تجسد رواية "كتاب الحياة" للأديب الصيني لي باي فو، تركيبًا محكمًا لعناصر العمل الروائي الثلاثة الرئيسية، الشخصيات والزمان والمكان، وهي من أهم الأعمال الروائية التي تقدم سردًا بانوراميًا لذلك التناقض بين القرية والمدينة وما بينهما من تفاعلات وطموحات وأحلام، شكلت الأحداث وتفاعلات شخصياتها. الرواية التي حاز عنها لي باي فو على جائزة ماودون للأدب، وهي أرفع جائزة أدبية في الصين، وقدمت الترجمة العربية لها، المترجمة آلاء إبراهيم، تتناول جوانب قاسية في الشخصية الإنسانية، أبرزها المكاسب في مقابل الخسائر، والمادة في مقابل الروح، غير أنها، في النهاية، تنتصر لنسيج الروح الذي صمد في وجه الاختبارات والاضطرابات العنيفة.
جاء كل هذا وسط العديد من الألعاب السردية؛ مثل أن يكتشف القارئ مصائر بعض الشخصيات في أول الرواية لا في نهايتها، وعلى الرغم من أن ذلك يعد -عادةً- قتلًا لعنصر التشويق بالرواية، لكنه صار أحد عوامل التشويق في البناء السردي، فلم يعد القارئ منشغلا بالمصير بقدر ما صار منشغلًا بكيف ستصل الشخصية إلى هذا المصير.
الرواية، التي صدرت ترجمتها العربية عن بيت الحكمة، تقع في 680 صفحة من القطع المتوسط، ليست مجرد رحلة لفتى ريفي استطاع أن يُثبّت أقدامه في المدينة، بل رحلة حياة كاملة، خرج صاحبها من أحلك المآسي حتى صار اسمًا كبيرًا في مجاله وبين محيطيه، يتفاخر به أهل قريته، واجه الكثير وعرف الأكثر، حيث ينتقل الفتى الريفي إلى المدينة، الموضع الذي يُجسّد أحلامه، والتي كانت تملك من الوفرة والدفء ما يغنيه عن الملابس الثقيلة في ليلته الأولى الباردة، حتى أنه رأى كل مصباح في الطريق الأسفلتي المُغطى بالثلوج وكأنه منارة تُضيء طريقه نحو مستقبل أفضل. وعلى الرغم من سعيه الحثيث إلى الابتعاد عن قريته التي هي بمثابة ثلاثة آلاف فم لا تكف عن الثرثرة، وستة آلاف عين هم مجمل أهل قريته البسيطة؛ فإن هؤلاء البسطاء اعتبروه سفيرهم إلى العالم المتحضر. وفي ربط لحياته السابقة بحياته الجديدة، يجد القارئ تشريحًا دقيقًا للمجتمع الصيني في الريف والمدن؛ عبر تقديمه شخصيات من أهل القرية أثّرت في حياة "ديو" الذي صار فيما بعد "المدير وو"، وكيف كانت تُعامل هذا الفتى اليتيم الذي صار أستاذًا جامعيًا، ثم رجل أعمال كبير. عبر هذه الشخصيات يبرز تنظيم وتغلغل الحزب الشيوعي الصيني في أصغر وأبسط الأماكن، ومدى السلطة التي يتمتع بها المنتمين للحزب، والرهبة التي يتعامل بها الفلاحون معهم.
هؤلاء الفلاحون وأهالي البلدات الصغيرة أنفسهم، ككل القرويون في أنحاء العلم، لا يُمانعون ارتكاب النقائص أو "العيب" الاجتماعي بشرط ألا يُمسكهم أحد متلبسين.
أمّا المدينة، فيقدمها لي باي فو مُبرزًا قسوتها رغم أضوائها المُبهرة ولافتاتها اللامعة، والتي عاش بطله في كل مستوياتها، بداية من جُحر حقير زاملَ فيه مجموعة من الحالمين، واضطر فيه لكتابة روايات جنسية باسم مستعار لتدر له ربحًا ضئيلًا، حتى صار رجل أعمال ودخل سوق تداول الأسهم، وهي الأعمال التي استخدم فيها أيضًا الكثير من الطرق المشروعة وغير المشروعة من أجل الحفاظ على جني الأرباح، حتى بعدما أدى هذا الطريق إلى انتحار شريكه وأقرب أصدقائه.