الجمعة 24 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

كتبها الرافعي في "وحي القلم".. قصص خراف تنتظر الذبح

الفداء والتضحية معان شريفة يستدعيها العيد

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فى كتابه"وحي القلم" حكى الأديب مصطفى صادق الرافعى، قصة خيالية عن خروفين قضيا الليل فى انتظار الإنسان الذى يضحى عليهما صبيحة عيد الأضحى المبارك، حيث كانت هذه القصة المتخيلة بدافع وطلب من نجله الصغير الذى كان يبلغ من العمر آنذاك ثلاثة عشر عامًا. 

نقلت القصة فى جوانبها عددا من الحكايات الدينية التراثية التى دارت حول الخروف الذى قدمه هابيل ابن آدم عليه السلام، وحول الكبش الذى افتدى به الله إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، إلى جانب حكايات خيالية عن نسل أحد خراف الضحية.

ووفق الحكاية أنه اجتمع لعيد الضحية خروفان أحدهما كبش كبير، تكونت لديه حكمة جمعها من أجداه ومن تجابه عبر الزمن، بينما الآخر جذع صغير أكمل حوله الأول بالكاد، فهو لا يدرى

وتقول حكاية الرافعى: اجتمع ليلة الأضحى خروفان من أضاحى العيد، ولأن الصغير يشعر بالوحدة والوحشة ظل يبكى ويصرخ، كان "يثغو لا ينقطع ثُغاؤه؛ فقد أُخذ من قطيعه انتزاعًا فأحس الوحشة، وتنبهت فيه غريزة الخوف من الذئب، فزادته إلى الوحشة قلقًا واضطرابًا؛ وكان لا يستطيع أن يَنْفَلِتَ، فهو كأنما يهرب في الصوت ويعدو فيه عَدْوًا".

فلما أدبر النهار وأقبل الليل، جىء للخروفين بالكلأ من هذا البرسيم يعتلفانه، فأحسَّ الكبش أن فى الكلأ شيئًا لم يدرِ ما هو، وانقبضت نفسه لِمَا كانت تنبسط إليه من قبل، وعرته كآبة من روحه، كأنما أدركت هذه الروح أنه آخر رزقه على الأرض، فانكسر وظهر على وجهه معنى الذبح قبل أن يُذبح، وعاف أن يَطْعَم، ورجع كأوَّل فطامه عن أمه لا يعرف كيف يأكل، ولا يتناول من أكله إلا أدنى تناول.

وشعر الشبل الصغير بما لدى رفيقه الكبير من الكآبة والخوف، فسأله عن مخاوفه، هل تخشى الذئب؟ فرد عليه الكبير قائلا: ليته هو، فأنا لك به لو أنه الذئب؛ إن صوفي هذا دِرع من أظافره، وهو كالشبكة ينشب فيها الظفر ولا يتخلص، ومن قرنى هذين تُرْس ورمح، فأنا واثق من إحراز نفسى فى قتله..

واندهش الصغير من إجابات الكبير الذى لا يخشى العصا ولا الذئب، فقال له الكبش إنه من سلالة عرقة ولها تاريخ فى الشجاعة والإقدام فكيف له أن يخاف الذئب أو العصا؟

وتحدث الكبش عن أجداده القدماء فذكر أنه من نسل الكبش الكبير الذى قدمه هابيل ابن آدم ليتقرب به الى الله، هذا  "الكبش الذي قرَّبه هابيل حين قتل أخاه؛ لتتم البلية على هذه الأرض بدم الإنسان والحيوان معًا.. تقبله الله منه، وأُرسل الكبش إلى الجنة، فبقى يرعى فيها حتى كان اليوم الذي همَّ فيه إبراهيم أن يذبح ابنه تحقيقًا لرؤيا النبوة، وطاعةً لما ابتُلى به من ذلك الامتحان، وليثبت أن المؤمن بالله إذا قَوى إيمانه لم يجزع من أمر الله، ولو جرَّ السكين على عنق ابنه، وهو إنما يجرُّها على ابنه وعلى قلبه!

ثم يحكى للشبل إحدى قصص البطولة لجد قريب من أجداده، استطاع أن يحوذ الفداء لنفسه بأسد، وذلك أن أحدهم جهز خروفًا للذبح، ثم أحضر أسدًا كان رباه منذ صغره ولما كبر بدأ يأكل الخيول التي يربيها صاحبه، فأحب أن يرمى له خروفًا بدلا من الخيل، فأدخل عليه الكبش الذى أعده للذبح، فوقف الاثنان في المواجهة، واحتار الأسد فى تصنيف الخروف، ودخله الرعب من قرنيه الكبيرين، ولم يتردد الكبش فى مهاجمة الأسد وطعنه بقرنيه، ما جعل السبع يتخاذل ويرجع للخلف، فسخر منه صاحبه الذى رباه وأقسم ألا يذبح الكبش الشجاع ويذبح الأسد بدلا منه ويسلخه.

وقال الكبير: "كان لنا فى تاريخ الدنيا إنسانِها وحيوانِها، أثران عظيمان؛ فجدُّنا الأول كان فداء لابن نبى، وجدنا الثاني كان الأسد فداءه!

القصة البطولية هذه أعجبت الشبل الصغير لكنه فى الحقيقة يعرف العود الأخضر، ولا يعرف معنى الذبح والسلخ، ولا السكين والشفرة، وهو ما جعل الكبير يشعر بالشفقة حياله.

قال الصغير للكبش: قلتَ: الذبح، والفداء من الذبح؛ فما الذبح؟ قال الكبش: هذه السُّنة الجارية بعد جدِّنا الأعظم، وهي الباقية آخر الدهر؛ فينبغى لكلٍّ منا أن يكون فداء لابن آدم! قال الصغير: ابن آدم هذا الذى يخدمنا ويحتزُّ لنا الكلأ، ويقدم لنا العلف، ويمشي وراءنا فنسحبه إلى هنا وها هنا؟! تالله ما أظن الدنيا إلا قد انقلبت، أو لا، فأنت يا أخا جَدِّي … قد كبرت وخَرِفْت! قال الكبش: ويحك يا أبله! متى تتحلَّل هذه العقدة التى فى عقلك؟ إنك لو علمت ما أعلم لما اطمأنَّت بك الأرض، ولرجعت من القلق والاضطراب كحبة القمح في غربال يهتز 

وينتفض!

ظل الكبش الكبير يتدبر الحكمة في فتوة الشباب، وحكمة العقل في مع كبار السن، ويتأمل حياة ابن آدم، بينما راح الصغير فى نوم هادئ ومطمئن لأنه يغفل كل ما يحاك له، وكل التجهيزات التى تتم من أجل ذبحه، لكنه رغم معرفته فهو لديه يقين بأن كل كائن حى لا بد له من نهاية.

وعن الحكمة التى تعلمها قال الكبش: لقد كان جدي حكيمًا يوم قال لي: إن الذى يعيش مترقبًا النهاية يعيش مُعِدًّ لها؛ فإن كان معدًّا لها عاش راضيًا بها، فإن عاش راضيًا بها كان عمره فى حاضر مستمر، كأنه فى ساعة واحدة يشهد أولَها ويحس آخرَها، فلا يستطيع الزمن أن ينغص عليه ما دام ينقاد معه وينسجم فيه، غير محاولٍ فى الليل أن يُبعد الصبح، ولا في الصبح أن يبعد الليل. 

ولما يصحو الصغير يحكى لرفيقه الكبش أنه رأى فى منامه، قائلا: إن هذا الإنسان غادٍ علينا بالشفرة البيضاء، ووصفتَ الذبح والسلخ والأكل؛ وأنا الساعة قد نمتُ فرأيت فيما أرى، أننى نطحت ذاك الرجل الذي جاء بنا إلى هنا، وهجتُ به حتى صرعته، ثم إني أخذت الشفرة بأسناني، فثلمْتُه فى نحره حتى ذبحته، ثم افتلَذْتُ منه مُضْغة فلُكْتُها فى فمى؛ فما عرفت والله فيما عرفت لَخَنًا ولا عَفَنًا فى الكلأ هو أقبح مذاقًا منه!

إن الإنسان يستطيب لحمَنا، ويتغذى بنا، ويعيش علينا، فما أسعدنا أن نكون لغيرنا فائدةً وحياة! وإذا كان الفناء سعادة نعطيها من أنفسنا، فهذا الفناء سعادة نأخذها لأنفسنا. وما هلاك الحى لقاء منفعة له أو منفعة منه إلا انطلاق الحقيقة التى جعلته حيًّا، صارت حرة فانطلقت تعمل أفضل أعمالها.

قال الكبير: لقد صدقت والله، ونحن بهذا أعقل وأشرف من الإنسان؛ فإنه يقضى العمر آخذًا لنفسه، متكالبًا على حظها، ولا يعطى منها إلا بالقهر والغلبة والخوف. تعالَ أيها الذابح، تعالَ خذ هذا اللحمَ وهذا الشحمَ، تعالَ أيها الإنسان لنعطيَك، تعالَ أيها الشحاذ..