يواجه المرء عبر حياته العديد من الأسئلة التي يطرحها عليه الآخرون والتي يطرحها هو علي الآخرين، و أيضا التي يطرحها علي نفسه، و في كثير من الأحيان لا تكون إجابات تلك الأسئلة جاهزة، أو أن تكون جاهزة ولكنه لا يريد الإفصاح عنها، أو أن يكون الحصول عليها ممكنا و لكنه يخشى مغبة السعي إليها.
ويفيض تراث علم النفس بالعديد من الحقائق المتصلة بمثل تلك المواقف لعل أهمها أن السؤال الذي يفتقد الإجابة يثير قدرا من التوتر لدي صاحبه، و أن هذا التوتر يتزايد وفقا لأهمية السؤال، و يظل قائما متزايدا إلي أن توافر إجابة مقنعة.
ولا تخلو برامج تدريب العاملين في المجالات الدبلوماسية والأمنية من برنامج متخصص ضمن برامج علم النفس السياسي يهتم بإكساب المتدربين مهارات التصرف حيال الأسئلة المحرجة أو بالأحري تكون إجابتها محرجة لسبب أو لآخر، وتعد استراتيجية التزام الصمت أو "لا تعليق NO COMMENT" ضمن الأساليب الشهيرة في هذا المجال، و غني عن البيان أن المتدرب في هذه الحالة يعرف أنه بصمته يثير غموضا مقلقا و لكنه قد يكون مقصودا بل و مفيدا، أو يتلافى إفصاحا يراه ضارا؛ و علي أي حال فإن الصمت يكون عادة صمتا مؤقتا لا تلبث بعده أن تعلن الإجابة مصحوبة بتبرير لالتزام الصمت.
غبر أن الأمر يختلف كثيرا إذا ما انتقلنا ذلك "الصمت المؤقت" من مجالات الدبلوماسية والأمن القومي، و ما تقتضيه الممارسات في تلك المجالات إلي "صمت دائم" في مجالات إدارة الحكم أو العلاقة بين السلطة و جماهيرها.
ثمة العديد من الأسئلة "المحرجة" تطرحها الجماهير بحثا عن إجابة عند من بيدهم مقاليد الأمور؛ و قد يبدو لهؤلاء أن السبيل الأيسر لتجنب الحرج هو مصادرة الأسئلة من المنبع، وذلك من خلال أساليب يعرفها جيدا المتخصصون في علم النفس الإعلامي، من تلك الأساليب مثلا "حرف الانتباه" بمعني توجيه الاهتمام الجماهيري إلي أمور أكثر إثارة و لكنها بعيدة عن مواطن الحرج، أو "التعمية" بمعني إسدال ستار كثيف حول كل ما يمكن أن يثير تساؤلا محرجا, أو "التخويف" بمعني ترسيخ فكرة أن مثل تلك التساؤلات المحرجة إنما تحركها رغبات شريرة لدي أعداء الوطن أو الدين لتدمير ثوابتنا الوطنية أو مقدساتنا الدينية؛ فإذا ما تمكن سؤال من هنا أو هناك في التسرب عبر حواجز حرف الانتباه و التعمية و التخويف؛ كانت الاستراتيجية المثلي هي "الصمت التام".
لقد حققت تلك الأساليب في بلادنا و لحقبة طويلة نجاحا ملحوظا في كثير من الأحيان مما أغري السلطة بمحاولة التشبث بها، وشيئا فشيئا امتد نطاق استخدام استراتيجية "الصمت التام" رأسيا ليشمل كل مستويات السلطة من أعلي قممها إلي أبسط الموظفين التنفيذيين، كما امتد أفقيا ليشمل أسئلة كان يمكن الإجابة عنها دون أدني قدر من الحرج؛ وأصبحت المبادرة بالإجابة المباشرة علي تساؤلات المواطنين كما لو كانت أمرا ينتقص من قدر صاحبه و أصبح التساؤل كما لو كان أمرا يخرج بصاحبه عن مقتضيات الأدب و اللياقة و شاع الميل للتكبر و التجاهل بحيث الأمر يكاد يشمل الجميع.
وغابت عن الأذهان – و خاصة بعد ثورة يناير- حقيقة أن الزمن قد تغير و دخل العالم عصر ثورة الاتصالات, و من ثم لم تعد مثل تلك الأساليب علي فاعليتها القديمة، فمهما كانت التعمية محكمة، و مهما كان التخويف مرعبا، و مهما كان حرف الانتباه متقنا؛ فسوف يتولى آخرون ربما من خارج الحدود مهمة النبش عن الأسئلة المحرجة و طرحها بل و الصراخ به بالصوت و الصورة علي مرأى و مسمع الجميع. و لو لم يقدم المسئول إجابة ما و آثر التزام الصمت و التجاهل، أو أجاب إجابة غامضة متكبرة فسوف يسمع الجميع العديد من الإجابات و التفسيرات التي لا قد تكون أكثر حبكة و أشد إقناعا بصرف النظر عن صدقها أو ملاءمتها.
ثمة قانون من قوانين السلوك الثابتة في تراث علم النفس مؤداه أن الموقف الغامض يثير من القلق و التوتر ما تتفاوت قدرات الأفراد في تحمله، و أن تلك المواقف الغامضة بما تحمله من تحد و إحباط للجماعة و ما تخلقه من مناخ موات لانتشار الشائعات؛ قد يدفع بالجماهير إلي انفجارات عنيفة مدمرة قد لا تكون محسوبة مخططة في البداية، و لكنها سرعان ما تجد عادة من يركب الموجة.
خلاصة القول؛ إن الجماهير دائما في حاجة لمن يقدم لها تفسيرا مقنعا شفافا لما تعاني منه، و أن حالة الاحتقان و التوتر الناجمة عن التجاهل و التكبر قد تستمر طويلا و لكنها قد تنفجر فجأة إثر شرارة غير متوقعة، لتتحول إلي عنف تلقائي غير مخطط، قد يجد في غيبة تنظيمات سياسية وطنية قوية ، من يدفع به إلي تدمير كل شيء ، هكذا يقول العلم فضلا عن أحداث التاريخ.