزيل محتلا وتبقى هي بديلا عنه لكنها دعمت الاستقلال بصورة واسعة ومشرفة، حتى باتت القاهرة قبلة الأحرار والوطنيين والمناضلين.
ناصر لفت بوضوح إلى جدية التوجه ناحية أفريقيا في كتابه "فلسفة الثورة" باعتبارها الدائرة الثانية من دوائر العمل السياسي الخارجي.
مصر في أفريقيا..
كتاب "مصر في أفريقيا" الصادر بثلاث لغات عن الهيئة العامة للاستعلامات، يتحدث عن التوجه المصري ناحية القارة منذ عهد الرئيس عبد الناصر إلى عهد الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، حيث يستهدف الكتاب زيادة الوعى لدى الشعب فى مصر بالقارة الافريقية، وكذلك تقديم وشرح سياسة مصر تجاه قارة أفريقيا.
وشارك في تحريره وتأليفه ثلاثة متخصصون وهم: رئيس قطاع الإعلام الخارجي عبد المعطى أبوزيد، ومدير تحرير دورية آفاق أفريقية رمضان قرنى، ومديرة تحرير آفاق آسيوية دكتورة سمر إبراهيم.
يرصد الكتاب، وفق تقرير موقع هيئة الاستعلامات، فى الفصل الأول اهتمام مصر بأفريقيا منذ ثورة يوليو 1952 حتى عام 2014 حيث أولت السياسة المصرية الدائرة الأفريقية اهتماماً كبيراً على مدى عقدين من الزمان، كما خص كتاب "فلسفة الثورة"، للزعيم الراحل جمال عبدالناصر الدائرة الأفريقية باعتبارها الدائرة الثانية من دوائر العمل السياسي الخارجي.. وإزاء هذا الإدراك الرئاسي لعلاقات مصر بالقارة، وإيمانا بهوية مصر الأفريقية، تعددت جهود سياسة مصر الأفريقية في العديد من القضايا والمجالات أبرزها: دعم حركات التحرر الوطني، والمساهمة في دعم استقلال 34 دولة أفريقية خلال الفترة من 1952-1967، بجانب توثيق الصلات مع زعماء التحرر الوطني.
ويوضح الكتاب أن مصر في عهد ناصر كانت من أوائل الدول التي ساهمت في إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963 قبل أن تتحول إلى الاتحاد الأفريقي، ويمكن القول إن تأسيس المنظمة القارية، جاء تتويجا لجهود الآباء العظماء والتاريخيين لزعماء قارة أفريقيا من أمثال: عبدالناصر وسيكوتوري، ونكروما، ولومومبا، وبن بيلا.
صعوبات الوصول إلى أفريقيا..
في كتابه "عبدالناصر والثورة الأفريقية" يوضح الدبلوماسي المصري محمد فايق دور الزعيم الراحل في دعم القارة الأفريقية بمزيد من التفصيل، حيث اتجه "فايق" لكشف الصعوبات الأولية والعراقيل التي تقف أمام الجانب المصري للوصول إلى العمق الأفريقي، وعلى الرغم من تجاوب حركات التحرر في الوطن العربي مع الثورة المصرية فإن الوضع في أفريقيا كان مختلفًا.
يقول "فايق": مجرد الاتصال بالحركات الوطنية في أفريقيا كان في البداية أمرا بالغ الصعوبة، كما أن المعلومات عن هذه الحركات قليلة جدا، وقبضة الاستعمار القوية تقيم الحواجز بيننا وبين شعوب هذه المنطقة حتى أنه لم يكن يسمح بسهولة إضافة القاهرة على جوازات السفر الأفريقية، كما كان أي مصري يجد صعوبة كبيرة في مجرد دخول هذه المستعمرات، ولذلك كان لابد لنا من التحايل لدخول هذه الأقاليم لاستكمال الدراسات الميدانية والاتصال بالحركات الوطنية التي لم تكن هي بدورها تعلم الكثير عما يدور في مصر.
ومن أجل الاتصال مع تلك الحركات كنا نتصيد الزعماء المسلمين من أفريقيا عندما يذهبون للحج، والقادة السياسيين عندما يذهبون لعواصم الدول الاستعمارية نفسها، واستفدنا بمعلومات الآلاف من الدراسين الأفارقة في الأزهر الذين ساعدونا في الاتصال بالزعماء الوطنيين في بلادهم.. وعندما توطدت العلاقات وذاع صيت القاهرة كقاعدة للتحرر أصبح الأفارقة هم الذين يتحايلون للوصول إلينا.
مصر وقضية السودان..
أوضح "فايق" أن قضية السودان أثبتت جرأة ناصر في التعامل مع الملفات الحساسة، كما أنها شفت عن حكمته في التحلي بروح الواقع والعصر في التعاطي مع استقلال السودان.
قال "فايق": خرج عبدالناصر عن الطريق الذي سار فيه جميع الزعماء الوطنيين والحكومات السابقة في مصر في المطالبة بسيادة على السودان أو حتى ضمه إلى الأرض المصرية.. بل إن الملك فاروق ذهب إلى حد الإعلان عن نفسه ملكا على مصر والسودان.
ومع هذا الميراث في التعامل مع السودان، ومع وضع في الاعتبار أن عبد الناصر كان من أنصار الدمج والوحدة وخاصة مع الأقطار العربية، فكيف يوافق على انفصال السودان؟ هذه النقطة تحديدا جعلت الإنجليز يناورن ويربطون وجودهم بالوجود المصري فتعلن الأخيرة موافقتها إجراء استفتاء في السودان والخروج لتهيئة جو حر محايد، وبذلك أحرجت الإنجليز الذين طالبوا بنفس المطالب لعلمهم أن الجانب المصري سوف يرفضها خاصة بعد شعارات وحدة وادي النيل.
ذكر "فايق" في كتابه أنه تم الاتفاق بين جميع الأطراف على فترة انتقالية لسودان مدتها3 سنوات يتم فيها تصفية الإدارة الثنائية، وأن يكون للحاكم العام أثناء هذه الفترة لجنة خماسية تعاونه، وتقرر تأليف جمعية منتخبة لتقرير مصير السودان على أساس: الارتباط مع مصر بأي صورة، أو الاستقلال التام والانفصال.. كما تقرر أن تنسحب القوات المصرية والبريطانية من السودان فورا عندما يعلن البرلمان السوداني رغبته في الشروع في اتخاذ التدابير الخاصة بتقرير المصير.
في العام 1955 أبلغت حكومة الأزهري الجانبين المصري والإنجليزي برغبة الجمعية التأسيسية في سحب الجيش لإجراء الاستفتاء، سارعت مصر بالرحيل تاركة أسلحتها الثقيلة هدية لجيش السودان مما اضطر الاحتلال للخروج أيضا، ثم أعلنت حكومة الأزهري قيام الجمهورية السودانية في 19 ديسمبر سنة 1955 وتم تشكيل مجلس قيادة لرئاسة الدولة، دو انتظار لإجراء الاستفتاء ولم تطالب به مصر بل سارعت وباركت الاستقلال واعترفت بالسودان.
وهكذا فإن مصر وإن كانت قد خرجت من السودان دون أن تحقق الوحدة التي كانت تنشدها إلا أنها فتحت أمامها مجال العمل في أفريقيا، والتزمت بمبدأ تصفية الاستعمار وحق تقرير المصير.
مصر بجانب الصومال..
في ذلك الوقت سعت أكثر من قوة للسيطرة على الصومال وتغيير هويته العربية بما في ذلك دولة أفريقية مجاورة، وقتها كانت الصومال من الأقاليم الموضوعة تحت وصاية الأمم المتحدة والإدارة الايطالية، وكانت الأمم المتحدة قد أنشأت هيئة تابعة لها هي "المجلس الاستشاري" منذ عام 1950 مكونة من ثلاث دول هي مصر وكولومبيا والفلبين بقصد الإشراف عل الإدارة في الصومال والتأكد من قيادة البلاد نحو الاستقلال خلال فترة تنتهي عام 1960، وكان وجود مصر في هذا المجلس يعتبر شكليًا قبل ثورة يوليو.
يشير "فايق" أن الوضع تغير بعد ثورة يوليو، حيث استفادت مصر من وجودها في المجلس الاستشاري وذلك لدعم الصومال، حيث تبنت وجه النظر الوطنية، ودافعت عنها وقدمت المشورة السياسية والخبرة القانونية للأحزاب والحركات الوطنية وساعدتها في مقاومة المناورات التي تهدف الى تأخير تسليم البلاد.. ثم قدمت مصر مساعدات كثيرة للصومال بعدما واجهت النوايا الخبيثة للدول التي كانت ترغب في السيطرة على الصومال.
يسرد "فايق" أحد المواقف التي قامت بها مصر لدعم الصومال فيما بعد، وذلك حينما حاولت الشركات الايطالية الضغط على رئيس الوزراء الصومالي عبدالرشيد الشرماركي من خلال امتناعها عن شراء الموز، وهو المحصول الأساسي والأكبر للصومال، ساعها قرر ناصر أن يشتري محصول الموز من السودان ليحرر الصومال من الضغوطات، وفكر أن يوجه محصول بلاده للتصدير، وفي الوقت نفسه كان يفكر في عودة الشركات الإيطالية للتفاوض مع الصومال لإبطال الصفقة المصرية وهو ما حدث فعلا بمجرد إعلان مصر استعدادها لشراء المحصول.
كينيا ودعم ثورة الماوماو
واجهت كينيا بطش وعنف بالغ للغاية من المستعمر الإنجليزي، حيث قام بطرد قبائل الكيكويو والمساي من أرضهم ليعيشوا في أحياء فقيرة وقذرة، لذا اشتعلت ثورتهم بقيادة حركة الماوماو، الذين تضرروا من التهجير وعانوا من الحياة في مناطق أشبه بالمستودعات البشرية جعلت منهم عبيدا في خدمة الرجل الأبيض الذي يمتلك الأرض.
سجل "فايق" في كتابه الخسائر المرعبة التي وقعت جراء تلك الثورة من واقع الإحصائيات الإنجليزية، حيث بلغ إجمالي الخسائر المعلنة في يناير 1955 قرابة 7800 قتيل من أفراد الماوماو، و791 محكوم بالإعدام ونفذ فيهم الحكم، و7 آلاف معتقل، وتحطيم 150 ألف كوخ من أكواخهم.
يعرض "فايق" موقف الجانب المصري موضحًا أنها تبنت قضية كينيا وقامت بحملة إعلامية ودبلوماسية ضد الأعمال الوحشية، وخصصت إذاعة ناطقة باللغة السواحلية باسم "صوت أفريقيا" هاجمت فيها الاستعمار وكشفت خططه، قدمت لهم الاخبار الدقيقة، وعزفت لهم الأناشيد الحماسية باللغة السواحلية، وجعلت مصر من قضية الماوماو والإفراج عن الزعيم الكيني جومو كينياتا قضية أفريقيا كلها، وجعلت الإفراج عنه مطلبا على مستوى القارة.. وتم توثيق الصلة بين البلدين، وفتحت مصر مكاتب للأحزاب الكينية كما حرص ناصر على استقبال الزعماء الوطنيين منهم عند زيارة القاهرة.
الجزائر
ساندت مصر الثورة الجزائرية حيث أدى نجاحها إلى فتح أبواب الاتصال بيننا وبين حركات التحرر والتنظيمات الثورية في أفريقيا الفرنسية التي لجأ كثير من زعمائها إلى القاهرة للحصول على تأييد جمال عبد الناصر، بعد أن عرفوا دور مصر في مساعدة الثورة الجزائرية ومن أمثال هؤلاء زعيم حزب اتحاد شعب الكاميرون والزعيم الصومالي محمود حربي وجيبو بكاري زعيم سوابا في النيجر وغيرهم.
الإذاعات
لعبت مصر دورا كبيرا في مجال توجيه إذاعات ناطقة بعدد من اللغات المنتشرة في أرجاء القارة الأفريقية، كشفت من خلالها خطط المستعمر ومناوراته، ونقلت لهم الأخبار الدقيقة والسريعة، كما عزفت لهم الأغاني المحلية الحماسية، وكان ذلك عقب نجاح إذاعة "صوت أفريقيا".
ووفق كتاب "عبد الناصر والثورة الأفريقية" فإن مصر كانت تذيع إلى غرب أفريقيا بلغات الهوسا واليوربا والبامبرا والولوف، وإلى وسط أفريقيا بلغت النيانجا والشونا والسندبيلي واللنجالا، وإلى جنوب أفريقيا بلغة الزولو، وإلى شرق أفريقيا بالصومالية والتجرينية، وغيرها من لغات ولهجات أفريقيا علاوة على اللغات المستخدمة رسميًا في عدة مناطق وهي الانجليزية والفرنسية والبرتغالية والاسبانية والعربية.
الخبراء والقروض
لم تتخلى مصر أثناء عهد الزعيم عبد الناصر عن هذه الدول التي حصلت على الاستقلال، حيث تعرضت لمواقف وضغوطات المستعمر، من هذه الدول غينيا الاستوائية التي تعرضت لسحب الأطباء والخبراء الأسبان بعد خروج الأخيرة منها، فتدخلت مصر وأعلنت عن توفيرها الأعداد المطلوبة من أطباء وخبراء لغينيا.
وعندما وقعت الحرب الأهلية في نيجيريا أرسلت مصر قرابة 300 طبيب مصري للعمل مع الحكومة بعد أن تركها الأوربيون أثناء هذه الحرب.
كما قدمت مصر القروض لعدد من الدول الأفريقية وخاصة الدول الصديقة التي رفضت التعامل مع إسرائيل مثل غينيا التي حصلت على قرض من مصر قيمته 10 ملايين جنيه بموجب اتفاقية بين البلدين بمقتضاها تنفذ مصر بعض المشروعات الانشائية.
وعقدت مصر اتفاقية مع مالي تحصل الأخيرة بموجبها على قرض في حدود 6 ملايين من الجنيهات تنفذ في إقامة فندق عالمي في مدينة بماكو العاصمة وفي رصف طريق، وقد أبدى عبد الناصر تحفظه على هذه الاتفاق لأنه فضل إقامة مشروعات إنتاجية بدلا من الفندق لكن جانب مالي أصر على وجود الفندق لأن وجوده في عاصمتها ضروري لعقد المؤتمرات واستضافة الوفود حيث كانت مدينة بماكو تفتقر إلى أي مكان مناسب.