في الصباحات الأولى لي بالمصلحة اعتدتُ الحضور أولا، قبل الجميع، أغلب الزملاء يتراخون في الحضور، ما بين التاسعة والنصف وحتى الحادية عشرة والنصف، يتناوبون على التغطية في أمور بعضهم البعض، كل من يحضر أولا موكل بالتوقيع لمن سيأتي متأخرا، يتفقون أحيانا ويتركون الأمر للظروف أحيانا أخر، أما أنا فلم يصبح لي رصيد بعد لديهم، كان لابد لي أن أوضع تحت الاختبار، لم يجربوا حتى سؤالي في سد ثغرات أيهم، لازال الوقت باكرا بالنسبة لي لأصل لهذه المنزلة لديهم، أصحو قبيل الموعد بحوالي ساعتين، أغتسل، وأرتدي ملابسي الرسمية حيث ينص قانون العمل بالمصلحة، وأنزل من فوري للشارع، لم أكن أتناول الإفطار على الأغلب حتى أتمكن من ذلك، أشتري جريدة الصباح، وأدخل المصلحة في تمام الثامنة متأبطا إياها وبعض أوراق بيضاء فارغة في حقيبة يدي، كنت سعيدا كوني أنجح يوميا لمدة شهر ونصف الشهر في الوصول قبل الجميع، إلا هي، السيدة "س" هكذا كانوا يطلقون عليها، لم أعرف قط اسما حقيقيا لها، أو كاملا بمعنى أدق إن كانوا قد استخدموا حرف اسمها الأول، وحدها كانت دوما هناك، تسبق الكل، حتى أنا في أيامي الأولى، هل كانت تبيت بالمصلحة؟، ساورني ذلك الخاطر حينما لم أفلح أبدا في الوصول قبلها، جربتُ أن أصل في السابعة والنصف وفي السابعة أحيانا، كانت دوما هناك، تلف وتدور بغرف المصلحة، صاعدة هابطة بلا كلل أو تأفف، شعرتها تعشق ما تفعل، كانت مهمتها محو الأسرار بشكل نهائي، فمصلحتنا رفيعة الشأن، لها كما لغيرها أسرارها الخاصة، ولا يجوز لأي كان خارجها الاطلاع عليها ولو بمحض الصدفة، فيما يخص عملي بشكل شخصي، وفي الأيام الأولى تحديدا، لم أكن أفعل شيئا يذكر، في الثامنة والربع تقريبا كنتُ أسحب الورقات البيضاء ذات الأسطر الباهتة من حقيبة يدي، أضعها بعناية وتنميق على سطح مكتبي، أطلب فنجان قهوتي الأول وأنتظر التعليمات بالهاتف الأرضي الخاص بي، غالبا لم تكن هناك تعليمات تخصني، في التاسعة والنصف كنتُ أنحي الأوراق جانبا، أفتح جريدة الصباح، أطالع على عجل العناوين الرئيسية، لم يحضر أحد بعد، في العاشرة أطلب قهوتي الثانية، أشربها غالبا في حضور زميل مكتبي الوحيد "شريف"، هكذا مصلحتنا، لها اثنان من الموظفين في كل مكتب، يتقاسمان مهام المكتب معا، حاولتُ في البدء فهم مهمتي من زميل مكتبي، استشعرتُ غضبا خفيا بدا عليه بسبب سؤالي، أو ربما هو شيء آخر لم أستطع تفسيره، تذكرتُ سريعا نصيحة صديق والدي، الذي رشحني للعمل بالمصلحة، لا تُكثر من الأسئلة فهي توقعك في مشكلات لا دخل لك بها، ولا تتطوع لفعل ما لم يُطلب منك، فهو تعد على حقوق وواجبات الآخرين، ابق على الحال التي يضعونك فيها دون شكوى، ولا تركل النعمة فتصبح من النادمين، على هذا الحال بقيتُ طويلا، أتصفح جرائد عدة تزداد كل يوم بفعل الملل، أما هي فكانت تجيء قبلنا جميعا، تدور بجميع الغرف تجمع كل الأوراق من على أسطح المكاتب جميعها، تتفحصها بعناية، تضع القليل في حافظة ورق تحملها دوما، والبقية فإلى آلة سحق الأسرار، كان لدينا بكل مكتب واحدة، يكبر ويصغر حجمها تبعا لأهمية الموقع الذي يشغله موظفو المكتب، وكم الأوراق التي يخلفونها، تضع الورقات ورقة خلف أخرى، تسحقها الآلة في ثوانٍ معدودة، أتأملها يوما بعد يوم، تُنصت لصوت الآلة، صوت الورق المنسحق وكأنما هو موسيقى، بل الموسيقى الوحيدة التي تأخذ روحها وعقلها معا، تُنهي المهمة من مكتب لآخر، وتعيد الكرة حتى نهاية اليوم، فمكاتب مصلحتنا كثيرة، تأخذ يومها كاملا، أتصور أحيانا أنها تعمل فترة إضافية كي تتمكن من سحق أسرارنا اليومية على أكمل وجه، أما حافظة الورق التي تحملها فتبقيها لآخر الأسبوع، يوم الخميس، تُفرغ محتوياتها بدون إعادة نظر، تضعها هي الأخرى ورقة بعد ورقة، ترتشف الصوت كسائر الأيام فتتبدى على وجهها بسمة خافتة، لم أتجاسر لأسأل "شريف" زميل مكتبي عن أي من هذا، بالمعاينة اليومية، وإلقاء السمع في ردهات المصلحة أو في المصعد عرفتُ، لا تهم الكلمات، نحن على ثقة من خلو مصلحتنا من أجهزة التنصت، وكيف لا، نحن نتعامل مع أهم الخبراء في الكشف عنها، يجيئون معا في فريق، نهاية كل شهر، ربما في مرات طارئة يجيئون أكثر من مرة، الخوف دوما من الأوراق، وحدها تُرسل هنا وهناك، وحدها تعبر الطرقات والمدن، أما السيدة "س" فكانت وحدها دون الجميع تطلع على خفايا كل مكتب، الأوراق "الهامة" التي كانت تبتدء في سحقها صبيحة كل يوم، وعلى مدار اليوم لم تكن لتخرج من مكتب لمكتب، كل مكتب يُغلق على أسراره في نهاية كل يوم، تفتحها هي جميعا في الصباح، تنظر للأسطر من تحت نظارتها الطبية نظرة خبير، تمنح الأوراق إيماءة هنا وأخرى هناك، وكأنما الأوراق تبادلها أو حتى تراها، تستسلم الأوراق البائسة في نهاية الأمر لقدرها المحتوم، الموت سحقا تحت أسنان ماكينة السيدة "س"، تدفع فقط بالورق للداخل ومن ثم تضغط الزر وينتهي الأمر، في الأشهر الثمانية التي قضيتها عاملا بتلك المصلحة -بلا عمل-، فكرتُ بشكل يومي في كتابة رواية عنها، الأوراق بالطبع، لم أعرف عن السيدة أي شيء ليكتب، امرأة متوسطة الطول، متوسطة العمر، متوسطة الاكتناز، ترتدي يوميا بدلة رسمية كاملة، قميص من الأبيض وجاكت وبنطال من الرمادي أو الكحلي، قليلا ما كانت ترتدي الأسود، شعرها قصير يقف عند منتصف عنقها، تصففه على طريقة رجاء الجداوي التي اعتمدتها عمرا، تصبغه دوما بالبني الداكن، لم أقترب منها قط لأتبين، ولكن هذا تصوري من بعيد، أما الأوراق ليست بأوضح لي من السيدة، غير أني أشفق عليها، أشفق على كل تلك الأشجار التي ماتت من أجلها، ثم عادت لتموت من جديد معها، في مصلحتنا، والتي ينصب عملها الأساسي على العناية بالبيئة، فكرتُ طويلا ما نوع الأسرار التي علينا محوها في كل صباح، بعد ثلاثة أشهر، وبعد أن بدأ شريف يأمن لي ويطلب مني بشكل شخصي التوقيع بدلا منه في دفتر الحضور، تجاسرتُ وطرحتُ السؤال فيما بيننا، يسحب الرجل الأربعيني نفسا طويلا من سيجارته الغليظة وهو يرمقني بدهشة عميقة، يخبرني بعد صمت طال حتى ظننتُ أنه لن ينتهي، أنه سيتركني لفراستي، في نهاية شهري الخامس أوقن أن الأمر لا يحتاج لفراسة من الأصل، كل ما يخص الجهات الرسمية هو سري بالقطع، لا يهم ما تحويه الأوراق، كل ما يخص شؤون بلد ما يخص أهله وحدهم، بالطبع لكل مكان تفاصيله، فليس لنا أن نأمن أحدا على أسرارنا خارج حدود المصلحة، بل خارج حدود كل مكتب، بمرور الوقت لم أعد مهتما بشأن السيدة "س" ولا حتى الأوراق المسحوقة، بات كل ما يشغلني داخل حدود هذا المكان، متى سيأمنون لي بشكل جاد حتى أبدا العمل فعليا، حتى ما يقوم به شريف من عمل لم أعرف عنه شيئا كل تلك الأشهر، هو فقط يجيء متأخرا كعادته، يمضي ساعتين أو أكثر معي بمكتبنا المشترك، يحمل حافظة ورق يأتي بها يوما دون أن يفتحها مرة واحدة أمامي، ويمضي حيث لا أعرف، يغيب حتى الثالثة ومن ثم يجيء، يشرب آخر سجائره لكل يوم ويرحل في تمام الثالثة والنصف، في هذا الموعد يبدأ معظم الموظفين بالانصراف، يمتد العمل – لمن يحتاج- حتى الخامسة من مساء كل يوم، بالطبع لم تكن لي حاجة، ولكني كنتُ أبقى، عادة لا يعمل لهذا التوقيت سوى مديري الوحدات، القدامى ذوي الخبرة والمناصب الرفيعة، كنتُ أبقى بشكل شبه يومي، ربما اعتاز أحدهم شيئا وأوكل مهمة أدائه إليً، ربما التفت أحد إلى وجودي، قد أحظى بصدفة تغير من موقعي ومكانتي هنا، ولم لا؟! ، ليس عليً سوى المثابرة، من خلف جدار غرفتي الزجاجية أراها لآخر ثانية، في كل يوم، السيدة "س" الدءوب ، لا ترحل قبل سحق أوراق الغرف العلوية، مكاتب المديرين والرؤساء، فهؤلاء أوراقهم لا تبيت للصباح، لابد التخلص منها فور نهاية كل يوم، لم يحدث أن أحظى بالمهمة المرتقبة، بل أيقنتُ تماما أن أحدا لا يشعري بوجودي هنا من الأساس، فهمتُ مع الوقت أن عملي جاء فقط مجاملة لتلك التوصية، ومن يعملون هنا أغلبيتهم مجموعة توصيات ومجاملات متبادلة، لا يهم، أنا أفعل ما عليً، أجيء في ميعاد الحضور وأرحل بعد ميعاد الرحيل أحيانا، أوقع في الدفاتر الرسمية بشكل منتظم، وأقبض راتبي كاملا في نهاية كل شهر، الجيران والأهل والمعارف يعرفون أني موظف بجهة مرموقة، خطيبتي تتباهى بعملي الذي لا تعرف عنه شيئا قط، وأبواي راضيان كل الرضا عني، في الموعد المحدد أسدد أقساط شقة المستقبل وسيارتي الجديدة، في كل المناسبات أهدي خطيبتي ما تتوقع وأكثر، وكل ذلك لا يتطلب سوى بعض من الصبر، ربما عليً اختراع بعض الأشياء للتسلية أو إضاعة الوقت، لا يمكننا هنا للأسف اللعب على هواتفنا مطلقا، ممنوع بأوامر عليا، وكذلك الأحاديث المطولة والتي لا تخص العمل من هاتف المصلحة أو هواتفنا الشخصية ممنوعة، الالتزام والانضباط ضروريان للبقاء هنا، بدأت مؤخرا دخول جمعية المنتفعين بالحضور المتأخر، أعتاز بعض ساعات النوم الإضافية من حين لحين بعد سهرة عائلية أو مع الأصدقاء، تحسنت علاقتي كثيرا بالزملاء بعدما بدأت في استخدام تلك الميزة، كما يشاع دوما أن المنضبط مراقبٌ أو واشٍ، لم تحظ السيدة "س" بمخلفات مكتبي قط، حتى شريف، كان يذهب بحافظة أوراقه في منتصف كل يوم ويعود بها فارغة، أظن ماكينة مكتبنا لسحق الأسرار تعطلت بفعل عدم الاستخدام، ليست هناك أحاديث مثيرة عادة في هذا المكان، عالم من الروتين اليومي المتكرر في كل شيء، غير أن ثمة حوارات عن حدث كبير تناثرت مؤخرا، صاحبَ ذلك وجوم مفاجيء على وجه السيدة "س"، في البدء شممتُ الرائحة عن بعد، كنتُ قد تدربتُ طويلا وجيدا من أجل استمراري هنا، على اللامبالاة، عدم الاكتراث بشيء، عدم اشتهاء الإثارة، ربما تبلدت حواسي الخاصة بمثل تلك المهام، على الأغلب كان ذلك ما حدث، غير أن الهمهمات قد علت، الأمر يخصها، السيدة "س"، هي ورطة إذن، ولكن أي نوع من التورط يمكن أن يحدث لها؟، بالطبع لم أتجاسر لأسال، فقط انتظرت، مارستُ لعبة الصبر التي بتُ أتقنها، في الأخير عرفتُ، ثمة أوراق شديدة الحساسية قد وقعت تحت يديها، تحت نظرها ومن ثم ماكينتها اللهوف، ثمة أوراق لم يكن يفترض أن يراها أحد مطلقا، مطلقا مطلقا، حتى هي، كانت بعض أوراق البرق المصور جاءت في نهاية اليوم، صاحب الأوراق كان بدورة المياه الخاصة بمكتبه، ربما كانت الساعة السادسة، لم أعرف على وجه الدقة كم كانت بالضبط، لكنها تعدت الخامسة على كل حال، ذلك الموعد الرسمي لكبار المصلحة، بنية حسنة وبشكل روتيني بحت، دخلت السيدة للمكتب الخالي، لم تكن تعلم أن صاحبه بالداخل، لم تكن تعلم ماذا تحوي الأوراق الخارجة من الماكينة، لم تكن تعلم أنه حتى لم يرها، باغتها الرجل خارجا من دورة المياه وهي تحملق في الأوراق، لم تعرف ماذا تفعل، ارتبكت ودفعت بالأوراق في الماكينة ومن ثم استأذنت في الخروج، أسبوعان بعد الواقعة، السيدة ممتقعة اللون دوما، زائغة عينيها وشاردة فيما لا ندري، في الخميس الثاني بعد الحادث وفي حوالي الخامسة والربع كنتُ ألملم أوراقي الخالية لأضعها في الحقيبة حينما سمعتُ الصوت، صوت غليظ ومرعب، لم يسبق لي أن سمعتُ له شبيها من قبل، كنتُ وحدي بالمكتب كالمعتاد، خرجتُ مندفعا بلا تفكير، رأيتها في الأعلى، أو ما تبقى منها في طريقه للخلاص، كانت السيدة "س" قد سحقت نفسها بأكبر آلات السحق، دقائق طوال مرت دون أن أتمكن من الحركة، نصف السيدة وأكثر قد تم سحقه بالفعل، ما تبقى منها لم يكن ليصلح للحياة حتى أهرع إليه، انتهت المهمة أمامي كاملة، بعد وقت لا أعرف حجمه جذبتُ باب مكتبي بهدوء وحرص، أغلقته بعنايه ومضيتُ على أطراف أصابعي، في الأشهر التالية سمعتُ روايات لا حصر لها حول اختفاء السيدة "س"، أيدتها جميعا بإيماءات وإشارات ليس إلا، رأيت السيدة الجديدة الموكلة بتأدية مهمة السيدة "س" والتي لم أعرف لها اسما قط، تعمدتُ عدم التركيز معها، أمضي عابرا بسرعة نحو غرفة مكتبي، عدتُ للمجيء باكرا قبل الجميع، أجلس بمكتبي في صمت حتى يجيء الزملاء، أشرب فناجين قهوتي واحدا تلو الآخر على مدار اليوم، أطالع تفاصيل الجرائد بعناية، لكني لم أبقَ يوما لبعد الثالثة والنصف .
ثقافة
السيدة "س" وماكينة سحق الأسرار.. قصة قصيرة لـ"إنجي همام"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق