تجمع الكاتبة نورا صادق في إصدارها الحديث "من قراءات أبي" عددًا كبيرًا من المختارات الأدبية القصيرة في عبارتها، والسريعة في نقل خبراتها وتجاربها، والمبوبة في الأخلاق والحكمة والصداقة ودرر الكلام إلى جانب الطرائف والألغاز، جامعًا بين المعرفة والتسلية في آن، كما أن المعلومة تأتي مُغلفة في مقولات رشيقة وأدبية لكبار الأدباء والشعراء والصحابة والتابعين وصولا لعدد من أدباء العصر الحديث.
تكشف "صادق" أن الفضل في جمع هذا الكتاب يعود إلي أبيها، الذي اعتاد تدوين أجمل ما قيل في الفضائل وتهذيب النفوس في "أجندة"، حيث قامت الابنة بجمع المقولات والمأثورات المدونة، ثم رتبتها وكتبت لها المداخل والعناوين كي تسهل على القراء مطالعة قراءات الأب.
بدأت المؤلفة كتابها بالحديث عن التربية وغرس القيم الأخلاقية في الأبناء، وتابعت بجواهر الكلام –حسب وصفها- في الحكمة، ثم حديث عن الصداقة والأصدقاء، وفصل في درر الكلام البليغ، ومختارات عن الجد والمثابرة، واختتمت الكتاب بجزء من الطرافة والتسلية.
الأخلاق
استهلت "صادق" كتابها بالمختارات الأدبية التراثية التي تدور في فلك حسن الخلق، وأرجعت السبب في ذلك لثلاث نقاط في غاية الأهمية: أولها دعوة الأديان جميعا للفضائل والأخلاق، وثانيها حرص الأسرة متمثلة في الآباء والأمهات على غرس الصفات الأخلاقية في الأبناء، وثالثها الإرث الكبير الذي نتمتع به في تراثنا العربي حيث التنافس المحتدم بين الأدباء والشعراء في الحديث عن الأخلاق.
وربما تؤمن مؤلفة "القراءات" أن الإلزام الخلقي يبدأ من الدين، لأنه القادر على توجيه أتباعه صوب الفضائل، ولديه في الوقت نفسه منظومة متكاملة من الثواب والعقاب، ونحن نؤمن أن جوهر الأديان يكاد يكون واحدًا، والمتأمل للمنظومة التربوية والأخلاقية التي تنشرها الأديان، يجد حقيقتها تدعو للخير وتحث عليه، وتنتصر للمظلوم، وتنحاز لقيم العدل والجمال، وفي مجموعها تبحث عن الخلاص من شرور النفس، والبراءة من الخطايا يوم مواجهة الرب.
أشارت "صادق" إلى دور محاسن الأخلاق في تعزيز المودة، ودوام الاتصال بين الناس، وتوسعة الرزق، وفي المقابل فإن سوء الخلق يوجب التباعد ويزرع الكراهية، كما يوجد التكبر، ويتسبب في ضياع الأرزاق.
جمعت في باب الأخلاق مجموعة من المأثورات البليغة، بدأت بالقرآن الكريم والحديث النبوي، وانتبهت إلى كلام الصحابة فنقلت عن الأشعث بن قيس تحذيره مما يوجب الاعتذار والخجل، فإنه لا يُعتذر إلا من ذنب ولا يُستحى إلا من قبيح. وعن الإمام علي بن أبي طالب الذي يرى الجمال في العلم والأدب. كما نقلت عن إمام التابعين الحسن البصري المشهور بالزهد، حيث يوصي بالتواضع، وإدراك ما للآخرين من معروف وأيادي بيضاء. ومن الشعراء صالح بن عبدالقدوس، الشاعر العباسي الذي اتصف بالزهد، وشاعت الحكمة والموعظة في أبيات قصائده.
ودارت المختارات حول التواضع، والنزاهة في الخصومة، والمروءة، وصيانة النفس، وتجنب النفاق والمنافقين، والجود والكرم، وآداب الكلام وتهذيب النفوس، والبشاشة، والاعتراف بالخطأ، وعيادة المريض، وحفظ اللسان، وتحية الضيف، والوفاء بالوعد، والمزاح واللين والرفق، وأيضا الصمت، وبر الأهل وعدم الانشغال بعيوب الناس.
الحكمة
في باب الحكمة يبدو أن الأب تأثر بشكل مباشر بالجوانب الأدبية أكثر مما تأثر بمعالجة الحكمة فنيًا وبشكل متخصص، حيث جاءت المختارات مركزة على المقولات البلاغية الواردة عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، والإمام الشافعي وابن القيم، إلى جانب الشعراء أمثال المتنبي وأبي تمام وأبي فراس الحمداني، ومن أدباء العصر الحديث لطفي المنفلوطي والشاعر محمود سامي البارودي.
لم تلجأ القراءات إلى الفلاسفة الذين عالجوا موضوع الحكمة، رغم ما جاء منسوبًا لأفلاطون أو أرسطو الذي سُئل عن الحسد، وهو ما يثير الشكوك حول المنقولات العربية المجهولة لفلاسفة اليونان القدماء، أو لأحد الحكماء المجهولين، أو لأعرابي غير معروف أيضا، أو المأثورات المنسوبة للقمان الحكيم، بينما تجاهلت القراءة الفارابي والكندي وابن رشد وابن طفيل.
واهتم ابن سينا بالحكمة حيث أخذت -وفقًا لرسالة الطبيعيات في كتاب "عيون الحكمة"- دور استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة البشرية. في حين لفتت "صادق" إلى دور الصناعة اللغوية والبلاغية في تغليف القول الحكيم، حينما رأت أن الحكمة هي "قول موجز صائب الفكرة دقيق التعبير" بينما لم تغفل دور الخبرة البشرية في كمال المقولات وواقعيتها.
وفي الباب، تجذب الانتباه رؤى الجاحظ، ففي البداية يشدد على معرفة أشباه الأمور وأقدارها ليتمكن الإنسان من معرفة حقيقة الأمر وعواقبه، كما يلمح في مقولته إلى فكرة "بالأضداد تُعرف الأشياء"، فالحق يمتاز بمعرفة الباطل، والخطأ يظهر بوضوح الصواب ومعرفته أيضا، وفي كلمة أخرى له ينصح بـ"المشورة" لأنها لقاح العقول، كما وصفها بالتدبير الحازم.
ودارت القراءات في الحكمة حول: الصمت والكلام، وميزان الأمور بمعرفة أضدادها، وكمال الإنسان، وأهمية العقل، وأصناف الناس، والفرق بين العلم والمال والشرف، توجيه النصائح والأخذ بالمشورة، والبصيرة، واتخاذ الكتاب صديقًا، وتحديد أوصاف الكتب، فهي جليس لا نمل حديثه، ولبيب له عقل مفيد، لا تتصف بسوء العشرة، ولا يخاف المرء منها بطشًا.
كما دارت حول الحزم والكتمان والسعادة، وتربية الأبناء، وطلب العلم، والفرار من الجهل ومن الأحمق، وعن الصحة والعافية، وعن السفر، والنوم.
المثابرة والعمل
تنتقل "صادق" إلى ضرورة العمل والمثابرة، ودورهما في تحقيق الأهداف والطموحات والأعمال العظيمة، حيث ركزت على أهمية الثبات والصبر، وأن الإنسان ابن سعيه وجريه في الحياة، وأشارت إلى الصدق في العمل، وسوء العجز وقلة الحيلة، وأهمية الإرادة والعزيمة، والتحرك في طلب الرزق، في الصمود والتفاؤل.
وحفل هذا الباب بعدد من أدباء وكتاب العصر الحديث، فمنهم: الشاعر إيليا أبو ماضي، ومصطفى صادق الرافعي، وتوفيق الحكيم، ومن الغربيين نيتشه وشكسبير.
الصداقة
"الصديق ثروة حقيقية"؛ هكذا تبدأ المؤلفة هذا الباب، فتصف الصديق بالثروة والكنز، وتؤكد اشتقاق المفردة من الصدق المقابل للكذب، كما أن الصديق علامة لصديقه ومرآة أيضا، وفي المختارات ركزت على علامات الصديق، وطريقة اختياره، وطلب الصديق، وأنواعه فهناك الصديق الوفي، وصديق اليسر أي صديق الأحوال الحسنة، فلما تسوء أحوالك تبحث عنه فلا تجده، وتحدثت عن عتاب الصديق، وفي الصفح عنه، ولقاء الزوار والأصدقاء، والفرق بين العداوة والصداقة.
وأردفت بفصل صغير جمعت فيه مختارات من درر الكلام، وهي مقولات بليغة لا يتجاوز حجمها السطر، وتدور في أفق الموضوعات الفرعية مثل الكسل وتغير الزمن وأهمية الوحدة، ومساوئ المدح، ومعنى الإحسان، والفرق بين الصحة والمرض من طعم الفم، وضرورة تربية الأبناء وإحسان الأدب فيهم.
طرائف وألغاز
تختتم مؤلفة القراءات كتابها بمختارات من الطرائف والحكايات النوادر، التي تعتمد على المفارقات المضحكة، والفقرات الصغيرة، ومنها المرويات عن الخلفاء والحكام مثل عمر بن الخطاب وعبدالملك بن مروان، ومنها أصحاب الحكايات الطريفة في التراث أمثال جحا وقصص البخلاء، وبعض ما قيل عن المرأة، وبعض المعلومات النادرة مثل استخراج العنبر من أمعاء حوت، وتمكن علماء السوفييت في العام 1959 من تصوير الوجه الآخر للقمر، وأن المسجد الأموي في دمشق أول من بُنيت له مئذنة، وسبب تقسيم الأسبوع إلى سبعة أيام، كما ذكرت أسماء أصوات الحيوانات، وأسماء أصوات الجمادات، وحددت أسماء الأطعمة حسب أوقاتها في الإسلام، فالوليمة طعام العرس، والعقيقة طعام المولود، والقِرَى طعام الضيوف، وغير ذلك، واختتمت الكتاب بعدد من الألغاز دون أن تنسى وضع إجابات لها.
مؤلفات الجمع والمختارات
عدم توثيق أسماء المؤلفات التراثية التي كانت محط قراءات الأب يعطى خللا كبيرًا في تمام الكتاب، فمثلما تكشف المختارات عن الأشياء الضرورية والملحة التي يفتقدها الأب ويستعذب اختيارها وتوجيه الأبناء له، فإن العد الضخم من المؤلفات التي بالتأكيد اعتمد عليها في تكوين مختاراته ستكون مؤلفة من "خزانة الأدب" للبغدادي أو "العقد الفريد" لابن عبدربه، وقراءة المبرد صاحب الكامل الذي جمع في كتابه مجموعة هائلة من الحكم والأحاديث النبوية والخطب والرسائل وأبيات الشعر ليستخلص منها دررا لغوية بلاغية وصرفية ونحوية، فهو أحد أعمدة أربعة من المؤلفات التراثية، إلى جانب "البيان والتبيين" للجاحظ، و"أدب الكاتب" لابن قتيبة، و"الأمالي" لأبي علي القالي، والتي وصفت بأنها مؤسسة وأصول في الأدب والباقي عليها فروع.
فلو تمكنت الكاتبة من عرض المؤلفات التي استند عليها الأب في القراءة مثل حرصها على توثيق بعض الأحاديث وآيات القرآن لفتحت أمام القارئ بابًا يستعيد من خلاله التعرف على أهم المصادر المعرفية والأدبية في تراثنا العربي.
في النهاية فإن القارئ سوف يحقق قراءة ممتعة من خلال هذه الجموع من المقولات البليغة والأديبة، حيث سيطالع عددا من الأسماء الأعلام التي لها باع طويل في إعطاء الحكمة، وتوجيه النصائح، وبذل الوصايا لأبنائهم، كما تتصف هذه المختارات بالقصر المناسب، والعبارات دقيقة المعنى، التي يسهل للقارئ أن يعود إليها من وقت للآخر.