الثلاثاء 05 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

ننشر الفصل الأول من "رواة الشيخ الجبرتي" للكاتب السيد نجم

الروائي السيد نجم
الروائي السيد نجم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تنشر "البوابة نيوز" الفصل الأول من مخطوط الرواية الجديدة للكاتب والروائي السيد نجم التي حملت عنوان "رواة الشيخ الجبرتي".

أصدر "نجم" من قبل مجموعات قصصية منها: “أوراق مقاتل قديم" و"المصيدة" و"لحظات في زمن التيه"، ومن الروايات صدر له: “أيام يوسف المنسي" و"السمان يهاجر شرقا" و"العتبات الضيقة" و"الروح وما شجاها" و"أشياء عادية فى الميدان".

الفصل الأول

(شرع الجبرتي يدون كراريس تراجم مشايخ الأزهر وأمراء البلاد، وعرضها على شيخه المؤرخ "مرتضى الزبيدي"، الذي لقنه المنهج العلمي. ٳعتمد في ذلك –حسب ما قاله لتلميذه: النقل من أفواه الشيخة والمسنين/ وصكوك دفاتر الكتبة والمباشرين/ وما نقش على أحجار ترب المقبورين/ أمور شاهدناها ثم نسيناها وتذكرناها..)

1- ما رواه الراوي

ما ٳن انتهى اﻹمام من تمام الصلاة، قبل تلاوة الأدعية والذكر المعتادة، ولا حتى أداء ركعتي السنة، تدافع المصلون من ساحة المسجد الصغير ٳلى الخارج هرولة، لم تمنعهم غبشة الفجر وغمامات شبورة شتوية، دفعهم صراخ أحدهم، هو "عزوز" سقا منطقة شبرا، وجدوه رمى القربة ٳلى الأرض وهو المعلق بها حتى أنه يبدو هكذا منحنى الظهر  والرقبة من ثقلها، وٳن كان يسير بدونها، الجديد الآن كان بدونها وهو يلطم الخدين كما النسوة، أمام ذلك الملقى أمامه بلا حركة في سكون غامض!                                         

 تدافع المصلون دفعا غير حذر، في خطوات متسارعة نحو مصدر الصراخ، ليس شفقة عليه، بل لسد باب الحيرة التي غلبت، يعرفون عنه الكثير، مع كل موتاه لم يلطم الخدين، ماذا  حدث.. الفرنساوية وغاروا وبعدهم المماليك وذبحهم الباشا؟ وعزوز لا يهمه غير قربة المياه وسلامتها، عرف تماما كيف يوفر الماء لسكان الحي في زمن الأزمات كلها، ترى ماذا حدث؟

من المهرولين من رفع يده عفوا ينفخ فيها بأنفاس زفيره، لعله يبعث الدفء في كفيه، ومنهم من فضل أن يحك كفيه بقميصه أو جلبابه الأزرق المصنوع من الكتان. في هذا اليوم البارد، تحلو المشروبات الساخنة، وربما أفضلها القرفة عند المعلم "سروجي" أشهر صناع سروج الخيل في شبرا كلها، وربما فى كل الدروب والحواري، وهي عادة بعض المصلين كل فجرية.. حرموا أنفسهم منها، لعلهم يجيبون على الأسئلة الحائرة؟!                                   

 كان المشهد أقسى من أن يتجاهلونه أو يتابعونه، يرمون نظرة عجلة نحو الملقى على الأرض ثم معاودة دخول المسجد! وجدوه شبه عار، فالسروال المشلوح أو المرتفع حتى سرة بطنه المنتفخة قليلا، لا يستره ﺇلا من نصف جسده العلوي.. قدماه بلا مركوب، رأسه بلا عمة ولا حتى غطاء رأس من أى نوع يشير ٳلى مهنته أو بلده، مشعث أغبر وكأنه تمرغ في كومة من الأتربة بلا حرص ولا احتراز. سرعان ما ٳنتبهوا مع دهشتهم الزائدة فور نظرة واحدة ٳلى هناك.. نحو بقعة دموية تحتوي قطعة من اللحم! نحو خط دموي متسربل من موضع عورته العاري!       

فورا تأكد الجميع بوجود عضو المسكين الذكرى ﺇلى جواره ؛ لا أكثر من كتلة لحمية مدممة معتمة.. عتمة لا تخفي بقية المشهد، البدن المتوسط الطول والسمنة معلقا بالسؤال الذي ثار فجأة: "من هذا الشاب الجميل؟".. "هل مات أم ما زال حيا؟".. "هل تعرفونه من سكان شبرا أم غريبا عنها؟".. "من يعرف خبرا عنه يخبر ٳمام المسجد فورا؟!"                          

 بدا الجميل العفي مجهول الاسم والأصل، معلقا من رجله بالساق الخلفية اليمنى لحمار ممتليء، لم يكف على النهيق وكأنه يدعوهم ﻹنقاذ المسكين المعلق به! لعله يستغيث، ولعلة دهشا مما فعلوه فيمن قيدوه به؟! 

 ينال ملمح غضب الله برؤية المشهد الغامض الغريب هذا، لكل من خرج مسرعا من المصلين، كأنه عقاب سماوي لمن لم يتابع ختم صلاته بتلاوة الأدعية والذكر المعتادة، وصلاة الركعتين السنة ثم لعدم سماع الدرس والوعظ من اﻹمام الغاضب لفرار المصلين، هذا ما علق به الامام وهو يتجه نحوهم غاضبا! لعلهم في عجلة من أمرهم، لكل منهم شأن يعنيه، لم تمنعهم برودة الفجرية، وٳن ٳتخذوا من صوت الحمار وصراخ الرجل حجة  للانفلات من طقوس ٳمام المسجد والحاحه على تحذيرهم من دخول النار، بمتابعة الدرس اليومي بعد صلاة الفجر عنوة، الذي يلقية صدقة عن نفسه وأهله ورحمة عن موتاه!

  تعلقوا بالمشهد المثير أكثر، وٳن راود أغلبهم الظن، أن هياج الحمار وصراخ الرجل السقا، بسبب عودة الجنود الفرنسيين، رغم أنهم غاروا عن البلاد منذ سنوات، ومع ذلك كلما جد جديد لا يعرفون مصدره، ينسبونه ٳلى (اللى ما يتسموا) عسكر "كليبر"، يرون فيه الأكثر قسوة من "بونابرت" ومن الذي جاء من بعده "منيو" في قيادة الحمله!                                    

 لم يتزحزح أحدهم ﺇلا خطوات قليلة نحو الحمار، كما لو كان يسعى لسؤاله عما حدث مع ذاك المعلق به؟ المشهد غامض، لعله يشي فقط بجثة قتيل، وﺇلا بماذا يفسرون تلك الكومة اللحمية الحمراء المدممه والمرمية ﺇلى جواره؟ حتي وﺇن كان من اللصوص المحكوم عليهم بالفضيحة، باعتلاء الحمار مقيدا، في اﻹتجاه المعاكس لرأس الحمار! ما زالت الأسئلة بلا ﺇجابة، حتى مع اقتراب اﻹمام وهو القابض بشدة على كرتي العينين بجفونه، لعله يكشف المستور؟! 

استعاذ مع الناس بالله بلا تفكير، يحدقون نحو الملقى هناك، لعلها جثة لقتيل، فضل القتلة القائه ها هنا بجوار المسجد، حتى يسهل التعرف عليه.. وٳلا كان يمكن القائه في مياه بحر النيل، على مقربة من هنا؟! غلب أحدهم الخوف، فضل أن يعدو بعيدا مستغيثا بالله ويسأله الرحمه: "يا رحمن يا لطيف نجنا مما نخاف".. رويدا بدأت تنطلق بشائر أسئلة هادئة متعقلة.. تابع بعضهم تفسير ما يراه وتوقع لمن ينتسب ذلك البدن المعلق بالحمار.. لم يتأكدوا أنه ما زال حيا أم ميتا، تأكدوا فقط من ﺇحكام رباطه بحبل من الكتان الخشن الغليظ..                                 

 البعض الثالث تعلق بموقع قدميه على الأرض، أبدا لم يسع لارتداء مركوبه الخشبي بالغطاء الجلدي الفقير (القبقاب) الذي يحمله بين كفيه. كلهم عيون مبحلقة في ﺇنتظار ما يسفر عليه المشهد الغامض الغريب؟! وحينها سوف يقررون أن يكونوا من الفارين أم من المشاركين في البحث عن حقيقة شخصية ذلك الرجل شبه العار.. نعم هو رجل، أحدهم أقسم بالمصحف الشريف دون داع، أنه ذكر من الرجال الأشداء، فعضوه الذكرى المسكين وسط كومة دموية حمراء ﺇلى جواره، مع بقعة الدم المتخثرة في جسده بموضع العضو، يشي بقوته وشبابه؟!.. وهو ما يلاحظه الجميع، ولم يضف جديدا!

شغلتهم لفترة حمية البحث عما اقترفه ذلك الشاب العفي من منكرات، ربما الزنا والعياذ بالله، وإلا لماذا قطعوا عضوه؟ نبيه من بينهم فضل التأكد وأخبرهم بخبرته في بيان الزاني والزانية بفحص العضو للرجل أو للمرأة، ولأنهم يعرفونه جيدا، فهو يعمل ضمن من يستقبلون الرجال في الحمام الشعبي القريب، وكثيرا ما يتسلل ﺇلى حمام السيدات، فاكتسب خبرة التعرف على الأعضاء كلها وبطريقته التي هم لتنفيذها فورا.. التقط قطعة اللحم الصغيرة اللينة، تشممها، ثم فحصها بناظريه بعد أن عصرها بقوة كفه اليمنى، ويقي يفكر حتى انتهى وحده ليعلن براءة الملقى أمامهم من كل دنس.. "لم أر ولا حتى نقطة مني جافة!".. قالها وهو يلقي بعضو الرجل بطول ذراعه!

شغلهم متابعة البحث عن الأسباب التي دفعت من فعلوا مع الشاب الجميل تلك الفعلة، اعتنوا بسبب آخر للتحريض عليه وتعليقه في رجل حمار! كانت أقرب التفسيرات، أن يكون من المخادعين الذين يرمون بالكلام حلاوة وطلاوة وهو في حقيقته نصاب ومحتال.. فكان اﻹنتباه ﻹقتراح ذلك الرجل القصير المكير، المعروف عنه الدهاء والخبث، طلبوا منه فورا أن يثبت لهم ما يدعي لو كان صادقا؟ حالا اقترب أحدهم من الملقى في صمت، وتأمل ملابسه المصنوعة من الصوف، لا أكثر من قميص صوف أزرق، وهو ما يرتديه الميسورين من الناس، فلوى شفتيه وقال: "لو كان كما ظننت لارتدى قلادة من الذهب أو الفضة، حتى من باب النصب وزرع الثقة فيه"

اندفع ثالث أكثر خبثا، قال: "ذهبنا بعيدا في احتمالات كثيرة، ولم نبحث في اﻹحتمال القريب.. ٳن يكن من اللصوص الفجرة في منتصف الليل والناس نيام".. فسألوه كيف يتأكدون من فكرته؟ قال: "سوف أفتش قميصه".                                             

****                                                                              

دخل الجميع مرحلة جديدة من الحيرة فور تفتيش المسجى أمامهم. ما أن بدأ أحدهم يعبث في قميص الشاب حتى أخرج كم غير قليل من الكراريس، وجهاز غريب الشكل.. فلا الحلاق عرفه ولا خادم الحمام الشعبي، ولا أحد غيرهما تعرف عليه. ٳنشغلوا طويلا بالأمر يتحاورون ولا حيلة لهم ولا على المسكين المقيد برجل الحمار الخلفية! وضحت علامات الدهشة والحيرة وشاركهم فيها الشيخ ٳمام المسجد لفترة قليلة!

******

2- ما رواه الروائي

 (جلست أنا الروائي المخضرم أحاور تلك الخاطرة الرجاء، فكرتي التي أتمنى لو أنجزها في رواية، ماذا يضير لو تأخر ملاك الموت قليلا حتى أنجزها؟! ربما أنجز نصا يليق بمكانة الشيخ عبدالرحمن الجبرتي، ما يتيح لي فرصة الولوج في دواخل وأسرار فترة من أكثر فترات البلاد حيوية..

خطت فقرات قليلة، توقفت عن الكتابة.. همست لأذني: (تلك الكلمات لا تصلح بداية نص فني وٳبداعي؟ أشعر أنني أفترب من نص تقريري ومدرسي، لا يصلح أن يكون بداية رواية ذات بناء فني، ولا حتى بداية لموضوع ٳنشاء في دروس اللغة العربية!)                                  

المشكلة أن رأسي لا يحمل فكرة ما، ولا مثيرات تشد اﻹنتباه، جذابة.. فلم تواتيني بعد قصة حب ولا حتى شطحات جنسية ولا بوليسة. فقط تعلقت بنتف مما قرأت من معلومات قديمة عن زمن ٳضطهاد العثمانيين وصراعهم مع المماليك على خيرات البلاد، ثم مجيء الحملة الفرنسية وقتل الأبرياء، ثم حكم والي من أذكي من حكم البلاد "محمد على".. وكلهم يسلبون البلاد تحت مظلة اﻹسلام. هذا ما يردده الفلاح والتاجر والحمار السايس وقبلهم مجموعة أصحاب العمم من مشايخ الأزهر وطلابه.   كلهم معا يتحاورون بعيدا عن أذن وعيون الأنفار والخفر والأجلاف والعسس وغيرهم.. حتى بدت لي البلاد على شقين، شق كبير العدد قليل الحيلة من الفلاحين محط مطمع الجميع وما عليهم سوى حماية حيواناتهم ومخازنهم بالدهاء.. وشق في طبقة فليلة العدد تملك كل الحيل، وتملك السلطة والأرض والعسس، الطريف أن يجمع النفاق والمداهنة بينهما في الخفاء والعلن، ولكل منهم مبرراته!

حالة راودتني وتمتمت بها، لم يسمعني أحد، ولم أبح بها. بدت كأنها وخزات تشكشكني وحدي، لم أعد أستقر على مقعد، ولا يكفيني فنجانا من القهوة، ولا عشر فناجين، لا أملك القدرة على أن أخط كلمة واحدة أبدأ بها الفقرة الأولى. لم أعد أهنأ بنعاس عميق ولا بيقظة منتبهة! شغلني السؤال: "كيف أسرد عن مؤرخ، أنجز ما أنجزه، بأمانة القلم، ونقاء السريرة؟ "هل من المناسب أن أغفل تلك الأحداث الجسام التي عاشها، حتى أبرز سردا مختلفا عن شخصية مختلفة؟                             ما كان يدهشني ويدهش الجميع، كثرة ما مرت به الأيام بأحداثها على رأسه، ولم يعبأ بها.. حتى كانت تلك التي حدثت في أخريات أيامه؛ لم ينل تكريما عما خطه وأنجزه، بل نال اﻹضطهاد والعنت من الباشا محمد على والي البلاد، حتي ٳنه خرج ٳلى الحواري القريبة من جدران الجامع الأزهر يصرخ في وجه كل من يقابله: "قتلوا ولدي.. آه يا ولدي؟!         

 عن غير عمد وصلتني صورة سحنة الرجل، وصوت اللهاث من بين شفتيه، مع دمعة في مآقي العينين، لم تسقط ولم تختف، تلك التي بقيت طوال أخريات أيامه.."                           

 ذات مساء دون أن أدري وعن غير عمد ألقيت بالفنجان على زجاج المكتب، فطاشت القهوة على شاشة الحاسوب، بدا ما كتبته من أفكار عن "الجبرتي" مكسوة بالسواد. تشاءمت، في تلك اللحظة الغاضبة قلت لرأسي: "لماذا يا باشا محمد على، أنا أحبك.. والثوب الأبيض تسيء ٳليه بقعة صغيرة، سواء كانت دموية حمراء أو حقودة سوداء، والله العظيم كنت أحبك، لولا ما كان منك مع الشيخ المؤرخ؟!"

مسحت السواد، عدت وجلست أمام الشاشة ثانية، أتساءل: "أية بداية مناسبة تليق بالنص المنتظر؟ ربما تفضل الناس أن تراه وتقرأ عنه كما المتصوف الزاهد، أو المعطاء، بلا زلة لسان ولا رذيلة تذكر.. فيما ينشد البعض الآخر صفات ينوب عنهم فيها، كأن يبدو "الجبرتي" مغوار زمانه المقدام، حتى أنهم قصوا قصص تحدي فيها الوالي وٳنتصر، لم يبال!                                          

 بينما ترى الناس ما تراه فيه؛ يبقي هو المؤرخ الفحل المقدام في ظنهم، ما كان يبيت فوق مرقده وحده أبدا، ولا يغفل قبل قراءة ورد التحصن من الشيطان الرجيم، والصلاة ركعتين توسلا لله ، فقط توسلا، فهو من يجيب على سؤال زوجته الدهشة كل مساء، من كثرة طقوسه قبل وبعد تناول العشاء، وحتى يفبض على عبنيه بجفونه بشدة قبل النوم.. يرد ببساطة ودون تفكير: (توسل الضعيف للقوي فقط.. بلا أية طلبات، ليست عندي طلبات ، وحده يعلم ما أخفي وما أعلن) تعترض زوجته قائلة: ""تتحدث معي كما تكتب".. ثم أزاحت طبلية العشاء، نهضت ولم تتابع تناول طعامها.. لم تعد تسأله عما يشغله ويجول بخاطره، ولا سر ما يفعله.. ٳكتفت أن توفر له مبتغاه كل ليلة.. تعلم أن البيت مملوء بالخدم والجواري، وهي زوجته ٳلى جواره.. مع ذلك لا يبيت ٳلا مع فانوس كبير يحوط شمعة كبيرة في أحد أركان الغرفة.. وأكثر من خادم عند باب غرفة النوم، يحملون النبوت والعزم على ضرب من يقترب! وهو ما أدهشها وهي العروس الصغيرة قليلة الخبرة، فلما ألحت في السؤال أجابها قائلا: (من يقول الحق عليه أن يتحوط من الأعداء!).           

 *******    

لم تفهم الزوجة الصغيرة ما يردده الشيخ، ولم تجد العزاء ٳلا بتنفيذ نصيحة أمها التي أخبرتها قبل رحيلها ٳلى بيت الزوجية وقالت: "سوف تتزوجين رجلا تعلوه العمامة وهو ليس بشيخ.. قليل الكلام وهو أكثر أصحابه نشاطا في كتابتها.. له طقوسه الخاصة وليس بمنفلت أو فاجر.. ليس عليك سوى تجهيز الطبلية وسريركما بما يحب"   

*******

3- ما رواه الجبرتي

نتف من هنا ومن هناك، هكذا بدأت كتابي، المتوقع أن يكون كبيرا، كبر ما كتبه "ابن ٳياس" و"ابن بطوطة"، وقد ٳطلعت عليهما من قبل. من الواجب أن تكون البداية مع طبقات البلاد؛  وصف طبقة الحكام من العنصر العثماني، دخلوا المحروسة لأول مرة عقب الفتح العثماني لمصر على يد السلطان سليم الأول، أعجبته ورشق على أرضها، واستقر في القاهرة.     تلاحظ لي أنهم احتفظوا بزيهم، وتقاليدهم ٳلى جانب غطرستهم، وقد امتازوا باعلان وبيان العظمة في الحديث والأفعال، على اعتبار أنهم سادة البلاد.. ومنهم جنود الأوچاقات العثمانية، وهم القادة وكذلك أصحاب الوظائف في الدواوين.. ثم أتبع أيضا قئة منهم اشتغلت بالتجارة، هم فلة وكأن التجارة مهنة معابة، وٳن قاموا بالكثير من العنف لامتلاك الأراضي.          

 أما طائفة المماليك؛ منهم من أصبح صديقا لي، كما كان والدي صديقًا لكثيرٌ منهم، لذا فقد أنجح في تأريّخ أيامهم منذ هزيمتهم أمام السلطان سليم الأول. بداية حديثي عنهم بظهور فرقتي الفقارية والقاسمية والصراع الذي دار بينهما.                                     

  ما عاصرته ورأيته من صراعات بين بعضهم البعض آلمني كثيرا، كيف لا أغضب؟ وقد رأيت أفراد كل طائفة يسعى لخطف وسرقة ونهب كل ما تقع عليه يدية من أملاك المصريين؟!   هكذا ببساطة يسرقون الحيوانات وينهبون المحال بل يضعون النساء المصريات حائلا أو حواجز بشرية لمنع تقدم أفراد الطرف الآخر! ولا تمنعهم صيحات النسوة ولا بكاء الأطفال من المصريين!

لم تكن بطولة مني ولا شجاعة، أن سمعت صوت امرأة تصرخ باسمي، فانتبهت أعدو بعيدا ظنا مني أن أحدهم يتقدم نحوي ربما لقتلى أو سرقتي على الأقل. وقفت بعيدا عن المعركة الدائرة في الميدان، انتبهت للصوت المستمر، ٳنه صوت "ميمونه" زوجة العجوز "على الله"، السقا، اتضح لي أنها في قبضة مجموعة منهم ولا أدري ٳلى أي القئتان. لم أتردد، عدوت نحوها، تعلقت بأذن كبيرهم أخبره بأنني الشيخ الجبرتي من شيوخ الأزهر.. بدا لي أنه نصف منتبها يسألني عما أريد وهو في حومة المعركة! أخبرته عن خادمتي التي يأسرونها، بلا اهتمام أشار لأحدهم، وفهم الملعون مطلبه، أفرجوا عن ميمونة التي حاولت تقبيل يدي بينما أدفعها دفعا بعيدا عن أرض المعركة! كم أرثي كثيرًا لحال المصريين؛ لا يجدون من يرفع الغبن والظلم عنهم؟!

أما طبقة المتعممين التي راجت، كونوا طائفة من طوائف المجتمع المصري على رأسها شيخ الأزهر، وقد انتظموا في مراتب تعارفوا عليها، فكان هناك مشايخ من الطبقة الأولى، وآخرون من الطبقة الثانية والثالثة. وربما أنا ممن ينتمون إلى هذه الفئة .                         

 وضح لي ما سوف أسجله قريبا، أن الظاهرة التي لا يخطيئها نبيه في أواخر القرن الثامن عشر، أن  تحول الكثير من هؤلاء العلماء والمشايخ إلى شريحة فعالة في النشاط الاقتصادي. زادت عندما صارت لهم حقوق النظارة على الأوقاف الخيرية! هل أذكر أن صديقي الشيخ السادات الذي أثرى من هذه الوظيفة أفضل النماذج لهذه الفئة الجديدة؟ فلما قابلت الشيخ حسن العطار وأخبرته فيما أفكر فيه بعد تحليل أحوال الناس وتحولاتهم خصوصا بعد هروب جنود جيش الشرق ليلا، ليلحقوا بقائدهم بونابرت عن طريق البحر، فارين كما فر قائدهم.عقب بعد أن شرد وهو يعبث في لحيته، أخيرا قال: "الظاهر الجلي الواضح أنك سوف تخسر كل من له قدمين على أرض المحروسة".. غلبتني القهقهة وأنا أفكر في اﻹجابة على سؤال قفز أمامي: هل توجد جيوانات لها قدمين فقط مثل البشر؟! وطرحته عليه وهو القارىء في علوم الحيوان؟ لما تأكد أنني جادا لمعرفة اﻹجابة ساخرا على نبوءته.. تركني وتقدم للصلاة أربع ركعات قبل صلاة العشاء... 

لم أغفل أبدا ما بان لي وانكشف، زاد غلو أمراء المماليك وعدوانهم، حتى اقترب أحدهم من أرض أحد الفلاحين، ثم أمر رجاله بعمل اللازم لضم زمامها ٳلي عزبته بالقوة.. حولوا مساقي المياه ورفعوا أسوار القش على الحدود الفاصلة!                                            

لم تنتفض القرية وحدها، ٳنتفضت كل "بلبيس" المدينة والقرى من حولها، دارت معركة معتادة لم ينتصر فيها الفلاحون، وٳن أنجزوا بعض اﻹصابات لأنفار الأمير المملوكي. ما شاهدته بعيني رأسي أن رأيتهم، وقد حضر وفد منهم إلى الشيخ "عبد الله الشرقاوي" وكان شيخاً  للأزهر وقتها، وقدموا شكواهم له ليرفع عنهم الظلم. غضب "الشرقاوي" وتوجه إلى الأزهر, وجمع المشايخ، وأغلقوا أبواب الجامع، وأمروا الناس بترك الأسواق والمتاجر. واحتشدت الجموع الغاضبة من الشعب وانا بينهم.. فأرسل "إبراهيم بك" شيخ البلد لهم "أيوب بك الدفتردار"، فسألهم عن أمرهم. فقالوا: "نريد العدل ورفع الظلم والجور، وإقامة الشرع، وإبطال الحوادث والمكوسات (الضرائب).. خشي زعيم الأمراء مغبة الثورة، فأرسل إلى علماء الأزهر يبريء نفسه من تبعة الظلم، ويلقيها على شريكه "مراد بك". وأرسل في الوقت نفسه إلى "مراد" يحذره عاقبة الثورة، فاستسلم "مراد بك" وأمر أحد رجاله (الغاصب) برد ما ٳغتصبه من أموال، وأرضى نفوس المظلومين. لكن العلماء التفوا حول الشيخ الشرقاوي، طالبوا بوضع نظام يمنع الظلم ويرد العدوان.        

اجتمع الأمراء مع العلماء، وكان من بينهم الشيخ "الساداتو"عمر مكرم" والشيخ "الشرقاوي" والشيخ "البكري" والشيخ "الأمير". وأعلن الظالمون أنهم تابوا والتزموا بما ٳشترطه عليهم العلماء. وأعلنوا أنهم سيبطلون المظالم والضرائب، والكف عن سلب أموال الناس، والالتزام بإرسال صرة مال أوقاف الحرمين الشريفين والعوائد المقررة إليهم، وكانوا ينهبونها. وكان قاضي القضاة حاضراً، فكتب على الأمراء وثيقة أمضاها الوالي العثماني وإبراهيم بك ومراد بك شيخا البلد.

رويدا زادت رائحة الثوم، بل طغت رائحة الجيفة، لعلها رائحة تشم ولا توصف، فزاد الهم والغم وطغى، بسبب ظهور مرض الطاعون في البلاد، خبرته الناس من قبل لكن هذه المرة كان أشد شراسة،  وٳلا لماذا طغت الرائحة النتنة والمقززة مخلوطة بروائح الجيفة؟! ماذا وراء تلك الروائح، أثناء وجود جنود الحملة الفرنسية في مصر، وأصبح السؤال المحير عند الجميع، وعندي أنا الشيخ الجبرتي كاتب الأحداث والتراجم ولست بالعطار الماهر، حتى قررت توظيف كل خبراتي في التحري لمعرفة السبب وراء طغيان رائحة الجيفة والعفن؟

علمت من التجار في السوق والفلاحات اللاتي تبيع البط والدجاج بجوار الحوائط، أن طغيان  روائح العفن والجيفة نتيجة تحلل الجثث الملقاة في الطرقات، لم تكن لعدم وفرة العلاج، بل بسبب أوامر بونابرت بقتل عددا من الأسرى المصريين، لتوفير ما يمكن أن ينفقه عليهم، ولأنهم أصيبوا بالطاعون، ثم ألقوا بالجثث فوق الطرقات حتى تحللت!

حرصت على مطالعة أهل العلم والتاريخ والساسة ممن سبقوني، ماذا قالوا وفعلوا مع الوباء.. أي جائحة أصابت البلاد؟ ربما أجد ما يقولونه عن غضب الله وٳرسال الوباء على المصريين، بسبب البعد عن الدين وانتشار المظالم بين الناس! أرددها عن اقتناع ورضا بقضاء الله! ما تألمت له أن الفقراء الفلاحين من المصريين هم من يقع عليهم ملاك الموت وقليلا ما ينال من أولاد الناس أو العثمانيين ولا حتى من المعتدين الفرنسيين.. نال الطاعون من الغلابة المصريين أكثر؟!                عرفت عن "ابن إياس" مقولاته عن الطاعون: "إذا دخل الدار يفنيها حتى يعلقوا مفاتيح الدار في رجل النعش".. وعن الفقيه والمؤرخ الأندلسي "لسان الدين ابن الخطيب" عن سبل الوقاية منه بوصفه مرضا معديا يقول: "ينتقل من الملابس والأكواب والماء وحتى قرط المتوفي".

رغم ذلك ظلت وجهة النظر الغالبة لدى الفقهاء والعلماء، أنه "بلاء من الله بسبب فساد العباد وظلم الحكام. تحيروا في أمره، حتى كتب عنه "ابن حجر العسقلاني"، الذي توفيت ثلاث من بناته بالوباء مؤلفا عنه بعنوان "بذل الماعون في فضل الطاعون"، لا يشير فيه إلى العدوى وإنما إلى كون المرض "وخز من الجن"!

أكثر ما أزعج أصحاب المحال والباعة بجوار الجامع والقادم للصلاة في الأزهر، حتى تشاجر الجميع مع الجنود الفرنساوية، لولا أن شهر الجنود بنادقهم ولولا تدخل الشيخ الجبرتي وصاح كي يهديء من روع الجميع: (اسمعوا يا جماعة الناس الطيبة، منذ ومين بدأ الفرنسيون في إجبارنا على عادات جديدة، وأنا أعلم أن العادات الجديدة غالبا متعبة وغير مقبولة، لكن لزما ولابد نعرف السبب.. السبب هو منع انتشار العدوى بالطاعون، بعد أن تفشي الوباء. صدرت الأوامر برش المياه على أتربة الطرقات، وتجميع مخلفات المنازل في أماكن بعيدة عن البيوت، ومنع الصلاة في الجامع الأزهر.." فلما هاجت الجموع وغضبت بسبب منع الصلاة بالذات، عقب االشيخ في ثقة يقول: (الضرورات تبيح المحظورات يا جماعة الخير)

لم أنس تلك الواقعة التي تشاجر فيها المصريين مع الفرنسويين، ليس لسبب ٳلا لاأنها أوامر من عسس بونابرت ولولا تدخلي لسيلت الدماء وغطت أرض الميدان كله. ولا أنكر أننا اكتسبنا خبرة جديدة فى موضوع مواجهة الجوائح وانتشار الامراض والابئة فيما بعد. وهو ما وضح وتجلى في فترة حكم الوالي محمد على، الذي حفظ الدرس وأضاف من عنده وأفكار بهض المخلصين له!

الآن أسجل ميزة للباشا العثماني فور توليه الولاية، وأقول الحق: (لكنني أرى ٳن المشروع الصحي لمحمد علي، كان نابعاً من خوفه على الجيش في حال تفشي الوباء) لكن هذا المشروع الذي بدأ بإقامة المحاجر حول المعسكرات، ٳمتد أيضاً ليشمل الموانيء في الإسكندرية والسويس.. ما جعلني أفكر في أمر الباشا والسر وراء تعظيم حال الجيش؟!

****

ما كان الشيخ عبدالرحمن الجبرتي يقرر أن يكف رصد وتسجيل كل جديد من الأخبار والأحداث، لولا أن وصله جثمان ولده "خليل" ذات صباح أسود، معبأ بالمشاعر المقبضة، كل نسوة سكان الحارة والبيت لطموا الخدود وصرخوا بكل كفاءة حناجرهن.. كما لم يستح الرجال من الصياح، بالتهليل والتكبير والدعاء على الظالم المتكبر، عليه غضب الله ورسوله.. فاعل تلك الفعلة السوداء.