المشهد الصادم في بيروت الآن أن النّاس بدءوا يتحدثون أحاديث المجاعة، وكيف أنهم كثيرا ما يأوون إلى فراشهم وبطونهم خاوية. هذا لبنان الغريب في غربته لم تعد أحاديث أهله عن جودة التعليم وتنوع اللغات الأجنبية في المدارس وآفاق المستقبل للأجيال الشابة بعد أن أوقفت العائلات تعليم أبنائهم وقد قرصهم الجوع ولم يعد هناك ما يبيعونه لشراء الغذاء وسدّ رمقهم. لبنان ليس بخير يا أهل العرب والعجم؛ يقولها موظف يعمل على التاكسي بعد الدوام ويحكي متحسّرا كيف أن راتبه الشهري لا يكفي ثمن كرتونة بيض!
وتروي نساءٌ أنهن يتخذن تدابير استثنائية مؤلمة للاقتصاد الذاتي في ظل غياب اقتصاد وطني، حيث يلغين بعض وجبات الطعام، وما أقسى ذلك على الأمهات قبل الآباء، أو يشغّلن أطفالهن في أعمال هامشية حيث لم يعد هناك سبيل للاستدانة أو الاقتراض كما أنه لا تتوفر إجراءات من الدولة للحماية الاجتماعية. وقد تم تقليص الدعم مع انخفاض احتياطيات العملات الأجنبية من 30 مليار دولار في بداية الأزمة في أكتوبر 2019 إلى نحو 15 مليار دولار حاليا. وما يضاعف من معاناة الناس هذه الأيام الانقطاع الدائم للكهرباء والنقص الفادح في الأدوية، خاصة للأمراض المزمنة، في ضوء تفاقم أزمة كورونا حيث يزداد الوضع الصحي سوءا يوما بعد يوم.
وللجوع والخصاصة والمرض فتن تميت الحسّ المرهف وتنحل الذهن وتحوّل الإنسان إلى وحش كاسر!
وكانت الساعات الماضية مضنية على أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت أغسطس الماضي، حيث كانوا يتوقعون رفع الحصانة وملاحقة الوزراء السابقين النواب المُدّعى عليهم في القضية بعد طلب قاضي التحقيق ذلك من هيئة مجلس النواب؛ لكن القرار خرج مخيبا لآمال هؤلاء المكلومين ومضاعفا لآلامهم وأحزانهم حيث طلب مجلس النواب ملخصا بأدلة الاتهام الموجهة للنواب الثلاثة كشرط لرفع الحصانة. وقبل ذلك، ظلت أعين الأهالي معلّقة على تحرك العدالة أملا في إنصافهم، متصورين أنه لا حصانة لأحد أمام دماء أبنائهم التي سُفكت في انفجار المرفأ.
ومع ذلك، تظل بيروت "ست الدنيا" المستسلمة بشيء من الخدر إلى أزمتها الحالية على أهبة الاستعداد لالتقاط أي فرصة تلوح أمامها لتقوم من تحت الموج الأزرق وتعود حقل اللؤلؤ وميناء العشق من أجل الحب... من أجل الشعراء، من أجل الخبز، ومن أجل الفقراء كما يقول نزار قباني. ما أعجب هذا الشعب الذي تقتله السياسة ويحييه الحب. مازال مفتونا بالحياة يلتقط أنفاسه ويمسح دموعه ليشدو بكوبليه للعندليب أو يلقي نكتة لعادل إمام. معجون هذا الشعب بالبهجة، يملأ جنباته الحنينُ إلى معاودة السهر في الفنادق والمطاعم، والغناء في المهرجانات، وعتق القلب من سجن الأحزان ليهفو من جديد إلى صوت فيروز حتى تعود للصباحات بهجتها وللأيام زهوتها.
يسترجع اللبنانيون المخضرمين سنوات الحرب الأهلية عندما كانوا يعانون من شحّ المواد الغذائيّة، ويتذكّرون أن السكّر هو المنتَج الوحيد الذي كان يتوفَّر بكميّة محدودة في شكل قوالب يكسرونها لإعداد القهوة والحلويات. لم يعد حتى السكر متوفرا الآن ليغير طعم أيامهم المرّ.
أهل لبنان يشتكون من الفساد ويقولون بلكنة مصرية "أنه أصبح للركب". ملّوا الاحتجاجات ولم تعد تُجدي التظاهرات في شوارع لبنان وقطع الطرقات في مناطق البلاد. ولكنهم يعلمون رغم اليأس أن أي خطة لإنقاذ بلدهم لا بد أن تنبع من إرادة جماعية لقادتهم حتى يُكتب لها النجاح وليس من إرادات خارجية ودولية. مفتاح الباب مازال ضائعا لذلك سيظل لبنان تائها لحين، يبحث عمّن يخفي المفتاح حتى يتمكن من فتح الطريق أمام تنفيذ الإصلاحات اللازمة. ومفتاح الباب للخلاص في أيدي القادة اللبنانيين الذين عليهم إظهار الإرادة والقدرة على تنفيذ الإصلاح وإنقاذ البلاد.
لبنان الذي كان مضرب الأمثال بنظامه التوافقي وأدواته لتسوية التناقضات الداخلية والصراعات وخروجه من الحروب الأهلية بما يشبه المعجزة غرق منذ انفجار الميناء في بحر الزيوت شديدة الاشتعال ويحتاج الآن وأكثر من أي وقت مضى إلى دولة وطنية وقيادات فاعلة وليست معطّلة تستجمع كل مكامن القوة في جينات هذا الشعب العاشق للحياة للتوصل إلى حل غير تقليدي -كما تعودنا من لبنان على مر تاريخه- ينتشله من أزماته المعقدة ويوفر الخبز للبطون الجائعة ويعيد الاعتبار لليرة الضائعة ويمسح العبرات من العيون الدامعة!