فى عام 1933 تعجب المصريون حين غنى محمد عبدالوهاب «النيل نجاشى.. حليوة أسمر» فهم كانوا يعرفون «النجاشى ملك الحبشة» الذى أحسن استقبال المهاجرين المسلمين ثم أسلم، لكنهم لم يعرفوا سبب وصف النيل بـ«النجاشى»! وفى تفسير لمؤلف الأغنية أمير الشعراء أحمد شوقي أن النجاشى فى اللغة الأمهرية يعنى «الحاكم»، وقد وصف النيل بأنه "نجاشي" لعظيم أثره فى حياة مصر والمصريين منذ أيام الفراعيين العِظام منذ سبعة آلاف سنة وحتى يوم الناس هذا.
وقد كان يُطلق على ملك الحبشة منذ مرحلة ما قبل الإسلام "النجاشي"، ولقد توجه المسلمون الأوائل إلى الحبشة في هجرتهم الأولى لأنه كان فيها ملكٌ لا يُظلم أحدٌ عنده قبل هجرتهم الثانية إلى يثرب، وأرسلت "قريش" وفدًا من رجالاتها وسادتها إلى "النجاشي" لتسليم الفارين من المسلمين إلى الحبشة، فرفض تسليمهم.
هذا هو ما كان من حاكم "نجاشي" الحبشة في غابر الأزمان .. مواقف تنضح بعدله وعدم الجوْر والظلم، فما بال الأحباش الجدد بداية من حاكمها ومرورًا من يتحلقون حول نظامه المتهاوي ونهايةً بمستشاريه الإعلاميين والمتحدثين باسم حكومته ونشطاء الدبلوماسية الشعبية يقومون بتلك الألاعيب البهلوانية في المفاوضات حول سد "النهضة"، والذي يريد النهضة لأثيوبيا والموت لمن عداها، رغم أن سمت النهر أنه كان ولا يزال وسوف يظل يجري بين دوله المتشاطئة إلى يوم القيامة، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى.
لقد بدأت مصر في عهد الرئيس السيسي بالاعتراف في حق أثيوبيا في التنمية بشعورٍ يملؤه الثقة والأخوة والمحبة التي تجمعنا بأفريقيا عمومًا وبدول حوض النيل خصوصٍا، وتم توقيع اتفاق المبادئ في مارس من العام 2015، اعتقادًا بأن توقيع هذا الاتفاق سوف يؤدي إلى مزيد من التعاون الخلاق في كل المجالات الزراعية والكهربائية والصناعية، إلا أن أثيوبيا لم تسعَ إلا للحصول على هذا الاتفاق، الذي تلاعبت به منذ اليوم التالي لتوقيعه، سواء في عدم اللجوء للمكاتب الفنية لاستكمال دراسات السد، وتأمين جسم السد، وتبادل المعلومات بشأنه، ومضت في تحركات أحادية في الملء الأول للسد الصيف الماضي، وكأنها تعلن الحرب على مصر والسودان.
إن أثيوبيا لا تذكر من اتفاق المبادئ إلا سطريْن اثنيْن وهو عدم اللجوء لتدخل أي طرف دولي إلا بموافقة الدول الثلاث الموقعة على الاتفاقية، وهى ترفض أي تدخل، سواء الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الجامعة لعربية، هى لا تطمئن سوى للاتحاد الأفريقي الذي يتموضع مقره في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، وتعلم أنها من خلاله تستطيع فرض إرادتها، وليس السعي للوصول إلى حل لأزمة "السد"، وكأنه كُتب على مسار المفاضات التي جرت لعشر سنوات أنه مسدود بفضل التعنت الأثيوبي.
وبتعنت واضح من إثيوبيا.. أعلنت هذا الأسبوع بدء عملية الملء الثاني للسد في تحدٍ سافر وانتهاك واضح لكل القوانين والمعاهدات الدولية، سواء المتعلقة بالأنهار الدولية العابرة للحدود أو غيرها، ومن عجبٍ أن أثيوبيا فعلت ذلك في الوقت الذي لجأت فيه دولتا المصب مصر والسودان إلى مجلس الأمن لعقد اجتماعٍ عاجل لمجلس الأمن، في محاولة للهروب للأمام لفرض الأمر الواقع على المجتمع الدولي.
وعلى ما يبدو أن النظام الإثيوبي يحاول التعتيم على جرائم وانتهاكات حقوق الإنسان في الداخل والأزمات السياسية التي تحيط بحكومة أبي أحمد بعد فشلها في السيطرة على إقليم تيجراي. إن تهاوي الجيش الأثيوبي الحكومي الذي ينتمي معظمهم إلى الأمهرة أمام جبهة تحرير "تيجراي" قد مثل ضربة قوية لأبي أحمد ونظامه، بل وانتخاباته التي لم يعترف بها أحد، وأُجريت على 40% من الدولة الإثيوبية التي تتنازعها 30 عرقية مختلفة، لذا لم يبقَ في يد آبي أحمد سوى ورقة السد التي يناور بها في الداخل الأثيوبي ليجمع أكبر عدد من المؤيدين خلفه خشية تداعي نظامه، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب مصر.
لكن من المؤكد أن مصر لن تترك حقوقها المائية وأعلنت بشكلٍ قاطع رفضها التصرفات الأحادية من الجانب الإثيوبي، كما أن الدولة المصرية ستكون مستعدة للتعامل مع كافة التبعات السلبية للتصرفات الأحادية في ملف سد النهضة. وها نحن على مرمى ساعات قليلة من انعقاد مجلس الأمن الدولي للمرة الثانية لمتابعة ملف سد النهضة بطلب من مصر والسودان، ويجب على المجتمع الدولي أن تيحمل مسئولياته أمام التعدي الإثيوبي على القانون الدولي، وهو ما يهدد السلم والأمن الدولييْن.
إن الدولة المصرية قادرة على التعامل مع كافة السيناريوهات والتبعات السلبية للتصرفات الأحادية للجانب الأثيوبي في ملف سد النهضة، وأمامها كل الخيارات متاحة، لأن ملف السد يتعلق بقضية النيل، ولم تواجه مصر عبر تاريخها تحديًا وجوديًا بمثل هذا الحجم وهذه الضخامة، ومن المؤكد أن كل هذه الاعتبارات لا تخفي على صانعي القرار المصريين أحفاد "كيميت"، والذين يستطيعون تحرير النيل مما يقيد جريانه في الوقت المناسب.
إن مصر دولة كبيرة في محيطها الحيوي الجيوسياسي، وإذا كان "هيرودوت" قد قال قديمًا "مصر هبة النيل"، فإننا نعلم كذلك أن "مصر هبة المصريين"، والمصريون قائدًا وجيشًا وشعبًا ودبلوماسية لن تسمح بالتفريط في ماء النيل مستخدمةً في ذلك كل السُبل حفاظًا على الروابط بين الأشقاء الذين يحاولون استفززانا بأي شكل .. ولكن يجب ألا يراهنوا على صبرنا إلى ما لا نهاية .. وانتظروا إنا منتظرون.
وإذا كان النيل "نجاشي" كما ذكرنا في صدر هذا المقال .. فإن اللي هيحرم مصر منه لسه "مجاشي"..!