يخوض الكاتب والمحامى والروائى «منتصر أمين» تجربة لا يمكن وصفها بالمغايرة أو الجديدة عن أعماله الروائية والقصصية الخمس السابقة، فبدأ رحلته الروائية بـ «الطواف» أو الباحث عن ذاته وسط كل الهموم التى تحوطه، ليعود برحلة ومغامرة أخرى فى « يحيى» والتى حاول من خلالها السفر بداخل النفس البشرية فى محاولة منه للكشف عن خباياها وجوانبها الخفية، لرسم صورة للمستقبل، وتليها «قيامة الغائب»، ثم «عين الهدهد» ليصل إلى «فاروق الأخير»، والتى صدرت حديثًا عن دار الرواق للنشر والتوزيع بالتزامن مع إقامة الدورة الـ ٥٢ من معرض القاهرة الدولى للكتاب.
يجد القارئ أن الكاتب منتصر أمين دائمًا ما يشغله الإنسان أو بمعنى أدق ما يدور بداخله من مشاعر وأحاسيس ومتناقضات، وأن هنالك دائمًا تساؤل خفى ما هى أسرار تلك النفس البشرية؟ ولما تقوم بهذا الفعل، فأعماله السابقة فى أغلب الأحيان كانت شخوصها درب من دروب الخيال، أما الآن فنحن أمام شخصية حقيقية عاصر البعض منا زمنها وقرأ عنها البعض الآخر وجسدت حياته العديد من الأعمال الدرامية، فمنتصر أمين فى «فاروق الأخير» أمام تحد فهو أمام شخصية تاريخية، هى شخصية الملك فاروق «ملك مصر والسودان»، فكيف جسد هذه الشخصية، وكيف روى حكايته من وجهة نظره، وكيف استطاع الخوض والكشف عن أدق أسرارها، فنحن أمام شخصية مليئة بالتفاصيل والأحداث ورحلات الصعود والهبوط، الوصول لأعلى درجات القمة والنفى، وسط صالات القمار والسهر، و«عقدة أوديب» و«سدة الحكم» كل هذا سيحكيه فاروق بنفسه فى أحدث روايات الكاتب ناصر أمين.
مفتتح النهاية
وعلى غير العادة بدأ الكاتب منتصر أمين روايته «فاروق الأخير» بالنهاية الأحدث وهى رحيل الملك فاروق ملك مصر والسودان، وبدأ الرواية بموافقة السلطات المصرية على دفن جسد فاروق فى مصر هذا الخطاب الذى كتب فيه «إن السلطات المسئولة فى الجمهورية العربية المتحدة قد وافقت على طلب تقدمت به أسرة فاروق – ملك مصر السابق- لكى يُدفن فيها وإن هذه الموافقة قد صدرت تعبيرًا عن سماحة الشعب فى الجمهورية العربية المتحدة ورحابة نظرته الإنسانية، فإن أرض مصر التى ضاقت بفاروق ورفضته ملكًا، تتسع له أمام خالقهم الذى يملك وحده بعد الموت حساب خطاياهم، وقد أخطرت سفارة الجمهورية العربية المتحدة فى روما لإصدار التصاريح اللازمة لنقل جثة فاروق».
بهذه البرقية بدأ «أمين» حكاية فاروق ليعود فاروق للمرة الثانية إلى أرض مصر ولكن فى هذه المرة جثة هامدة ليدفن فى ترابها وبداخل أرضها بعد أن اعتلى عرشها ويسرد أحداث ليلة الخميس ١٨ مارس عام ١٩٦٥ فى روما إيطاليا والتى دارت أحداثها فى أحد المطاعم الفاخرة والشهيرة «إيل دى فرانس» بروما، ونزول الشابة الحسناء من السيارة الكاديلاك ليتبعها «جلالة الملك» وقد تغيرت ملامحه فأصبح أكثر ضخامة، أصلع الرأس وشاربه المنمق، يرتدى بذلة رمادية اللون المصنوعة من الصوف الإنجليزى الفاخر، وحذاء إيطالى، تصحبه نسائم العطور الفرنسية التى تسلب العقول والقلوب معًا، يرتدى نظارته الطبية الدائرية الشكل، وفى يده سيجار كوبى، هكذا وصف الكاتب «منتصر أمين» الملك فاروق بلغة رشيقة وسلسلة تجعلك ترى المشهد الأخير فى حياة الملك فاروق، وتشم روائح عطره الفرنسى تخترق أنفك وتشعل روحك المتلفة لاستكمال الحكاية والتى تنتهى على إحدى طاولات المطعم الفاخر الشهير، بعد أن انكب مغشيًّا عليها فور شعوره بضيق فى التنفس أدى إلى إحمرار وجهه، لينقل على الفور إلى مستشفى سان كاميلو، لتذهب كل محاولات الطبيب الذى صاحبه فى عربة الإسعاف سدى خلال محاولاته فى إنعاش قلبه، لتخرج أنفاسه الأخيرة فى تلك العربية الصغيرة وقبل أن يعبر بوابة المستشفى.
ويصحبنا «أمين» فى دائرة من الشكوك الأخرى هل مات فاروق بسبب «التخمة» أم أن وراء وفاته سرُ ما، اختفاء الشابة الحسناء فور شعوره بالتعب من المطعم، واختفاء أثرها، هذا بالإضافة إلى ذلك النادل المُدعى «أرماندو» والذى التحق بالعمل فى المطعم منذ شهرين وراء وفاة فاروق؟.
بين مقبرتين
فى ليلة الأحد٢١ مارس ١٩٦٥ وقف مرتضى المراغى أمام «مقبرة الفيرانو» بروما متسائلًا:"هل سيدفن فاروق هنا فى أرض غريبة؟ وأقبل بسؤال الأميرة فوزية:
- سمو الأميرة، كيف وافقتم على دفنه هنا؟
- الملك فيصل عرض أن ندفنه فى السعودية
- لماذا؟
- وأنت يا اسماعيل باشا كيف تسمح بذلك؟
- وافق عبد الناصر بعد وساطة الملك فيصل على أن نعود به لمصر، لكنه اشترط ألا يُدفن فى مسجد الرفاعى بجوار أبيه وجده.
- ولكن أين سيدفن؟!
- فى مقبرة إبراهيم باشا فى الإمام الشافعى.
هكذا استقر الرأى بعد موافقة عبد الناصر على دفن فاروق بمقابر الإمام الشافعى فى مقبرة إبراهيم باشا بعد أن كانت تنوى عائلته فى دفنه فى أرض غريبة، ليعود فاروق إلى أرض الوطن الذى عاش فيه وحكمه.
فعبد مشهد الدفن انتقل بنا الكاتب منتصر أمين إلى مرحلة جديدة من حياة فاروق وأعتقد أنها هى مرحلة البداية الحقيقة لبداية حكم «ملك مصر والسودان» ويعود بنا فى الأحداث إلى عام ٦ مايو ١٩٣٦ بميناء الإسكندرية وبالتحديد بعد مرور ١٠ أيام على رحيل الملك فؤاد، فكانت الباخرة التى تقل فاروق أمير الصعيد وملك مصر الجديد رست بميناء الإسكندرية ليبدأ فصلًا جديدًا فى حياة فاروق.
معاناة فاروق
ويصف الكاتب «منتصر أمين» مشاعر فاروق حين عودته لأرض الوطن بعد صدور أوامر بضرورة عودته إلى أرض الوطن فور رحيل الملك فؤاد حيث يقول «رغم مشاعر كثيرة تطاحنت داخل نفسه، مشاعر القلق من المجهول، والخوف من مسئولية عرش مصر، فقبل عدة أشهر أرسله والده إلى إنجلترا ليبدأ خطة إعداد كولى للعهد، وألحقه بالمدرسة العسكرية هناك والتى خُصصت لأبناء الأسرة المالكة والأسرات العريقة فى أوروبا وكان بصحبته أحمد حسنين بك بعد تسوية أموره المالية.
ويذهب بنا منتصر فى رحلة شيقة فى حياة فاروق ورواية للأحداث من وجهة نظره هو والتى يرويها لأول مرة، عن مشاعره، عن أهم محطات حياته، عن آلامه علاقته بأمه «نازلي» ونزواتها، لحظات السقوط والانهيار عزله ورحليه من مصر، تخليه عن العرش كل هذا استطاع أن يسرده الكاتب والروائى منتصر أمين فى لغة شيقة وسلسلة تجعلك لا تترك الكتاب إلا بعد أن تنتهى من آخر صفحاته، ومن بين أهم المقتطفات من الرواية التى تجعلك تتعرف عن مكنون وأسرار شخصية فاروق.
«لم يدر وقتها بنفسه، ولا يذكر ما حدث بالتحديد، فقط شعر بدموعه الساخنة تنهمر على وجنتيه، كاد أن ينهار لكنه سيطر على مشاعره بسرعة عندما تذكر أوراق زواج أمه وحسنين، انتفض واقفًا على الفور ثم صاح (أين السائق؟)».