الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

"سكاكر حارة".. لحظات ما قبل اصطياد الحرية

ولادة جديدة ومخاض مؤلم

غلاف سكاكر حارة
غلاف سكاكر حارة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تأخذ المجموعة القصصية "سكاكر حارة" الصادرة حديثا للكاتبة حنان الخولي، ركيزتها على المنطقة المتعلقة بالحرية، وكسر القيود، والسعي باستمرار لتحقيق الذات، وإدراك قيم الحب والجمال، وملامسة مناطق الضعف الإنساني.

تطرح تجربة "الخولي" مجموعة من الشخصيات المتشابهة، والكادحة في طريق التمرد والإفلات من أسر التقاليد المجتمعية الصارمة والمنغلقة، باستثناء عدد قليل جدًا من الشخصيات التي تدور في أفكار فرعية متعلقة بالجوانب الإنسانية كالنسيان المرضي، أو الزمن الذي يُحيل نجمة أحد أماكن السهر إلى التقاعد، أو قسوة المجتمع الذي يبالغ في إذلال امرأة مطاردة بنظرات الجار خلال ثقوب الدار.

تخلق مؤلفة السكاكر مغامرتها الفنية من خلال عدد من التفاصيل الصغيرة الكاشفة عن حجم المآسي التي تعانيها بطلات القصص، في لغة سلسة ومتدفقة، يصعب الحكم عليها أنها العمل القصصي الأول للمؤلفة.

الخوف.. الركض بالوشاح الأسود

تدرك شخصيات القصص أن السعي في سبيل الحرية يحتاج لبذل ثمن باهظ، فالعيش وفق رغباتنا وتفكيرنا لن يكون عن طريق المنحة أو الهدية، لكنها تُنتزع من بين أنياب قوة مسيطرة عليها ربما تكون هذه القوة هي الأم بشخصيتها التقليدية أو الزوج السادي، حيث يلاحظ القارئ أن الحصول على الحرية تلزمه الحركة صوبها، وتحمل الآلام في سبيلها.

من المنطقي أن تصطدم حركة الشخصية صوب حريتها بعدد لا متناهي من المعتقدات والتقاليد الصارمة التي عادة ما تنجح في كسر تمردنا وقمع انتفاضتنا، فالأم مثلا تبث في ابنتها عدد من المبادئ التي تستغربها الفتاة وبدورها تعمل ضدها، فهي لم تصدق أن عمل المرأة انتقاص من قدر الرجل، ولا أن الحب وهم ولا يتحقق إلا بعد الزواج، إلى جانب رفضها الخضوع والانكسار للزوج، وقبله فهي تحمل قدرًا كبيرًا من الكراهية تجاه حادثة الختان، التي لم تقلل من رهبتها أن تشاهد الفتاة بعد أيام قليلة جثة مطروحة على الطريق.

في بيئة القصص، تشيع حالة من الخوف من الحرية، لذا يستمر التشديد على الالتزام بالتقاليد المحدودة بمنطق البداوة والقبيلة رغم تجاوز العصر لهذه المرحلة، فالأم نلاحظها مضطربة لأنها تخشى مشاعر الحب لدى طفلتها وترغب أن تظل الفتاة محبوسة في جسد طفلة لا تعبر إلى مرحلة النضوج، خوف تحركه الفضيحة والعار. وفي قصة "مرواس" نجد أهل القرية يجتمعون على الغريب ويحطمون آلته ويقتلونه؛ لأنه شجع الأطفال ومن بعدهم النساء على الرقص وإظهار سيقانهن، فالخوف من تغيير الأوضاع وتعكير الأمزجة التي استقرت دفعهم لتحطيم الرجل وآلته، وفي نهاية القصة نلمس مشاعر الفتاة الصغيرة في التحرر من الأوشحة السوداء، لكنه عندما أتيح لها ذلك ركضت هاربة متمسكة بالوشاح الأسود.

حالم ومتمرد.. في حقيبته صورة مع جناحين

تحوي القصص على صورتين من التدريب على الحرية: الأولى رد الفعل الذي يمكن وصفه بالتمرد والعناد، والثانية الأفعال الرمزية الدالة على النزوع ناحية الجموح والانطلاق ناحية الأفق الرحب.

من النماذج الأولى، رد فعل الزوجة أثناء محاولة الزوج امتهان جسدها وإذلالها، ساعتها ترسل له رسالة فحواها أنه ليس رجلا، أما رفضها تناول قهوتها المضبوط مستبدلة إياها بالسادة مؤكدة أن كل عادتها تغيرت، فاستبدال العادات القديمة يأتي كاشفًا عن رغبتها في تدشين حياة جديدة متخلصة من متعلقات الماضي، فهي لا تؤمن ولا تثق إلا بذاتها، فهي تؤكد لحبيبها أن انتقاله في قصص عشوائية محاولة منه للبحث عنها. 

تواصل تمردها فتفضل الهروب من الشروط والقيود وكأنها طفلة في عمر المراهقة تفر من المدرسة لتقضي يومًا مُختلسًا، وفي الوقت نفسه لا تترك الرجل يستبيحها بل تجعل من نفسها لغزًا يصعب عليه فهمه، تقص شعرها وتعلن أن المرأة ذات الشعر القصير لغز يصعب على رجال الشرق فهمه، حيث ترغب في غلق صفحات كتابها أمام الرجل الذي تستحوذ عليه النظرة الشرقية التقليدية.

الأفعال المتمردة من شخصيات القصص تأتي كمحاولة للسعي في النهاية لتحقيق ولادة جديدة، وهو ما تؤكده "الخولي" في قصة "غرفة بلا نوافذ" عندما تقول البطلة: أغرق أرضية الغرفة بماء ولادتي من جديد.. فهو التطلع نحو حياة جديدة وولادة جديدة يمكن من بعدها العيش بسلام وحرية.

ومن نماذج الصورة الثانية، ما نجده عند بطل قصة "برواز" الذي يحرر الصور من البراويز ويتركها متناثرة، ولا يضع في حقيبة السفر غير صورته مع الجناحين، وهو ما يشير نحو التخلص من قيود البرواز وتحرير الأجنحة.

من الأمثلة أيضا: البحث عن نافذة في حجرة مغلقة، لدرجة اعتبار المرآة نافذة ينبعث منها ضوء القمر فتفتح له صدرها. الاستلقاء في أرضية الحجرة وفتح أزرار القميص لوهج الشمس. اختيار سكن الطوابق العليا رغم فوبيا الأماكن المرتفعة. الرغبة منذ الصغر في التحرر من الحذاء لكونه قيود تعصب السير وتعوقه، ما يعادل رغبة في الاحتماء بالطبيعة والعودة للحياة البسيطة أو الحنين لمرحلة طفولة مفتقدة.

في قصة "الطفلة الباكية" نطالع الأم التي تواصل زينتها مع صوت طفلتها الباكية، لكنها تمارس هذا تحت ضغوط توفير الطعام والمسكن لهما، أي أن الحياة أيضا لها ثمن يحب أن نبذله حتى لو من حساب ما نكره، وربما حاولت الكاتبة مراوغتنا لأن الشخصية تقف حائرة ما بين الرغبة في إسكات الطفلة، وهي رمز للذات، وبين النزول للعمل لسد متطلبات الحياة، وهذا نوع من القيود تعرضه القصص.

الحب.. متى نقع فريسة الضعف والخذلان؟

من المفارقات المدهشة التي صنعتها القصص أنها خلقت شخصية امرأة قوية، ناقمة على حالات الخنوع والانكسار، ترغب في تغيير حياتها والتخلص من ماضيها المأزوم، وتحقيق نوع من الولادة المجازية، لتصبح قوية ومتمردة ومشاغبة، تتلاعب بلافتة "ممنوع"، تختار قصة شعرها لتجذ أحلام الرجال وهوسهم بامرأة ذات شعر طويل يسهل معها ممارسة رغباتهم في تشكيل الأنثى، فهي أنثى لا تحب أن يشكلها ويصوغ وجودها رجل، أنثى تذبح أحلام الرجال فتقص شعرها، تختار لنفسها ثقافة خاصة في الحياة وفي طريقة التعامل مع الآخرين.

لكنها في الوقت نفسه هشة وضعيفة، لا تكاد تسند ذاتها من هشاشة الحقيقة المفتوحة صوب الحب والعاطفة، فهي أمام "عقب أخيل" أو نقطة الضعف الكارثية في حياتها، فمن المفارقات المدهشة أنك تجد هذه المرأة القوية والمثيرة للاكتشاف امرأة في غاية الضعف والخذلان والأسى.. ولكن، متى تقع هذه المرأة القوية فريسة الضعف؟ والإجابة عندما تحب وتعشق..

يدرك القارئ أن الحب هو الوحيد القادر على سحق تمردها وقوتها، ويمكن ملاحظة ذلك في اليوميات التي تمت كتابتها في أيام الحظر، فهي تكتب الرسائل وتبالغ في التوسل كي يرد. نلاحظه أيضا في قصة "محطة للوصول" عندما ينهمك الرجل في هاتفة ولا يشعر بغيابها لأنها نزلت قبل محطتها، ففي الأوقات السابقة بالغت أيضا في لفت انتباهه.

شخصيات درامية

الشخصيات المتقابلة والمتناقضة صنعت حالة درامية مهمة داخل القصص، فشخصية الأم التي تبث الفزع والخوف في بنتها من الحب ومن الطلاق ومن العمل، تمثل صورة صادقة لتقاليد المجتمع المجحفة، نجد في مقابلها الأم في قصة "صوفيا" والتي تحاول بلورة فلسفة خاصة بها لتهيئة جو مناسب كي تتمكن طفلتها من النضوج بشكل متصالح مع فكرها وعقلها وجسدها، ونجد مثال الأم المستعارة التي كانت أمًا لغير طفلتها، والأم المستترة التي حاولت استرداد بنتها لكنها تفشل.

صورة الرجل أيضا متنوعة ففي "ملكية خاصة" نجد الرجل الذي يسحق زوجته ويماطل في الانفصال عنها بل ويهددها، وتنجح هي في طلب الخلع، في المقابل صورة الرجل المتحرر من الروتين والقيود، والشاب الذي يحرر صوره من البراويز.. وهكذا، فإن التقابل بين الشخصيات يعطي لبيئة القصص أنفاس الحياة ولأحداثها نوعًا من الدرامية والحركة. 

التجربة والبدايات

وقعت قصص "السكاكر" في عدد من أخطاء البدايات يسهل تجاوزها في التجربة المقبلة، أولها أنها رغم اعتمادها لغة متدفقة وسلسلة في الحكي فهي تعاني اضطرابًا في كثير من الجمل والتراكيب، كما أن رغبتها في التشديد على وصول المعنى جعل منها شخصية لحوحة، لا تكتفي بانتهاء الأحداث، فيساورها شك في وصول المعنى فتسارع بوضع تعليقات يمكن وصفها بـ"الحكمة" أو "الخلاصة" وهو ما يدخلها في باب الوعظ السخيف، فالتدخل المباشر من الكاتبة يثير الريبة والقلق لدى المتلقي في أن المؤلف يشك في قدرته على استنباط مثل هذه الرؤى والأفكار.

في القصص أيضا، ليس من المنطق –في ظني- أن تسترسل الأم في الكشف عن حقيقتها لأول مرة أمام طفلتها بكل هذا الوضوح والجرأة في قصة "مرواس"، كما أن بعض القصص انزلقت لتقترب من الخواطر الشخصية كما في قصة "جذور عارية"، إلى جانب عدم اهتمام الكاتبة بتقنيات القصة أو محاولة التجديد والتجريب فيها، بينما استسهلت ولجأت للحكي والسرد دون اللعب على التقنيات المختلفة التي تراوغ المتلقي الذي يحب صناعة الحيل والخدع في تقديم الحدث فنيًا. 

الضعف الإنساني

طرحت مؤلفة السكاكر عددا من النماذج القريبة والمتشابهة، لكنها في النهاية ركزت على الضعف الإنساني الذي يظهر أثناء الحب، حيث نجد رجلا يعطي فندقه لامرأة أفضى إليها، وامرأة قوية تبالغ في توسلها لرجل كي يرد على رسائلها.

ويتغير الزمن فيستبدل ملامحنا، كما في قصة "ليليتو" المرأة العجوز التي تدخن سيجارتها على باب الحانة، وهى ترثى مرور الزمن وتغيراته لتتبدل الأماكن وتصبح هي بالخارج بعدما كانت سيدة الداخل، وفي قصة "استغماية" يقسو الزمن على ذاكرتنا فيصيبنا بالنسيان، وفي "الطفلة الباكية" يسحق المجتمع المرأة فلا تجد وسيلة نظيفة لتأمين لقمة عيشها أو ثمن مسكنها.

في النهاية فإن قصص حنان الخولي قدمت تجربة فنية خاصة اقتربت من مناطق الضعف الإنساني، وانتصرت لتحرر شخوصها من تقاليد المجتمع، إلى جانب رهافة الحس تجاه عاطفة الحب، القادر وحده على سحق قوة وتمرد المرأة بالأساس، كما نجحت في تأطير الشخصيات المتقابلة والمتناقضة، ومعالجة الشخصيات الحالمة التي تفتح صدرها لضوء الشمس، وتسكن الطوابق العالية، وتبحث عن النوافذ بشجاعة وجرأة.

217
217